2028 عام الذروة في الطلب.. وربيع النفط قد ينقضي سريعا
25-حزيران-2023
د. علي غالب بابان
بادئ ذي بدء، لا بدّ من التذكير بأن تقديرات اسعار النفط والطاقة تحظى بالاهتمام الكبير في كل انحاء العالم لما له من تأثير هام على الإقتصاد العالمي وحركة التجارة الدولية، فعلى اسعار الطاقة والنفط الخام يتوقف الكثير، وهو عنصر هام في تقرير حدوث التضخم، لأن الطاقة مكون اساسي في تحديد سعر أي سلعة سواء أكانت صناعية أم زراعية أم غيرها ... وبناءً على هذه الأهمية نجد جهات لا حصر لها تمارس عملية تقدير اسعار النفط: مؤسسات كوكالة الطاقة الدولية التي تمثل المستهلكين ومنظمة الدول المصدرة للنفط (اوبك) التي تضم المنتجين، وغير هذا، وكذا يوجد العديد من الشركات والمنظمات الإقتصادية كشركات المحاسبة والجهات الاستشارية ومؤسسات قياس المخاطر والمصارف الكبيرة والمؤسسات المالية العملاقة وهناك مؤشرات عديدة مرتبطة بسعر النفط كسعر الدولار والذهب وغيره من المواد الخام، وهذه بدورها ذات تاثير عميق على الاقتصاد العالمي.
هناك اذن حركة تفاعلية تبادلية بين كل هذه المؤشرات، والامر اشبه بطاولة كبيرة وضع عليها عدد من الكرات وحركة أية واحدة منها تؤثر على الأخريات وهكذا ...
من بين اكثر التقديرات اعتمادا وموثوقية تبرز تقارير وكالة الطاقة الدولية مع انحيازها لمعسكر المستهلكين وتبنيها لمواقفهم رغم التزامها المعلن بالحياد والموضوعية ... وبنفس الوقت يمكن النظر إلى تقديرات (أوبك) التي تعبر عن مصالح المنتجين. السبب في تفضيل هذين التقديرين يعود الى أنها جهات (ميدانية) بالنسبة لصناعة النفط، أي أنها في ميدان الانتاج والاستهلاك بالفعل وهي تتعاطى مع الارقام والمؤشرات من الميدان بشكل مباشر دون أن نغفل بالطبع التقديرات الواردة من جهات اخرى والتي اشرنا لها، والتي قد تعتمد منهجيات مختلفة في التقدير.
وكالة الطاقة الدولية طلعت علينا بتقرير للعام 2023 قبل ايام (تم تداوله في الصحافة العالمية باهتمام) وهو يقدم رؤية للسوق النفطية على مدى خمس سنوات.. واهم ما يحمله التقرير من وجهة نظري هو اشارته الى (ان الطلب العالمي سيستمر في الزيادة ولكن يتوقع أن يتباطأ نموه بشكل كبير بحلول عام 2028).. هذا يعني ان عام 2028 هو (عام الذروة) في الطلب على النفط بعدها سينزل النفط من عليائه، ويبدأ رحلة الهبوط التدريجي، وبالطبع فان التاريخ يبدو قريبا جدا. خمس سنوات فقط تفصلنا عن (عام الذروة) وبعدها (اذا صدقت هذه التوقعات) قد نشهد هبوطا دراميا للأسعار بسبب ضعف الطلب.. وبالتاكيد فان فترة الخمس سنوات لا تعد شيئا يذكر في حياة الامم ..!!
لا يتردد التقرير في تفسير هذه النتيجة التي توصل اليها وتحديد أسبابها الحقيقية وهي من وجهة نظر صانعي التوقعات (ان ارتفاع اسعار الطاقة ومشاكل تأمين الإمدادات التي كشفت عنها الازمة، سرّعت وتيرة الانتقال الى تقنيات الطاقة النظيفة)، يقصد بالازمة التي ابتدات بجائحة كورونا والتي لم تنته بعد بسبب الحرب الاوكرانية. الضغوط السياسية والاجتماعية على شركات النفط لا تتوقف في بلدان العالم و(الغرب) على وجه الخصوص من اجل التوقف عن استكشاف وانتاج النفط واستبدال ذلك بالتوجه نحو الطاقة النظيفة وبسبب هذه الضغوط بدأت الشركات النفطية العملاقة بتخصيص جزء هام من اموالها لابحاث الطاقة النظيفة ودعم مشاريعها.. وهذا يعني بالنسبة للدول المنتجة تقلص إنفاق الشركات على الاستكشاف ومشاريع الإنتاج أو المشاركة فيها مع الجهات المحلية في الدول المنتجة في نفس الوقت. وبالنسبة للعراق فقد نرى انسحابا أو ضعفا في الاهتمام باستكشاف المناطق الجديدة او تطوير الحقول او حتى الدخول في شراكات مع الدولة وشركاتها وفي الواقع فان تطورات السنوات القليلة المنصرمة تؤكد وجود هذا المنحى.. وقد يأتي البديل من الشركات الصينية والروسية او من دول اخرى غير غربية، تجد أن من مصلحتها استمرار الاستثمار في استكشاف وتطوير حقول النفط والغاز في العراق وهو الامر الذي قد نتعرف عليه لاحقا في جولات التراخيص القادمة.. وبالطبع فان هذا يلقي تحديا حقيقيا على الجهد المحلي والشركات الوطنية لتعويض اي نقص قد يحدث. شركة شل العالمية المعروفة وخلال مؤتمر اخير لها فوجئت بالمتظاهرين من انصار البيئة، يهاجمون المؤتمر ويحاولون الإعتداء على المشاركين فيه، وكل ذلك لدفعهم نحو المزيد من التخلي عن النفط والاستثمار فيه والتوجه نحو الطاقة المتجددة.. وكمثال اخر نشير الى انه في بلد غربي ومنتج رئيسي للنفط كالنرويج توجد حركة اجتماعية وسياسية نشطة تدعو الى وقف إنتاج النفط، واذا كان هذا يحدث في بلد كالنرويج يعتمد في رخائه وازدهاره على انتاج النفط (الى حد كبير) فما بالك بالدول الأخرى؟!
تقرير وكالة الطاقة الدولية يتوقع (أن ينخفض الطلب على البنزين بعد العام 2023 وأن ينخفض استخدام النفط كوقود للنقل بعد 2026 مع تحول السيارات الى الكهرباء).
ومن جهة اخرى فانه بالنسبة للدول المتقدمة اعضاء (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) فان تراجعا في الطلب على النفط سيحدث في وقت مبكر من العام 2024.. لكن ذلك سيكون معاكسا لما قد يحدث في الاقتصادات الناشئة التي سيزدهر فيها الطلب على المنتجات البتروكيماوية وينمو الاستهلاك، الامر الذي (سيعوض على نطاق واسع) انكماش الطلب في الاقتصادات المتقدمة. وبالنسبة للفترة بين عام 2022 و 2028 فان الطلب العالمي سيزداد بنسبة ستة في المائة ليصل الى 105.7 مليون برميل يوميا، وسيأتي هذا النمو في الطلب من (قطاعي البتروكيماويات والطيران).
ويصل التقرير الى نتيجة (صادمة)، فيشير (على الرغم من هذه الزيادة التراكمية من المتوقع ان ينكمش نمو الطلب السنوي من 2.4 مليون برميل يوميا هذا العام الى 0.4مليون برميل فقط في العام 2028 مما سيشكل بلوغ الطلب الذروة ...!!).
ما الذي سيحدث بعد هذا التاريخ؟ المنطق البسيط يقول انه بعد الذروة لا بد ان ياتي الهبوط، الذي قد يكون هبوطا سريعا او بطيئا ....
وكالة الطاقة الدولية لا تتوقف عند بلوغ هذه النتيجة والتي يمكن اعتبارها (طموحا مشروعا) لديها، ولكنها تعود وتؤكد في التقرير ذاته: ((ان خفض الطلب قبل هذا العام (تقصد عام 2028 ) بما يتماشى مع رؤية وكالة الطاقة الدولية بشان تصفير انبعاثات غازات الدفيئة (المسؤولة عن الاحتباس الحراري) بحلول عام 2050 يتطلب تدابير سياسية اضافية وتغيرات سلوكية)). ماذا يعني تصفير انبعاثات غازان الدفيئة؟ انها قد تعني من وجهة نظر مقابلة (تصفير انتاج النفط)، او (تصفير موازنات بعض الدول) وهي نتيجة خطيرة تطمح وكالة الطاقة الدولية لتحقيقها بحلول عام 2050. مرة اخرى ... هذه التقديرات ليست نصوصا مقدسة فنفس وكالة الطاقة الدولية هذه ذكرت في تقريرها السابق عام 2020 والذي كان بعنوان (الآفاق العالمية للطاقة المتجددة ): (أن الطلب العالمي على النفط سيرتفع على الرغم من ارتفاع من ارتفاع الأسعار، ويبلغ ذروته قبل ان يستقر بعد العام 2035).
قد نسمع تقريرا مغايرا ياتي من (أوبك) او غيرها من جهات التقدير المتعددة الا ان اهمال مثل تلك التقديرات التي تطلقها وكالة الطاقة أو غيرها لا يعد سلوكا عقلانيا خصوصا في الدول المنتجة كالعراق.
الامر المتيقن في المشهد الدولي ان هناك زخما قويا متحققا من قبل انصار البيئة وهذا الزخم له صور اجتماعية وسياسية باتت تضغط بقوة على صانعي القرار باتجاه محاصرة صناعة النفط وتقليص انشطتها. كما تضغط باتجاه اعتماد سياسات الطاقة المتجددة. لا أحد في العالم كله يتوقع لهذا الزخم أن يتراجع طالما أن الكوارث البيئية مستمرة بلا توقف ... إذن هناك عنصر جديد في السوق يقلب كل معادلاتها ولا يمكن إغفاله او القفز عليه.. وهذا الوضع المستجد سوف يقرر سياسات الإستهلاك والإنتاج والإستثمار خلال السنوات القادمة... هناك فقط سبعة وعشرون عاما تفصلنا عن عام 2050 الذي تطمح وكالة الطاقة الدولية لجعل الانبعاثات فيه من غازات الدفيئة تساوي صفرا ... انه طموح كبير قد يتحقق او قد يتاخر عن الموعد المضروب بضع سنين أخرى، ولكن يبقى الأمر مثيرا لاهتمام الدول المنتجة ..
نضع هذا التقرير أمام المهتمين بشان المستقبل والتنمية في هذا البلد... ان عام 2050 ليس ببعيد على الاطلاق.. ونافذة التنمية وانتشال الاقتصاد العراقي تضيق مع كل يوم يمر دونما افعال حاسمة.. ونحن اليوم مع هذا التقرير او غيره من التوقعات امام حقائق (صادمة) يتعين اخذها في الحسبان.
ربيع النفط قد ينقضي سريعا... وأسرع مما يتوقع البعض، وعندها سيبدأ (خريف) من نوع آخر في الاقتصاديات المعتمدة على النفط.. هذا الخريف قد يكون معتدلا وذا نسائم لطيفة في الدول التي استعدت لذلك اليوم وجهزت البدائل.. وقد يكون خريفا قاسيا في الدول التي لم تفعل ذلك!