13 فنانا يستعيدون الأشكال والمضامين العراقية وآخرين يتلاقحون مع الثيمات البريطانية
11-تشرين الأول-2023
عدنان حسين أحمد
نظمت جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في بريطانيا معرضًا جماعيًا لـ 13 فنانًا تشكيليًا عراقيًا من أجيال ومدارس مختلفة انضوى تحت عنوان "شهيق جماعي" استعاره القائمون على المعرض من مجموعة شعرية تحمل الاسم ذاته للشاعر والإعلامي عبدالحميد الصائح. ومَنْ يُدقق في ثيمات هذا المعرض الذي يتألف من 31عملاً فنيًا سيرى أنها تجمع بين الموضوعات العراقية وبعض المعطيات البريطانية أو العالمية سواء على صعيد الأشكال أو المضامين التي تركت تأثيرها على المنجز الفني للتشكيليين العراقيين وخاصة الذين عاشوا في البلدان الأوروبية والغرب الأمريكي. تُعدّ مشاركة الفنان والطبيب علاء بشير، المختص بالجراحة التقويمية والتجميلية كسبًا لمعارض الجمعية السنوية فهو من روّاد الفن التشكيلي العراقي الذين سجّلوا حضورًا واضحًا وملموسًا في المشهد الفني العراقي منذ عام 1958م وحتى الوقت الحاضر. وقد مرّت تجربته الفنية بمراحل متعددة بدأت بالانطباعية ثم انعطف باتجاه السُريالية قبل أن يلوذ بالرمزية وما تحمله من رموز وإشارات عميقة تُثري رسوماته، وتخطيطاته، وأعماله النحتية على حد سواء. اشترك علاء بشير (1939م)بلوحتين كبيرتين إشكاليتين تحمل الأولى عنوان "نَرد النص" الذي توزعت أرقامه بشكل غير متسلسل على كٌرتين رماديتين غير متعامدتين تمامًا إذ تميل الأولى الأصغر حجمًا إلى جهة يسار الناظر وتستقران على خلفية مكوّنة من خمسة ألوان رئيسة وهي الأحمر والأزرق والأخضر والبنفسجي والأصفر الباهت. لم يأخذ زهر النرد (حجارته أو فّصه) الشكل المكعّب المتعارف عليه وإنما جسّده علاء بشير على شكل كروي حيث نقش على الكرة الأولى الأرقام (1و2و4) فيما رسم على الثانية (3و5و6) وقد عزّز الكرة الأولى العليا بثلاث قصاصات ورقية تقول بحسب أهميتها الرمزية:"ما التاريخ إلاّ رمية نرد"، و "ابحث خلف الهامش"، و "يدور النرد فيردّ النص"، أما الكرة السفلى فنرى إلى جوارها جملة تقول: "حدّقوا في الفراغ وانتظروا"، "بذور الفن الجيد في المنفى"، و "نرد بلا ظل". ولابدّ من الأخذ بعين الاعتبار أن "النرد" أو "الطاولة" هي لعبة فارسية وضعها أردشير بن بابك تعتمد على الحظ وعلينا كمتلَقين عضويين أن نقرأ هذه الجُمل قراءة حقيقية ومجازية لكي نلج إلى أعماق هذا العمل الفني الذي يثير أشياء كثيرة في مخيلة المُشاهِد الذي يتفاعل مع اللوحة ويتماهى مع المبنى والمعنى في آنٍ واحد. أمّا اللوحة الثانية التي عنونها الفنان بـ "ولادة الوقت" فهي تُحيل إلى الفضاءات السُريالية التي عانقها بشير في أعماله الفنية المبكرة في حقبة الستينات من القرن الماضي، ولعل هذه اللمسة السُريالية التي تنطلق من سطح الماء إلى السماء هي إشارة واضحة لمفهوم ولادة الوقت بالطريقة التي يتخيلها الفنان وهي تذكِّرنا ببعض لوحات سلفادور دالي وأقرانه من الفنانين السُرياليين.
لمسة التجريد والتعبيرة في طريق الأبدية
أمّا الفنان علاء السريح فقد اشترك بثلاثة أعمال فنية يغلب عليها الطابع التجريدي التعبيري من دون أن يغادر الفضاءات والموضوعات الرمزية التي اعتدنا عليها في عدد غير قليل من معارضه الشخصية والجماعية. وربما تكون لوحة "طريق الأبدية" هي العمل الفني الذي خطف الأضواء من غالبية اللوحات والأعمال المشاركة لأكثر من سبب. فحجم اللوحة هو 188X31 سم، وهي العمل الفني الأكبر في المعرض برمته. كما أنها تتألف من 260 لوحة صغيرة مربعة الشكل وقد انتظمت إلى جوار بعضها بعضًا لتشكّل هذا المشهد البانورامي المذهل الذي يمكن أن تقرأ فيه العمل كله كلوحة واحدة أو أن تغوص في كل لوحة من اللوحات الـ 260 على انفراد وتستمع بمفرداتها التجريدية والتعبيرية والحروفية وما تنطوي عليه من ضربات فرشاة عنيفة تارة، وناعمة تارة أخرى. كما اشترك علاء بعملين آخرين وهما "إيقاعات روحانية " و "جسر الشغف"على شكل صفحات مفتوحة من كتاب سبق لبعض الفنانين العراقيين أن تناولوا هذا الشكل من المطويات الورقية المُستلة من كتاب مثل الفنان ناصر مؤنس، والفنان والناقد التشكيلي ستار كاووش رغم أنّ كل واحد منهم له ثيمته الخاصة به التي تحيل إلى تجربته الفنية على انفراد.
التلاقح مع الثيمة البريطانية
يحيلنا الفنان التشخيصي علاء جمعة في لوحته الموسومة "غرق أوفيليا" إلى الفضاء الفني البريطاني الذي جسّد هذه الثيمة لمرات متعددة. فأوفيليا هي شخصية معروفة في مسرحية "هاملت" لوليم شكسبير (1599 -1601م)، وشابة نبيلة وجميلة من الدانمارك، والزوجة المحتملة للأمير هاملت، وبسبب تصرفات هذا الأخير تُصاب بالجنون الذي يفضي بها إلى الغرق في خاتمة المطاف. أمّا العمل الثاني "اختناقات" فهو لا يبتعد كثيرًا عن ثيمة العمل الأول ولعله أراد أن تكون هناك آصرة بين العملين اللذين ضمّهما هذا المعرض المشترك الذي يجمع بين الثيمات العراقية والبريطانية ويقدّمها إلى جمهور متعدد الأعراق والثقافات.
يتحفنا الفنان باسم مهدي، وهو منظم المعرض إلى جانب زوجته الفنانة زينب الجواري، بعملين مثيرَين للدهشة والتساؤل. ففي لوحة "حلم يقظة" التي تنطوي على نَفَس غرائبي، أو سُريالي إلى حدٍ ما حيث يبدو الرجل العراقي وكأنه يدفع مشحوفًا في بحر متلاطم الأمواج تطوّقه الكواسج والحيتان من الجهات الأربع لكنه مُصرّ على مواصلة الرحلة إلى أقصاها، وحسنًا فعل الفنان حينما حوّل قدميّ هذا المواطن العراقي إلى مخالب نسر تتشبث بأرضية المشحوف الذي يمكن أن يكون استعارة رمزية للوطن الذي تحاصره الحيتان في هذا البحر القُلّب. أما اللوحة الثانية فقد أسماها بـ "المشيمة والمشيئة" وهي تسمية دقيقة ومعبّرة لهذا الجنين الذي تحوّلت مشيمته إلى "كيبل" يمكن ربطه إلى حاسوب أو قابس كهربائي وهو يتحرك في رحم أمه في إشارة واضحة إلى أنّ التكنولوجيا دهمت الجميع ولم تسلم منها حتى الأجنة الراقدة في بطون الأمهات.
تقترب الفنانة سؤدد النائب كثيرًا من مناخ لوحة "المشيمة والمشيئة" العلمي في عملها الفني المعنون "لقد هبطت آلة الحرب" التي استعملت فيها "الفن الرقمي" إضافة إلى وسائط مختلفة لتقدّم هذا النموذج العجائبي الذي يحيلنا إلى الفن المستقبلي القائم على مخيلة متشظية تحاكي العوالم السُريالية وتجسّدها بالطريقة التي تراها مناسبة لتترك أثرها في المتلقي الذي يتفاعل مع الخطاب البصري الحديث ويتماهى مع أشكاله وصوره الفانتازماغورية التي لا نألفها إلاّ بعد مدة من زمن المشاهدة. لا تخرج اللوحة الثانية التي أسمتها "لهثة دابّة" عن السياق الغرائبي الذي وظّفته هذه المرة بصيغة تشخيصية فيها الكثير من الدقة والحرفية والجمال.
تركز الفنانة سلمى الخوري في لوحتيّ "نحو المستقبل" و "السلام هو أملنا" على موضوع المرأة والطفولة والسلام وهي ثيمات تتكرر كثيرًا في أعمالها الفنية التي تأخذ، في الأعم الأغلب، طابعًا تشخيصيًا مطعمًا بنفَس تكعيبي يشدّ المتلقي بأشكاله الجميلة واللافتة للانتباه.
يمزج الفنان محمد الدعمي بين التجريد والتشخيصية المفككة، إن شئتم، في لوحة "الجريح" التي تزدان، هي الأخرى، بالرموز والإشارات التعبيرية الكثيرة التي ترصّع السطح التصويري الذي يتسيّد فيه الشكل على المضمون. وربما يتكرر الأمر نفسه في لوحة "النهر شاهد" ليعزز رهان الفنان على المبنى الذي يتقدّم على المعنى في مقاربة فنية تذكِّرنا بأهمية الصورة البصرية في الفيلم السينمائي وتفوّقها على اللغة أو السيناريو الأدبي حتى وإن كان هذا الأخير في قمة توهجه الإبداعي.
تحف فنية لا تغادر الذاكرة بسهولة
لا يحفل الفنان حسين السكافي بالمضمون أيضًا ولعل رهانه ينصبّ على الأشكال التي اجترحها في أعماله الفنية الأربعة التي خلت من العناوين الصريحة لكنه أدرجها ضمن توصيف "عمل فني" ومنح كل واحدٍ منها رقمًا بحد ذاته. ففي "عمل فني 1" يصطحبنا إلى محطة لمترو الأنفاق اللندنية ويضعنا في مواجهة شخص ينظر إلى إعلان مثبت على الجدار المواجه له. ويأخذنا في "عمل فني 2" إلى ثنائية المرأة والرجل التي أظهرها بهذا الشكل الجميل والمعبّر بعد أن جرّدهما بشكل مقصود من بعض التفاصيل التشخيصية. أمّا "عمل فني 3" فيتمثل في الرهان الجمالي على التضادّ اللوني وتداخله المذهل الذي يقترب من خلق تحفة فنية لا تغادر الذاكرة بسهولة. في حين يأخذ "عمل فني 4" طابع الشمولية الذي يحتضن الأشكال والشخصيات التي جرّدها الفنان من كل شيء وحافظ على رونقها الإنساني والجمالي في آنٍ معًا. جدير ذكره أنّ هذه اللوحات هي صور فوتوغرافية في الأصل التقطها الفوتوغراف حسين السكافي في أوقات متفرقة وأدخلها إلى مَشغله (المفاهيمي) الذي يبني فكرته رويدًا رويدًا حتى تصل إلى مرحلة تجاور الاكتمال أو تقترب منه إلى حدٍ بعيد.
يتيح لنا الخطاط محمد النوري أن نستمتع بعملين فنيين كاليغرافيين، الأول يحمل عنوان "يا غائبًا لا يغيب / أنتَ البعيد القريب" والثاني "حينا كنّا ولا تسل كيف كنّا / نتهادى من الهوى ما نشاء". وقد بدا العملان أقرب إلى روح اللوحة منه إلى الكاليعراف.
رغم أنّ الفنان رائد هوبي اختار الطفولة موضوعًا لعمليه الفنيين حيث أسمى اللوحة الأولى "طفولة1" والتي تمحورت على شخصية طفلة ترتدي ملابس مطرزة بالزهور لكن الغريب في الأمر أنّ عينها اليسرى مغلقة، فيما انفتحت العين اليمنى إلى أقصاها واتخذت شكلاً دائريًا غريبًا. وإلى يسار الناظر ثمة طائر غريب. ما يلفت الانتباه في هذه اللوحة هو الخلفية التي اشتغل عليها الفنان كثيرًا مستعيدًا اللمسات التراثية وتعويذات "السبع عيون" التي تطرد الشر والحسد بحسب المعتقدات العراقية. وهذا الأمر ينسحب على لوحة "طفولة 2" التي تبرز فيها شخصية الطفلة بملابسها المزركشة وهي تقف أمام لوحة جدارية تقترب من لوحة "طريق الأبدية" لعلاء السريح من حيث لكنها تختلف في المضامين التي جسّدها رائد هوبي على نقوش بارزة تستنطق ما عرفناه في الفنون العراقية الموغلة في القدم.
يكسر الفنان محمود حسن بعمله الخزفي "شاي العصر" إيقاع اللوحات الثلاثين التي هيمنت على "الشهيق الجماعي" ونلقنا إلى ظاهرة يكاد يمارسها العراقيون جميعًا وهي احتساء الشاي بعد إغفاءة الظهيرة وقد جاء هذا العمل الخزفي بمنتهى الأناقة والجاذبية بحيث تمثّله الكثير من الزوّار وأطالوا النظر إليه.
مضامين عراقية بامتياز
يأخذنا الفنان سعدي داوود إلى فضاءات مدينة الناصرية تحديدًا من خلال ثلاث لوحات جميلة في مقارباتها الشكلية والمضمونية التي تحيل إلى البيئة العراقية التي يشترك فيها مع زميله الفنان مهدي الشمري حيث قدّم داوود في لوحة "الأهوار" فيگرات متنوعة تجمع بين المرأة والمشاحيف والأسماك والأشجار وما إلى ذلك من معطيات تحيل إلى مكان جغرافي محدد طرّزه بألوان جذّابة آسرة، وبذات الإيقاع اللوني يتحفنا داوود بلوحة "المنفصلة" المحاطة بطفلتيها، ولوحة "القيلولة" التي يرصد فيها امرأة نائمة إلى جوار ابنها الصغير، وثمة ديك كبير يمارس دور الحارس لهذه المرأة الغافية التي تسترخي من تعب النهار الطويل. أمّا الفنان الذي حظي أيضًا بعرض أربع لوحات صغيرة الحجم فهو مهدي الشمري الذي تُحيل إلى البيئة العراقية بشقيها المديني والقروي وهي "الحرية" التي تُخرِج فيها المرأة حمامة من القفص، وفي اللوحة الثانية تتكرر مفردتا المرأة والحمامة أيضًا في تنويع بصري مختلف بالأسود والأبيض، بينما تنفرد اللوحة الثالثة بالشرنقة التي تحيط بالمرأة من كل الجهات تقريبًا. أما اللوحة الرابعة والأخيرة فهي "قرية عراقية" يصور فيها الفنان البيوت الريفية المتوارية بين أشجار النخيل الباسقة التي هيمنت على الأفق الجميل الذي بدا وكأنه مشهد مُستل من المدرسة الانطباعية. وكان من المؤمل أن يشترك الفنان الكوردي مريوان جلال ببعض الأعمال الفنية لكنه تأخر قليلاً وفاتت عليه هذه الفرصة الثمينة وسوف ننتظر أعماله الفنية في المعرض السنوي القادم الذي تنظّمه جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في المملكة المتحدة ونمتّع أنظارنا بمنجزه الفني الجميل، وتقنياته الحديثة التي يستقيها من المشهد الفني البريطاني خاصة، والأوروبي بشكل عام.