هوفيك حبشيان
تتميز الدورة ال77 لمهرجان "كان" التي تنطلق الليلة بمفاجآت وتوقعات، بعضها إيجابي جداً، وبعضها قد يكون سلبياً. وعلى رغم بعض الإشاعات، فالمهرجان يضم افلاماً مهمة من العالم ويقدم ثلاثة كبار من جيل الستينيات الأميركي.
تنطلق هذا المساء الدورة ال 77 لمهرجان "كان" (14-25 مايو/ أيار) الذي سيقدّم طوال 12 يوماً كلّ مستجد ومثير يأتي من عوالم الشاشة الفضية. في اليومين الأخيرين، بدأت ملامح المدينة تتغير على مرأى منا، لضبط إيقاعها على إيقاع الأحداث الفنية التي ستشهدها في الأسبوعين المقبلين. الزحف البشري الذي يحصل فجأةً، يُترجَم انفجاراً سكّانياً تعرف المدينة كيف تتعاطى معه بسبب خبرة طويلة في هذا المجال، بالإضافة إلى تنظيم لا تشوبه شائبة. الكل، من مطاعم وحانات إلى محال تجارية فمرافق عامة، على استعداد تام لاستقبال 35 ألف حامل وحاملة بادج من 160 دولة، فضلاً إلى ما تجذبه هذه التظاهرة من ناس من عامة المواطنين، يحملهم فضولهم إلى "كان" لالقاء نظرة على نجوم السجّادة الحمراء أو لمحاولة الحصول على تذكرة تخولهم الوجود في قلب الحدث.
مَن يتجول في شوارع المدينة الهادئة قبل هبوب العاصفة بدءاً من هذا المساء، لا بد أن يلاحظ التغييرات في الشوارع والساحات والأرصفة وأعمال التطوير التي جرت فيها في الفترة الأخيرة. من الواضح أن فريق العمدة دافيد لينار لم يضيع وقته. فهذا العمدة الذي تسلّم وظيفته قبل عشر سنوات، ليبرالي الهوى، يحن إلى عهد بومبيدو ولديه خطة للنهوض بقريته الكونية، لكنه أضحى أيضاً محور سؤال طرحه أحد الصحافيين على مدير المهرجان الفني تييري فريمو، خلال لقاء عقده أمس للحديث عن الخطوط العريضة للدورة الحالية. ودّ الصحافي أن يعرف من فريمو إذا كان يؤيد تصريحاً أدلى به لينار، مفاده أن حركة "مي تو" شيء أشبه بالشتازي (جهاز الإستخبارات في ألمانيا الشرقية سابقاً)، فضحك الجميع وقال فريمو إنه لم يطلّع على التصريح، ولذا لا يمكن التعليق عليه. في الواقع، يتعلّق الموضوع بمقال نشره لينار في "لوبينيون" كتبه مع كلويه موران، يقول فيه: "يكمن الفرق بين ألمانيا الشرقية وفرنسا اليوم في أن "الشتازي" كان يتصرف رسمياً باسم حكومة ذات أهداف واضحة، بينما يقوم صحافيو الاستقصاء اليوم بذلك، باسم الضغط الشعبي. لقد انتقلنا من الديكتاتورية العمودية إلى الإستبداد الأفقي".
قد يكون هذا كله غير ذي أهمية، لو جاء في سياق آخر وفي ظروف مختلفة، فالمهرجان ومنظموه والعاملون في السينما الفرنسية عموماً، يعيشون منذ نحو عشرة أيام على صفيح ساخن، بعدما انتشرت أخبار بأن موقع "ميديابارت" الذي أضحى رأس حربة في التصدي للعنف تجاه المرأة، سينشر خلال المهرجان لائحة من أسماء عشرة ممثلين ومنتجين وعاملين في السينما الفرنسية (بينهم نجوم كبار مثل جان دوجاردان وبيار نينيه وغيوم كانيه)، متورطين بقضايا تحرش واستغلال سلطة وانتهاكات جنسية. ذلك بعدما أجرى الموقع المذكور تحقيقات استقصائية متوصلاً إلى هذه النتيجة. الخبر أحدث بلبلة في الأوساط السينمائية، خصوصاً أن لهؤلاء النجوم أفلاماً في "كان"، فكيف يمكن التعامل مع أزمة كهذه لو وقعت فعلاً؟ لكن، أمس، كذّب "ميديابارت" الأخبار المتداولة في شأن اللائحة وقال إنها مجرد شائعات مصدرها حساب مزيف على وسائط التواصل، وللأسف فإن العديد من الصحف أعطتها مصداقية عبر إعادة نشرها.
عند سؤاله عن الاجراءات الخاصة التي من الممكن أن يتخذها المهرجان في حق المتهمين بانتهاكات جنسية، والمشاركين في المهرجان، والتي كشفتها رئيسة المهرجان إيريس كنوبلوك لجريدة "لو فيغارو"، رد فريمو قائلاً: "سأخيب ظنكم إذا قلت لكم إن إيريس لم تتحدّث إلى "لو فيغارو"، ولم تصرح بهذا الكلام، فلا داعي لأعلّق على شيء لم يُقل". وعندما طلب صحافي آخر التوضيح والتعمّق في ما يسمم الأجواء في "كان" قبل انطلاقه معكراً صفوه، فأجاب: "كان العام الماضي عاماً سينمائياً إستثنائياً. زميل لكم سألني مؤخراً ما الذي تغير في السنوات العشرين الماضية، فقلتُ "أسئلتكم". في الماضي، كنّا نتحدّث جميعاً عن السينما. عند انطلاق المهرجان، كان قلقنا الوحيد هو الأفلام وهل تنال الإعجاب أم لا. ما عاد أحد يتكلّم عن هذا. العام الماضي حدث بعض المهاترات والجدال، فقررنا هذا العام عقد مهرجان بلا جدال. لا وجود لجدال مصدره المهرجان، لقد حرصنا على ذلك. ما يجمعنا هنا هو السينما، قد يحدث جدال، لكن هذا لا يعنينا. نريد مهرجاناً يركّز على الأفلام لنضع السينما في المقدّمة بعيداً من المهاترات، لكن هذا لا يعني أنّ لن يكون هناك جدال. متى لن يجدوا جدالاً قد يخترعونه أو يضخمونه".
قضية أخرى تشغل المسؤولين والمنظمين هذه الأيام في المهرجان، الإضراب الذي دعت اليه جمعية تُدعى "تحت الشاشات، البؤس"، يضم العاملين والعاملات في المهرجانات السينمائية الفرنسية للمطالبة بحقوقهم وتخصيص شروط عمل أفضل وصفة وظيفية خاصة بالمياومين العاملين في فنون العرض. وهناك مَن تخوّف بأن يقف المهرجان تحت تهديد هؤلاء العمّال الذين يشغل بعضهم وظائف لا يمكن الاستغناء عنها، وقد يصبح استمرار المهرجان على المحك في حال قرروا اتخاذ خطوات تصعيدية. هذه قضية أخرى يبدو أن لا حل لها على المدى القريب وأن كل شيء ممكن رغم أن المفاوضات لا تزال مستمرة.
في دورة سيتخللها على ما يبدو، الكثير من المسائل الشائكة، شغل صدور حكم بسجن المخرج الإيراني محمد رسول آف وجلده الرأي العام الدولي. كان المهرجان أعلن عن ضم أحدث أفلامه "بذرة التين المقدس" إلى المسابقة. قررت المحكمة في طهران ان أفلامه تشكّل تهديداً للأمن القومي وأصدرت حكماً بسجنه لمدة خمس سنوات. لكنّ الجديد في القضية ان رسول آف فر من إيران أمس إلى جهة مجهولة، "مثقل القلب"، كما كتب على انستغرام، "لكن ما من خيار ممكن بين السجن والمنفى". السؤال: هل يحضر إلى "كان"؟ تسلسل الأحداث الذي سيقوده إلى الـ"كروازيت" يوحي بأننا أمام فيلم حركة. يُذكر ان رسول آف كان انطلق من "كان"، ولطالما اضطهدته السلطات الإيرانية، وذلك منذ عام 2011، مع زميله جعفر بناهي، وهذا لم يمنعه من إنجاز العديد من الأفلام، وصولاً إلى فوزه بـ"دب" برلين قبل أربع سنوات عن "الشيطان غير موجود". صحافية سألت لماذا خاطر المهرجان بسلامة المخرج الشخصية عبر اختيار فيلمه وتسليط الضوء عليه، ومع ذلك برمج فيلمه في نهاية المهرجان، عندما تكون الصحافة قد غادرت. فكان رد فريمو: "سؤالك يفاجئني. هل هذا كل ما يهمك؟ لماذا يعرض الفيلم في آخر يوم عروض المسابقة؟ الرد سيخيب ظنّك لأنك حتماً تنتظرين رداً آخر: الفيلم لم يكن جاهزاً وكان مخاضه في ظروف صعبة، لذا طلب منا القائمون عليه عرضه في آخر المهرجان كي يتسنى لهم إنهاء العمليات المتعلقة به. الأسباب دائماً ذات طابع تقني. أما كيف أُنجِز هذا الفيلم، فهنا السؤال الحقيقي. مهرجان "كان" لطالما اختار التعبير عن ذاته من خلال الأفلام، وكان هذا تقليداً متبعاً منذ العام 1946، تاريخ أول دورة. رسول آف ولد هنا في "نظرة ما" قبل بضع سنوات، أفلامه تعبّر عن نضاله، وجديده يروي كيف أن الديكتاتورية في إيران تغلغلت في العائلات، وبدا لنا أنّ من المهم حضوره في "كان"، وعلى الصحافيين البقاء لأنه فيلم جميل".
أراد صحافي إسرائيلي الاستفسار عن الكيفية التي سيتعاطى فيها المهرجان مع أي وقفات تضامنية مع غزة في حال حصول ذلك، كما كان الحال في ختام مهرجان برلين الأخير، ولماذا لا توجد أفلام إسرائيلية في المهرجان هذا العام، "لأن المخرجين الإسرائيليين في أمس الحاجة إلى دعم"، بحسب قوله. فلم يأتِ فريمو بجواب شاف يرضي الصحافي، إذ قال بما معناه أنّ اذا لم يُختر فيلم من إسرائيل، فهذا يعني أن المهرجان لم يجد فيلماً، الموضوع بهذه البساطة. وختم بالقول: "الاختيار لا يقيم أي اعتبار لأي شيء غير القيمة السينمائية".
22 فيلماً ستتسابق على "السعفة الذهبية" في المهرجان هذا العام، وستتولّى رئاسة لجنة التحكيم المخرجة والممثّلة الأميركية المثيرة للجدل غريتا غرويغ (41 عاماً). تضم المسابقة أحدث أفلام اليوناني يورغوس لانثيموس والفرنسي جاك أوديار والبريطانية أندريا أرنولد والكندي ديفيد كروننبرغ والبرتغالي ميغيل غوميز والصيني جا جانكه والروسي كيريل سيريبرينيكوف، بالإضافة إلى أصوات جديدة مثل أول أفلام المخرجة البلجيكية الشابة أغات ريدانجيه. ثمة أيضاً أعمال منتظرة جداً، كـ"ميغالوبوليس" لفرنسيس فورد كوبولا العائد إلى المهرجان بعد أربعة عقود من فوزه بثاني "سعفة" في حياته، وستجمعه المسابقة بأحد السينمائيين الكبار وهو بول شرايدر الذي سيعرض له بدوره "أو كندا". ومع إسناد جورج لوكاس "سعفة فخرية" عن مجمل أعماله، ها إن ثلاثة من رموز تيار "هوليوود الجديدة" الذي أحدث ثورة يجتمعون من جديد، لتأكيد مدى حضور جيل الستينيات في حاضرنا وتأثيره العابر للزمن. أما الممثّلة الأميركية ميريل ستريب، فستُعطى "سعفة فخرية" خلال الافتتاح هذا المساء الذي سيشهد عرض "الفصل الثاني" للفرنسي كانتان دوبيو (خارج المسابقة)، فيلم كوميدي يجمع شلّة من الممثّلين، في مقدّمهم فنسان لاندون ولوي غاريل وليا سايدو.