بغداد – العالم
رغم اختلاف القصص والملامح، إلا أن آلاف العراقيين، لا سيما من مواليد الأربعينات والخمسينات، يتشاركون تاريخ ميلاد رسمي واحد: الأول من تموز. ورغم أن أغلبهم لا يعرفون على وجه التحديد يوم ولادتهم الحقيقي، إلا أن هذا التاريخ أصبح جزءاً من هويتهم الرسمية والاجتماعية، حتى بات أشبه بـ"عيد ميلاد وطني صامت" يتكرر كل عام. وتعود هذه الظاهرة إلى سياسات التسجيل المدني في العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين، إذ لم يكن تسجيل المواليد يتم فورياً كما هو الحال اليوم، بل بعد أشهر أو حتى سنوات. وفي ظل غياب المعلومات الدقيقة، لجأت دوائر النفوس إلى اعتماد 1 تموز كتاريخ ميلاد افتراضي، كونه يوافق بداية النصف الثاني من السنة الإدارية، مما سهّل أرشفة السجلات وتنظيم البيانات.
جذور إدارية تحولت إلى ذاكرة جماعية: يقول الباحث في التاريخ الاجتماعي الدكتور نبيل الخياط إن "اعتماد الأول من تموز لم يكن قراراً عشوائياً، بل أتى في إطار تنظيم العمل الإداري في مؤسسات الدولة الفتية، خاصة في ظل ضعف التوثيق الأسري الدقيق لتواريخ الولادة، لا سيما في المناطق الريفية والنائية". ويضيف: "كانت الدولة بحاجة إلى قاعدة بيانات موحدة، فاختارت هذا التاريخ لآلاف الأشخاص الذين لم يعرف يوم ولادتهم الحقيقي، وهكذا تحوّل إلى تاريخ ميلاد رسمي لجيل كامل". أما أستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد الدكتور علي المياحي، فيرى في الظاهرة دلالة عميقة على العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويوضح: "هذه التواريخ الرسمية كانت وسيلة لإدماج المواطن ضمن المنظومة الإدارية للدولة، لكنها في الوقت نفسه خلقت انفصالاً بين الذاكرة الشخصية والوثيقة الرسمية". ويتابع: "رغم ذلك، طوّع كثير من المواطنين هذا التاريخ وتبنوه عاطفياً واجتماعياً، ليصبح يوماً يحتفلون به، حتى وإن كانوا يعلمون أنه لا يمت بصلة إلى يوم ولادتهم الحقيقي".
بين التوثيق والذاكرة: المواطن المتقاعد سعدي حسن، من مواليد 1 تموز 1950 بحسب الوثائق، يروي قصته قائلاً: "أمي كانت تقول إني وُلدت في الشتاء، لكنها عندما ذهبت لتسجيلي بعد عامين لم تتذكر اليوم أو الشهر، فأعطوها 1 تموز، وقالوا: (هذا التاريخ نمشي عليه دائمًا). واليوم، أنا وكل أصدقائي من جيلي تقريباً نحتفل بهذا اليوم رغم غرابته". ظاهرة "مواليد تموز" لا تقتصر على جيل الخمسينات فقط، بل تمتد إلى مواليد الستينات والسبعينات، خاصة في المناطق التي تأخر فيها الانتظام الإداري أو ضعف فيها الوصول إلى خدمات الدولة. وفي الوقت الذي لا تزال فيه هذه التواريخ مثار طرافة في بعض العوائل، يرى مختصون أنها تشكّل أيضاً وثيقة صامتة على مرحلة إدارية وبيروقراطية من عمر الدولة العراقية، حين كانت الوثيقة الرسمية تُصنع بمعزل عن السياق الأسري أو الذاكرة الفردية. ويبقى الأول من تموز، رغم كونه رقماً افتراضياً في أصله، شاهداً على لحظة تاريخية من لحظات تشكيل الهوية المدنية في العراق، يومٌ تكرّر آلاف المرات في بطاقات الأحوال المدنية، حتى صار مناسبة "وطنية" من دون احتفال رسمي.