رياض محمد*
في يوم من أيام العام 2006 ظهر اللواء جهاد الجابري في لقاء على شاشة العراقية وهو يتحدث عن جهاز جديد وعجيب قادر على كشف المتفجرات وغير المتفجرات، ليبشر العراقيين بنهاية العبوات والسيارات المفخخة والانتحاريين الذين مزقوا البلاد اربا.
مرت ثلاث سنوات واصبحت احد الصحفيين العاملين في غرفة اخبار مكتب النيويورك تايمز في بغداد. خلال هذه السنوات سمعت قصصا عن كشف هذا الجهاز للزاهي وللعطر من بين اشياء اخرى. وفي يوم ما من ايام عام 2009، قضيت نهارا كاملا في وزارة الداخلية بما في ذلك لقاء مطولا دام ساعتين مع المفتش العام للوزارة حينها عقيل الطريحي.
كان مكتب الطريحي قد انتهى من اعداد تقريره السنوي عن الوزارة الذي حولته الى تحقيق صحفي ظهر في النيويورك تايمز.
كان الطريحي يعمل حينها - من بين عشرات او مئات من التحقيقات - على قضية ظن ساعتها انها زيادة في اسعار شراء جهاز كشف المتفجرات. كان يعتقد ان الجهاز يكلف 10 الاف دولار لكن الفاسد الذي اشتراه حول سعره الى 50 الف دولار. ولسبب ما حذف موضوع هذا الجهاز من التحقيق الذي نشرته النيويورك تايمز.
حينها كان نائب مدير مكتب النيويورك تايمز في بعداد صحفي بريطاني اسمه رود نوردلاند، نصحني بكتابة مدونة عن الموضوع في مدونة الحرب التي تصدرها النيويورك تايمز، لكني امتنعت لظني انه يستحق اكثر من مدونة.
وبعد اسابيع جاءني رود وقال انه يريد لقاء الجابري. وشرح قائلا انه ذهب الى الجنرال الامريكي المسؤول عن التنسيق مع وزارة الداخلية وان هذا الجنرال اخبره ان ما يسمى بجهاز كشف المتفجرات هو مجرد لعبة انتشرت في التسعينيات في الولايات المتحدة على اساس انها قادرة على ايجاد كرات الغولف! وانها لا تساوي اكثر من 25 دولارا! وان الجهاز الذي استورده العراق محور عن هذه اللعبة وهو مزيف 100%!
لم اصدق اذني! كنت مستعدا لتصديق ان الموظف العراقي يبالغ بسعر الشراء ليحصل على رشوة لكنني لم اكن اتصور ان يستورد مثل الجابري جهازا مزيفا ليطمئن العراقيين بانه يكشف المتفجرات.
كنت قد صادفت الجابري في احدى مناسبات وزارة الداخلية وحصلت على رقم هاتفه. اتصلت به وذهبت مع رود والتقيناه في مكتبه في الوزارة. ما ان قلنا له اننا جئنا من اجل هذا الجهاز حتى قال: "والله ملينا!". خلال اللقاء قال الجابري: ان هذا الجهاز استطاع او كاد ينهي عنف المتفجرات في العراق، وانه هو شخصيا افضل خبير متفجرات في العالم!
وبينما كنا وانا ورود في مكتبه، كانت هناك شابة تتودد له وفي لحظة ما رن جرس هاتفه فاجابه ثم قال: "والله دمّرنّي المعجبات!". وبينما كان الجابري مشغولا بالشابة في مكتبه، تذمر من طول لقائي به قائلا: شوكت تخلص؟!
واخيرا وبينما نغادر مكتبه حذرني الجابري قائلا: "اذا كانت القصة التي ستنشر غير جيدة فسأقاضيك!".
طلب رود من الجابري ان يجرب الجهاز بنفسه وفشل الجهاز في كشف سلاح مخبأ في سيارة لكن الجابري قال لرود: هذا حصل لانك غير مدرب!. كان التدريب يشمل ان يقوم مشغل الجهاز بنوع من المشي الموضعي، وقيل حينها ان هذا كان لتفريغ الشحنات او شيء من هذا القبيل. كتب رود تحقيقا عن الجهاز وظهر التحقيق في الصفحة الاولى في النيويورك تايمز ليحدث ضجة هائلة جعلت الجابري يستدعي صاحب الشركة البريطانية الذي باعت الجهاز للعراق ليعقدا مؤتمرا صحفيا مشتركا ينفيان فيه ما ورد في تحقيق النيويورك تايمز.
لكن كرة الثلج كانت قد بدأت بالدوران. أنتجت الـ بي بي سي تحقيقا عن الجهاز اقنع الشرطة البريطانية بان صاحب هذه الشركة هو محتال واعتقلته. حينها ظهرت قصة جديدة عن الموضوع في النيويورك تايمز تشاركنا بها رود وانا. ثم حوكم هذا المحتال البريطاني وسجن لسنوات.
لكن النكتة والمأساة ان رئيس الوزراء العراقي في حينها نوري المالكي ركب رأسه، ورفض ان يصدق ان الجهاز ليس الا لعبة اطفال واستمر باستخدامه في اغلب سيطرات العراق!
وبعد سنوات حوكم الجابري نفسه وسجن ايضا. ورغم ذلك استمر المالكي في عناده! حيث لم تنته حكاية هذا الجهاز الذي صرف عليه العراق عشرات الملايين من الدولارات الا بعد تفجير الكرادة الدامي في تموز العام 2016، عندما امر رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي برفعه من السيطرات.
حينها - وكنت قد هجرت العراق الى الولايات المتحدة - كتبت تحقيقا عنه في مجلة فورين افيرز، يروي حكاية لعبة الاطفال هذه التي خدعت عدة دول لكن خدعتها الكبرى كانت في العراق.
كان ممول صفقة الجهاز رجل اعمال اسمه فاضل الدباس، الذي صار رئيس حزب ويملك مصرفا وقناة فضائية في ما بعد.
رود نوردلاند توفي قبل ايام بمضاعفات سرطان الدماغ.
* صحفي عراقي يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية