ألمانيا والإبادة الجماعية عبر العالم
28-كانون الثاني-2025

ناصر جبارة
عندما وطأت قدما جنرال ألماني يُدعى آدريان ديتريش لوثر فون تروتا يوم 11 يونيو/حزيران 1904 اليابسة الأفريقية، بعد رحلة استمرت 3 أسابيع، لم تكن أحوال المستعمرة الألمانية "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" (التي أصبحت ناميبيا اليوم) بخير.
فبعد استيلاء بضعة آلاف من جنود القيصر الألماني فيلهلم الثاني على أراض فاق حجمها مساحة ألمانيا القيصرية مرة ونصف مرة وفرض آلاف المستوطنين البيض السيطرة على "أراض صلداء بطبيعة ميتة"-حسب مذكرات الجنرال فون تروتا- أسس الألمان عام 1884 مستعمرة "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" وحكموها بالحديد والنار، إذ استولوا بقوة السلاح على 70% من أراضيها الزراعية، وصادروا أملاك فلاحيها ومواشيهم وأجبروا "عبيدهم" على أعمال السخرة واغتصبوا النساء وجلدوا حتى النزف أو الموت كل من رفض الانصياع لأوامرهم.
أكبر الشعوب في هذه المنطقة، قبيلة هيريرو أو كما يسمّون أنفسهم "أوفاهيريرو" فضّلت الموت في أرض المعركة على هذا الهوان، فدوّن أحد قادتهم عام 1904: "أطلقوا النار على رجالنا وقتلوهم. اغتصبوا نساءنا ورفضوا معاقبة المنفذين. كبارنا تشاوروا وقرروا أن الحرب لن تكون أسوأ من معاناتنا (...) الأفضل أن نموت معا في المعركة، بدل الموت تحت التعذيب". بهذا، تكون انتفاضة شعب الهيريرو ضد المستعمرين البيض قد بدأت فعليا.
ولكن المعركة لم تكن متكافئة، فالجنرال فون تروتا -الذي وصل احتفاء ألمانيا القيصرية بإنجازاته إلى حد طباعة صورته على علب السجائر- كان يعرف ماذا ينتظره في "جنوب غرب أفريقيا الألمانية"، ولكنه كان يعرف أيضا أن القيصر فيلهلم الثاني ألزمه شخصيا بقمع انتفاضة الهيريرو "بجميع الوسائل"، فقام بعد بضعة أشهر من وصوله -وتحديدا في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1904- بإطلاق شرارة الإبادة الجماعية الأولى في القرن العشرين ووجه رسالة إلى شعب الهيريرو، وكانت فعليا أقوى وثيقة أدخلته تاريخ ألمانيا بوصفه مجرم حرب: "أنا جنرال الجنود الألمان العظيم، أرسل هذه الرسالة لشعب الهيريرو لأقول لهم إنهم لم يعودوا من أتباعنا. سنقتل كل واحد منهم نجده داخل الحدود الألمانية. لن نرحم أي هيريرو، سواء أكان مسلحا أو بدون سلاح ولن نساعد أحدا لا النساء ولا الأطفال، بل سنردهم إلى قبيلتهم أو سنطلق عليهم النار".
وهذا ما حدث بالفعل، ففي الأشهر اللاحقة، حاصر جنود فون تروتا المتبقين من شعب الهيريرو في "ووتربرغ" وأجهزوا عليهم بعنف لا يوصف. أما من بقي منهم على قيد الحياة، فقد اقتاده أو دفعه جنود فون تروتا إما إلى صحراء "أوماهيكي"، حيث هلك عطشا أو إلى مثواه الأخير في معسكرات الاعتقال الخمسة، لا سيما في معسكر جزيرة القرش أو "جزيرة الموت" في جنوب غرب المستعمرة.
وتختلف المصادر التاريخية الألمانية حول عدد الضحايا، فبينما تشير بعضها إلى أن أعدادهم من شعب الهيريرو ولاحقا من شعب الناما بلغ 90 ألف شخص، تشير مصادر أخرى إلى أن العدد فاق 130 ألف شخص: 90 ألفا من الهيريرو و40 ألفا من الناما. بهذا تكتمل أركان أول إبادة جماعية في القرن الـ20 الذي يعد قرن الإبادات الجماعية بامتياز.
وبإلقاء نظرة على جميع جرائم الإبادة الجماعية والقتل على أساس العرق التي ارتكبت منذ بداية القرن الـ20 وحتى الوقت الراهن، لا بد من تثبيت التالي:
وشارك ضباطها في تنفيذ وفي إعطاء بعض أوامر تنفيذ الجريمة الثانية (إبادة الأرمن)، وبررت ذلك بالقول على لسان دبلوماسييها آنذاك إن هذه الجريمة "قاسية ولكنها مفيدة". (هانس هومان، الملحق العسكري الألماني في الدولة العثمانية).
ونفذت ألمانيا النازية الجريمة الثالثة (الهولوكوست).
واكتفت ألمانيا الاتحادية بدور المتفرج ورفضت التدخل في منع الجريمتين الرابعة (الصراع في باكستان الشرقية) والخامسة (الإبادة الجماعية في كمبوديا).
وشاركت شركاتها بشكل فعال في تزويد نظام صدام حسين بالأسلحة الكيميائية التي استخدمت في "حملة الأنفال" وتحديدا في مذبحة حلبجة.
حلبجة تفتح أبوابها لعشرات الأسر النازحة
ألمانيا الشرقية منحت أسلحة كيميائية للجيش العراقي في فترة استهداف المناطق الكردية
وواظبت على تزويد إسرائيل بأسلحة استخدمت في الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بقطاع غزة وغطت هذه الجرائم سياسيا ودبلوماسيا ودافعت عن إسرائيل أمام المحاكم الدولية.
كل ذلك يطرح سؤالا محقا عن أسباب تورط ألمانيا منذ 120 عاما بشكل أو بآخر في كثير من جرائم الإبادة الجماعية.
رجوعا إلى ناميبيا، لا بد من القول إن الجنرال الذي حمّل نفسه وبلده مسؤولية ارتكاب أول إبادة جماعية في القرن الـ20 لم يكن يعرف أنه سيدخل التاريخ بصفته مجرم حرب. ففي عام 2015، عرّفت وزارة الخارجية الألمانية بخجل هذا الفصل الأسود من تاريخ ألمانيا لأول مرة على أنه "إبادة جماعية" وفي مايو/أيار 2021 توصلت الحكومة الاتحادية -بقيادة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل- مع حكومة ناميبيا إلى اتفاق مصالحة تم بموجبه أولا إقرار ألمانيا لأول مرة رسميا بالذنب، وثانيا دفع مبلغ بقيمة 1,1 مليار يورو.
ولكن النقاش الذي تلا هذا الاتفاق لا يدل فقط على تلكؤ ألمانيا 120 عاما كاملا في الاعتراف بارتكاب هذه الجريمة، بل يدل أيضا على محاولة تهرب الحكومة الألمانية من تحمل المسؤولية الكاملة، فالمبلغ المتفق عليه سيأتي -وفقا للاتفاق- على شكل دعم مشاريع تنموية واجتماعية في مناطق شعبي هيريرو وناما، وذلك في غضون 30 عاما وليس في صورة تعويضات مباشرة لذوي الضحايا.
علاوة على ذلك، ترفض ألمانيا تعريف هذا المبلغ على أنه تعويضات لأنها تعتبر نفسها غير ملزمة من الناحية القانونية بتحمل مسؤولية جريمة تنطبق عليها جميع تعريفات الإبادة الجماعية، عازية ذلك إلى أن معاهدة الأمم المتحدة لتجريم الإبادة الجماعية وقتل الشعوب وُقعت عام 1948 أي بعد 40 عاما من الخراب الذي تركه جيش ألمانيا القيصرية في ناميبيا.
ورغم إقرار الدولة الألمانية بالذنب والنجاحات التي سجلتها بعض المحاولات لتأريخ هذه الجرائم ووصمها رسميا بالإبادة الجماعية، فإن أسباب ذهاب هذا الجنرال إلى أبعد حدود الإبادة وارتكاب أول إبادة جماعية في القرن الـ20 بقيت دون إجابات.
فكيف وصلت المعركة بين جنود الجنرال فون تروتا وشعبي الهيريرو والناما إلى مرحلة اللاعودة؟
وبما أن هدف ألمانيا القيصرية كان نهب وسلب الأراضي التي احتلوها خلف البحار وليس إبادة سكانها، لماذا اتخذ الجنرال فون تروتا قرار تنفيذ جريمته؟
والسؤال الأهم هل يمكن القول إن جريمة الإبادة الجماعية في "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" قادت إلى جريمة الإبادة الجماعية الثالثة من ناحية الترتيب والثانية من منظور ألماني، والمقصود هنا طبعا جريمة الهولوكوست التي ارتكبتها ألمانيا النازية بين عامي 1941 و1945 بحق ملايين اليهود وشعبي "سنتي" و"روما" الغجريين وكل من لم يكن يعجب الزعيم النازي أدولف هتلر وحاشيته؟
وقبل كل شيء هل المصالحة بين ألمانيا وناميبيا ممكنة؟
الإجابات عن هذه الأسئلة، وتحديدا الثاني والثالث والرابع، بقيت ضبابية واحتاجت لمزيد من التوثيق حتى بداية عام 2024. ففي هذا العام، قررت عائلة فون تروتا الإفراج عن مذكرات الجنرال الذي لم يكن يغفو ويستفيق على رائحة الدم فحسب، بل كان مدونا شغوفا وثّق ذكرياته في 5 أجزاء و800 صفحة.
وتقديم العائلة هذه المذكرات للرأي العام يعود ربما لقرار الحكومة الألمانية الاعتراف بجرائم ألمانيا القيصرية في ناميبيا أو ربما للعبء الثقيل الذي تركه هذا الجنرال على سمعة العائلة، وربما أيضا بفضل أستاذيّ تاريخ عنيدين أصرا على معرفة ما حدث، وهما ماتياس هويسلر وأندرياس إكل من المعهد الوحيد من نوعه في ألمانيا "الشتات وبحوث الإبادة الجماعية" بجامعة بوخوم.
فكلا الأستاذين يعرف مدى صعوبة الحصول على معلومات موثقة حول هذه الحقبة السوداء في التاريخ الألماني، إذ إن الوثائق التي نجت من حربين عالميتين قليلة جدا. والنسخ الأصلية أُتلفت في أثناء الحرب العالمية الأولى في ناميبيا وغير الأصلية لاقت المصير نفسه في ألمانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية.
يقول هويسلر إن العائلة سمحت له منذ سنوات بالاطلاع على المذكرات بغرض البحث العلمي، مضيفا "لأن المسألة تتعلق بوثائق حساسة محفوظة في ملك خاص، لا بد من توفر مستوى كبير من الثقة بيني وبين الزميل أندرياس إكل من جهة والعائلة من جهة أخرى ولهذا، استغرق الأمر طويلا" من أجل الحصول على هذه الوثائق أخيرا وتقديمها في كتاب نقدي للرأي العام.
ولكن كيف وصلت المعركة إلى مرحلة اللاعودة ومن يكون هذا الجنرال الذي لا يزال يلطخ سمعة ألمانيا بالوحل؟ هويسلر يقول إنه كوّن انطباعا عن فون تروتا يسمح له بالقول إنه كان شخصا "مُتعنترا يريد تمييز نفسه عن الآخرين"، مضيفا أن "فون تروتا كان بالتأكيد عنصريا، ولكنه لم يكن مناضلا عرقيا كما يعتقد كثيرون، بل كان جنرالا خطته الرئيسية إخضاع الخصم وليس التصالح معه"، وإن المعركة "وصلت تدريجيا وليس فجأة إلى مرحلة التصعيد".
هنا تختلف نظرة هويسلر إلى تطور المعركة عن نظرة بعض المؤرخين الآخرين الذين يقولون إن وصول المعركة إلى هذه المرحلة المتقدمة من القتل والإبادة يعود إلى عدم قدرة قوات فون تروتا على تحقيق إنجازات تساعده على حسم المعركة بسرعة. بمعنى آخر، الفشل وصلابة العدو كانا وراء ذهاب الجنرال الألماني إلى أبعد حدود الإبادة.
البحث في بلد "المنفذين" عن إجابات عن هذا السؤال كان كالبحث عن إبرة في كومة قشّ، فالجالية الناميبية في ألمانيا لا تتجاوز بضع مئات. رغم ذلك، فإن الصدفة قادتنا إلى سليل أحد الضحايا، إسرائيل كاوناشيكي، حفيد إحدى نساء الهيريرو اللاتي تعرضن للاغتصاب من قِبل أحد ملاك الأراضي الألمان.
وعندما عرف إسرائيل بأنني أريد التحدث معه حول إبادة شعبه الهيريرو، اشترط إجراء المقابلة بالتثبيت في هذا التقرير أن اسمه إسرائيل نسبة للنبي يعقوب عليه السلام، وليس لإسرائيل التي "ترتكب الآن إبادة جماعية بحق الفلسطينيين"، فزاد حماسي للمقابلة ووافقت.
قال: "كل طفل في ناميبيا يعرف الاسم لوثر فون تروتا، فاسم هذا الجنرال الذي حدد مصيرنا بطلب من القيصر فيلهلم الثاني يتردد في كل مكان وسُمعته في ناميبيا كسمعة هتلر عند اليهود وعند الشعبين الغجريين (سينتي) و(روما)؛ فون تروتا وحش بقلب بارد".
وعندما وصل الحديث إلى قصة إسرائيل الشخصية وعجز في التحايل على نطق كلمة اغتصاب لتوصيف ما حدث لجدته، تردد خجلا وتلعثم وذرفت عيناه بالدمع، فصمت كلانا. قال: "انظُر إليّ. أنا لست أسودَ خالصا. أنا نتجت عن علاقة غير شرعية بين أحد ملاك الأراضي الألمان وجدتي. أمي ربتني على هذه القصة لغاية وصولي إلى قرار ترك ناميبيا في سن الـ17 عاما، بحثا عن دلائل تدين المنفذين في عقر دارهم".
وما رأي المؤرخ هويسلر في اتفاق المصالحة الذي وُقع عام 2021 بين حكومتي ألمانيا وناميبيا؟ هنا يستخدم أستاذ التاريخ مثلا ألمانيا شائعا ويقول إن "النغمة هي التي تصنع الموسيقى؛ لهذا أعتقد أن الحكومة الألمانية ومفاوضيها لم يعزفوا النغمة المناسبة، لأن النقطة الشائكة التي حالت دون إقناع اتحادات الضحايا بقبول هذا الاتفاق ليست المبالغ المطروحة في حد ذاتها".
ويضيف أن ما يقلل من أهمية اعتراضات اتحادات الضحايا هو قبل كل شيء التعامل مع هذه القضية وفق معادلة تجريم الإبادة الجماعية بحسب النظام القانوني المعمول به في الوقت الراهن، أي بعد عام 1948 مضيفا: "أيضا جرائم النازيين ارتكبت قبل استحداث مصطلح الإبادة الجماعية ولكن هذا لم يمنع تطبيق القانون على هذه الجرائم وهذا الظرف يثير شكوكا فورية حول كيل الحكومة الألمانية بمكيالين"، وذلك كله في إشارة من المؤرخ إلى بطلان حجة الحكومة الألمانية عندما تعزو رفضها دفع تعويضات لذوي ضحايا هيريرو وناما بالقول إن اتفاقية الأمم المتحدة التي تجرم الإبادة الجماعية وُقعت عام 1948 أي بعد 40 عاما من ارتكاب الجريمة في ناميبيا.

بغداد ترفع دعوى قضائية ضد أربيل بسبب عقود الغاز مع شركات امريكية
27-أيار-2025
مصادر إيرانية تكشف تفاصيل المبادرة العُمانية لعقد جولة المفاوضات السادسة
27-أيار-2025
قوى كردستانية في مخمور تطالب بتدخل لنقل معاناة الأهالي للجهات الحكومية
27-أيار-2025
نائب: كلية طب حكومية توزع أسئلة محلولة
27-أيار-2025
الأمم المتحدة: ندعم العراق بتحديث نظم الري والزراعة
27-أيار-2025
الأمن النيابية: تقرير مفصل بشأن أحداث الكلية العسكرية الرابعة
27-أيار-2025
بغداد ترفع دعوى قضائية ضد أربيل بسبب عقود الغاز مع شركات امريكية
27-أيار-2025
محافظ النجف الأشرف: إتمام عملية المسح الكامل للشروع بخطة توزيع الأراضي
27-أيار-2025
المجلس الوزاري للاقتصاد: إيقاف استيراد 5 محاصيل والسماح بنقل الدجاج والبيض بين المحافظات
27-أيار-2025
فولفو تعتزم تسريح 7% من موظفيها ضمن خطة خفض التكاليف
27-أيار-2025
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech