«أطفالنا المنبوذون» غريزة الأمومة أقوى من النواميس والأعراف الاجتماعية
17-آب-2023
عدنان حسين أحمد
تميل المُخرجة البلجيكية باسكال بورغو إلى الاستقصاء لكنها لا تتبناه كمنحىً أسلوبي للوصول إلى المعلومة الخبرية التي تخدمها في شيء مُحدد ولكنها تطرح من خلالها أسئلة عويصة وشائكة تضرب في الصميم كما هو الحال في فيلمها الوثائقي الجديد الذي ينضوي تحت عنوان " أطفالنا المنبوذون" الذي تدور أحداثه منذ 3 آب / آغسطس 2014م؛ اليوم الذي سيطرت في قوات داعش الإرهابية على مدينة سنجار وضواحيها، وقتلت المئات من الرجال، وسَبَت بضعة آلاف من النساء، قدّموا البعض منهنّ كمكافأة "للمجاهدين" وباعوا البعض الآخر بمزايدات علنية في أسواق النخاسة في الموصل والرقة وغيرها من المدن والبلدات التي يسيطرون عليها، واستمرت حتى يوم الناس هذا. لم تأخذ باسكال من هذا المُعطى الخبري المتاح للجميع إلاّ ما يُمهِّد للولوج إلى الحدث الصادم الذي يهزّ مشاعر المتلقين المُرهفة ويأخذ بتلابيب الغالبية العظمى منهم. فثمة فتاة تتوارى خلف اسم مُستعار لأسباب أمنية تُدعى "آنا"، تبلغ من العمر 19 عامًا في أثناء الهجوم الداعشي على سنجار وضواحيها، وسوف تُقدّم كهدية لأحد الداعشيين الذين أحكموا سيطرتهم على المدينة فيغتصبها وتنجب منه طفلة تحمل هي الأخرى اسمًا مزّيفًا يُدعى "ماريا" للسبب الأمني نفسه. وحينما يُخلى سبيلها تُخيّر من قبل عائلتها وأقاربها بين التخلّي عن طفلتها التي تبلغ من العمر سنة واحدة فقط أو تُحرم من العودة إلى المجتمع الإيزيدي من جديد لأنّ والد ابنتها داعشي قتل العديد من أبناء الطائفة الإيزيدية، كما أنهم لا يسمحون لـ "أبناء العدو" الذين تسري في عروقهم دماء داعشية أن يعيشوا بين ظهرانيهم على الرغم من أن الأطفال لا ذنبَ لهم في هذه الجريمة، وأن الضحايا من الفتيات أو النساء بريئات ولا يتحملن وزرَ جريمة الاغتصاب التي حدثت عنوة وتحت تهديد السلاح. يلامس هذا الفيلم ثيمة إنسانية وحسّاسة جدًا مفادها عاطفة الأمومة التي تتحرّك في أعماق الضحايا اللواتي ينتصرنَ، في الأعمّ الأغلب، إلى فكرة استعادة أطفالهن حتى لو تطلّب الأمر نفيهنَ من المجمتع الإيزيدي وهذا ما حصل لمئات الأمهات اللواتي حصلت عوائلهن على حق اللجوء في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا وعدنَ مجددًا إلى كوردستان العراق وسوريا ليستعدنَ أطفالهن من دور الأيتام في كلا البلدين ويندمجوا في المجتمعات الجديدة التي توفر لهم الحرية، والدراسة، والعمل، وحق العيش الكريم.
إيزيديات عراقيات ضحايا العنف والاستعباد الجنسي الداعشي
اختارت المخرجة باسكال بورغو أن تبدأ فيلمها الوثائقي بحلم جميل لكنه سيتحول تدريجيا إلى كابوس ثقيل. إذ رأت في المنام أنها كانت تحمل ابنتها الصغيرة بيدها، وتقبّلها تارة، وتشمّها تارة أخرى لكنها ما إن سمعت وقع خطوات قريبة حتى ارتعبت وركضت باتجاه النافذة فرأت رجلا يقترب فأشعَرها بالخوف فخبأت ابنتها تحت ملابسها جيدًا وحينما دخل الرجل لم يرَ شيئًا لكنها تلوم نفسها كثيرًا لأنها في الحياة الحقيقية لم تستطع أن توفّر لها الحماية. تعرّض الكثير من الإيزيديات المُختطَفات إلى الاغتصاب والاستعباد الجنسي من قبل "الجهاديين" وأصبحنَ حوامل لكنهنَ آثرنَ السكوت غير أنّ البعض منهن كسرنَ حاجز الصمت كما هو الحال مع "آنا" التي قدّمت شهادتها الوافية عن الاغتصاب وإنجاب طفلتها "ماريا" لكنها طلبت من المخرجة ألاّ تظهر وجهها لأسباب أمنية واجتماعية فهي لا تريد لأحد من عائلتها أو من المجتمع الإيزيدي المنغلق على نفسه أن يعرف بهذه الرحلة عبر الأراضي الكوردستانية في سورية والعراق.
قُرعة على النساء الإيزيديات لمكافأة الدواعش الذين اشتركوا في مجزرة سنجار
تتشابه سرديات الأسر والسبي والاغتصاب في مجزرة سنجار وإن اختلفت القصص والحكايات. تروي "آنا" القصة من وجهة نظرها فتقول:"حينما احتلوا القرية جمعوا كل الرجال والنساء. وكان "الجهاديون" مُرعبين، فهم مدججون بالأسلحة، ولديهم لُحىً طويلة. فصلوا الرجال عن النساء، وقتلوا بعض الرجال. أمّا الفتيات الشابات مثلي فأخذونا إلى الموصل بسيارات "البيك آب". وبقينا في الموصل لمدة تسعة أيام ثم نقلونا إلى سورية. وفي إحدى القرى هناك نظّموا قُرعة تضم أسماء الفتيات في جانب وأسماء الداعشيين الذين قاتلوا في سنجار في الجانب الآخر وكان بينهم مقاتلون عربًا من تونس وليبيا. وقد كافؤوا كل مقاتل بفتاة أو امرأة إيزيدية. ومن تعترض أو ترفض كانت تتعرّض للضرب المبرّح. أمّا أنا فقد أعطوني إلى رجل "جهادي" كوردي قال لي لحظتها:"أنتِ مُلكي لي منذ الآن!" فشعرت بالخوف المميت. ومع ذلك فقد اغتصبني وشعرتُ بأنّ حياتي لن تكون هي نفسها بعد الاغتصاب، خاصة وأنّ الاغتصاب قد أصبح فعلاً روتينيًا يحدث كل يوم مثل أي شيء عادي. أصبحت حاملاً وحينما أخبرته شعر بسعادة كبيرة لكنني لم أرد الطفل وفعلتُ بكل ما بوسعي لكي أتخلّص منه فحملتُ أشياء ثقيلة، وقفزت مرات عديدة لكنني لم أفلح في إجهاضه. وحينما ولدتُ طفلتي رأيتها بريئة جدًا فحاولت أن أطمر مشاعر الأمومة لكنني بدأتُ أقترب منها وأتعلّق بها يومًا بعد يوم".
تتوقف المخرجة عند الفخ الذي نصبته العائلة لـ "آنا" وجرّدوها من طفلتها ووعدوها بأنها سوف تراها بعد يومين، وأنّ كل الأمهات قد سقطنَ في المصيدة المنصوبة ذاتها. ولو كانت تعرف بهذه الأكاذيب المُدبرة لفضّلت الموتَ هناك.
الناجون من مخالب داعش يتعمّدون ثانية حتى يصبحوا إيزيديين من جديد
تنوّع المُخرجة في تصوير المَشاهد والاحداث لكي تتفادى السقوط في خانق الرتابة والملل فتأخذنا معها في رحلة إلى معبد لالش حيث نصادف العديد من الأمهات اللواتي يبكين فقدَ بناتهنَ، ويطلبنَ من الله جلّ في علاه أن ينتقم من الجُناة، ويتحقق العدل، وتنتصر الإنسانية في خاتمة المطاف. وبما أنّ سيناريو الفيلم مكتوب بالتعاون مع المخرج والسينارست السوري محمد شيخو، المقيم في باريس حاليًا، وهو الملِّم بالطائفة الإيزيدية فقد دلّها وأرشدها إلى الموروث الديني وبعض الطقوس التي يمارسها الإيزيديون في معبد لالش مثل يوم "الأربعاء الأحمر" أو يوم" السنة الجديدة" الذي تكسر فيه المخرجة إيقاع الفيلم المُحزن إلى حدٍ كبير. ونرى مراسيم التعميد للأطفال في ينبوع كاني سباي حيث تتمنى لهم المُعمدة صحة جيدة، وجسدًا معافى، وحياة هانئة، سعيدة، طويلة. كما تسلّط الضوء على الناجين من مخالب داعش حيث يتوجب على كل ناجٍ أن يأتي إلى لالش ويتعمّد ثانية حتى يصبحوا إيزيديين من جديد.
تتفاوت وجهات نظر النساء الإيزيديات فبعضهن يصرّحنَ بالفم الملآن بأنهنّ لا يربينَ "أطفال الأعداء" لأنّ أباءهم بغيضون وشريرون عذّبوا الإيزيديين وقتلوا الكثير منهم، واغتصبوا الفتيات والنساء، وباعوهن في الأسواق بأبخس الأثمان. بينما يقترح البعض الآخر منهنّ على تبنّي هؤلاء الأطفال واحتضانهم لأنهم بريئون من كل التُهم المُوجهة إليهم. لم تكن "آنا" تعرف مكان ابنتها فشعرت بالتيه والضياع لكنها التقت ذات مرة بإيزيديين طيبين ويمتلكون قدرًا كبيرًا من الرحمة والإنسانية ووعدها أحدهم بأنه سوف يبذل قصارى جهده للعثور على ابنتها فتصورت أنّ هذا الوعد مجرد كلام لكنها تلقّت ذات يوم اتصالاً هاتفيًا من الشخص نفسه وأخبرها بأنه موجود في دار أيتام يضم أطفالاً أمهاتهم إيزيديات وربما تكون ابنتها بين هذا العدد الكبير من الأطفال فشعرت بسعادة لا حدود لها. وحينما أرسل لها عددًا من الصور تعرّفت على ابنتها، وطلبت منه أن تتحدث معها عبر مكالمة فيديوية مُصوّرة انفجرت على إثرها بالبكاء وطلبت من المتصل أن يحتضن طفلتها بالنيابة عنها. فلا يجوز تعميم الكلام على أن جميع الإيزيديين كانوا يرفضون استعادة الأطفال ودمجهم بالمجتمع الإيزيدي من جديد.
"كريمة" تهرب من سنجار لكي تعثر على ولدها حتى وإن كان أبوه داعشيًا!
لم تتحمل "آنا" هذا الفراق القسري الطويل الذي تفرضه النواميس والأعراف الإيزيدية فقررت أن تذهب إلى هناك وترى ابنتها التي أُبعِدت عنها قرابة السنة ونصف السنة، وقد ساعدها بعض الناس في السفر خفية إلى مدينة أخرى في العراق وأرشدوها إلى دار الأيتام لكن الأيام كانت تمرّ سريعًا مع ابنتها التي بدأت تكبر وتشعر بغياب الأم التي أنجبتها ومع ذلك فقد قررت العودة إلى أهلها الذين اكتشفوا بعد مرور أسبوع واحد بأنها قد ذهبت إلى دار الأيتام فغضبوا عليها ووبّخوها بقوة لأنهم كانوا يخشون أن تغادرهم إلى الأبد فهم يعرفون في أعماقهم بأنّ غريزة الأمومة أقوى من النواميس والأعراف الاجتماعية فعاقبوها، ومنعوها من الخروج، وحرموها من استعمال الهاتف النقّال لكنها كانت أقوى من كل هذه الإجراءات المُشدّدة حينما يتعلّق الأمر بمشاهدة ابنتها أو اللقاء بها من جديد. صادفت "آنا" في واحدة من هذه الرحلات الداخلية نعجة تنجب مولودها الجديد وترعاه ما إن يخرج من رحمها فكيف يطلبون منها أن تهجر ابنتها إلى الأبد؟ تتشابه مشاكل الفتيات الإيزيديات فقريبتها "كريمة" أنجبت هي الأخرى طفلاً من "مُجاهد" داعشي وحُرمت منه لكنها ترى في هذا الطفل روحًا إنسانية لم تقترف جُرمًا ما وأنّ دماءها تجري في عروق هذا الطفل الذي تحتضنه دار الأيتام، فلاغرابة أن تهرب "كريمة" من سنجار لكي تعثر على "فلذة كبدها" حتى وإن كان أبوه داعشيًا!
تتوقف "آنا" في أحد الأسواق الشعبية وتتصل بالإنسان الإيزيدي الخيّر الذي ساعدها في الوصول إلى ابنتها وتسأله عن طول قامتها، وحجم الحذاء الذي ترتديه لتقتني لها ما يليق بهذه المناسبة الكبيرة، وهي لا تريدها أن تكبر في دار الأيتام ولابد أن تجد لها حلاً حيث قررت في لحظة إشراقية أن تمنح حق حضانة الطفلة مؤقتًا إلى جدّيها من ناحية الأب، وهذا القرار الشجاع يضعها في دائرة "المُغايرة والاختلاف"، فالأجداد قد يتحملون بعض المسؤولية في تربية أبنائهم لكننا لا يمكن أن نضع الثقل الأكبر عليهم إذا ما شبّ الابن عن الطوق وصار يتخذ قراراته بنفسه من دون الرجوع لأحد. حينما كانت "آنا" في الأسْر اتصلت بوالديّ زوجها اللذين هنؤوها بهذه الزيجة لكنهما لم يعرفا بأنها إيزيدية، وهو الأمر الذي كانت تتوجس منه خيفة، وبمرور الوقت، وتواصل المكالمات الهاتفية، وزوال حاجز اللهجة التي بدأت تتجاوزها شيئًا فشيئًا انفتحت على الأم وصارت تبوح لها بكل شيء فأحبتها الأم الطيبة وسنكتشف لاحقًا أنها متفتحة أكثر من متعلمين ومثقفين كثيرين. وكان رجاؤها الأول أن "أخبري ابني أن يتخلى عن داعش". وأن يعود إلى الحياة الطبيعية التي يعيشها غالبية الناس ووعدتها بأن ترسل لها النقود في أي وقت تشاء كي تهرب مع زوجها إلى تركيا وتستقر هناك لبعض الوقت ولكنها كانت تخشى من ردة فعل زوجها الذي غسل التنظيم دماغه.
اغتصابات متعددة وصعوبة في معرفة الآباء البايلوجيين لأبناء داعش
تتابع باسكال بورغو الطفلة "ماريا" في دار الأيتام في الحسكة بكوردستان هذه المرة وتسلط الضوء على مشكلة أخرى أكثر تعقيدًا وهي أنّ بعض النساء قد تعرضنَ لاغتصابات متعددة من داعشيين مختلفين حتى بات من الصعب معرفة الآباء البايلوجيين لهؤلاء الضحايا لكن الهمّ الأول للنساء الإيزيديات لم يكن مُنصبًا على معرفة الجينات الوراثية وإنما العثور على أبنائهن ولمّ الشمل حتى لو تطلّب الأمر وقتًا طويلاً جدًا.
تستثمر المخرجة شخصيات أخرى في متن هذا الفيلم الوثائقي مثل زينب ساروخان، المرأة السياسية والحامية لحقوق النساء والأطفال التي تريد حلاً دوليًا لمأساة المرأة الإيزيدية وهي تراهن على أنّ المجتمع الإيزيدي سوف يقبل بعودة الأطفال إلى أمهاتهم، ولمّ شملهم من جديد. كما التقت المخرجة بـ "بيتر غالبريث"، الكاتب، والمستشار السياسي، والدبلوماسي الأمريكي السابق، والمدافع القديم عن حقوق الشعب الكوردي الذي جمع شمل العديد من أطفال سنجار بأمهاتهم وقد رأيناه يعرض فيديو على هاتفه المحمول للأمهات الإيزيديات اللواتي لم يرينَ أطفالهن لمدة سنتين وردود فعل الأطفال الذين لا يمتلكون أدنى فكرة عمّا يحدث أمام أعينهم.
وعودًا على "آنا" التي لم ترَ ابنتها "ماريا" منذ أربع سنوات وهي تتلهف للقائها بعد هذا الفراق القسري الطويل نشاهدها وهي تحتضن ابنتها بطريقة مؤثرة تذرف من خلالها دموعًا كثيرة قبل أن تستعيد هدوئها النفسي وتكتشف أن ابنتها قد كبرت وصارت أجمل من ذي قبل. ثم يدور حوار إنساني عميق تشكر فيه آنا والديّ زوجها على حبهما للطفلة ورعايتهما الكبيرة لها. ولا غرابة في ذلك فهي حفيدتهما الوحيدة، وأنّ ما فعلوه معها هو أمر طبيعي ربما يفعله أي جدّين تجاه حفيدهما الوحيد، لكن المشكلة الكبيرة أن الأب "المجاهد" يقبع في السجن، وأنّ "ماريا" لا تستطيع العودة مع أمها للظروف الاجتماعية التي ذكرناها سابقًا فيما يتعلّق بالأطفال الداعشيين بوصفهم "أبناء الأعداء" و "أبناء زنى" وما إلى ذلك.
جَدة متفتحة لا تنتصر للعرق والدين والطبقة الاجتماعية
تنتصر المخرجة باسكال بورغو لآراء الجدة التي تحمل قدرًا كبيرًا من الإنسانية والمدنية والتحضر الذي يفوق عشرات المرات آراء الكثير من المتعلمين المتعصبين لعرقهم وديانتهم وطبقتهم الاجتماعية فهي تقول:"نحن نريد السلام. ولا فرق بين المسلمين والمسيحيين والإيزيديين، فكل الديانات متساوية والجميع مُرحب بهم في منزلنا. كما أننا لا نهتم بأية لغة يتحدثون أو من أين جاؤوا؟ فنحن نرى جميع الأطفال أطفالنا".
تأخذ "آنا" ابنتها إلى حديقة في الجوار وتضعها على أرجوحة كبيرة في لقاء حميمي جميل لكن الغصة في الصدر ماتزال تؤرقها، وتطلب منها حينما تعود إلى المدرسة ألاّ تبكي ثانية لأنها ستعود إليها ذات يوم وتعدها بالكثير من الهدايا التي تحبها. فحينما تنتقل، هي وعائلتها، إلى الخارج كما هو شأن الضحايا من الإيزيديين فإنها ستفعل بكل ما في وسعها لكي تستعيد ابنتها ولهذا فقد حافظت على سرية التصوير وأبقتهُ بعيدًا عن متناول المجتمع الإيزيدي الذي لا يرحب بعودة "الأطفال " إلى أمهاتهم لكنها كانت واثقة بأنّ سيقبلون، في خاتمة المطاف، بعودة حفيدتهم إلى العائلة الكبيرة التي ترمم جراحها بالرأفة والرحمة واحتضان الطفلة التي لا ذنب لها فيما حدث لأمها من جريمة نكراء يندى لها جبين الإنسانية خجلاً.
لم ترسم المخرجة باسكال بورغو نهاية صارمة لهذا الفيلم وإنما تركته مفتوحًا على أمل عودة الأم للقاء ابنتها والعودة بها إلى بلد اللجوء الجديد الذي سيكفكف دموعها ويأخذ بيد ابنتها إلى مستقبل مغاير لا تلوح في أفقه المفتوح مآسٍ وفواجع جديدة.
أكثر من 1000 أم إيزيدية رفضنَ العودة إلى مجتمعهن الإيزيدي
ثمة معلومات مركّزة ومقتضبة نقرأها على الشاشة الكبيرة مفادها: أنّ الإيزيديين يرفضون وجود هؤلاء الأطفال الذين ولدوا عن طريق الاغتصاب من قبل "الجهاديين". كما تتبنى السلطات العراقية والكوردية هذا الموقف المتشدد الذي يخلو من النظرة الإنسانية. ولكي تتفادى الأمهات أمر الانفصال عن أطفالهن فقد رفضت أكثر من 1000 أم إيزيدية العودة إلى مجتمعهن الإيزيدي سواء في سنجار وضواحيها أو في بلدان الشتات وهنّ مسجلات رسميًا كمفقودات.
وفي ختام هذه القصة الدرامية المفجعة أهدت باسكال بورغو فيلمها "إلى الناجيات الإيزيديات وأطفالهنّ الذين وُلدوا جرّاء الاغتصاب، وإلى أولئك الذين يساعدونهم سرًا. كما لم تنسَ أن تُهدي الفيلم إلى أولئك الذين ساعدوا في إنجاز هذا الفيلم طوال 8 سنوات، وإلى جدة ماريا التي ماتت جراء السرطان، وإلى زينب ساروخان، الناشطة في حماية حقوق المرأة والطفل، ورئيسة لجنة دور الأيتام التي قُتلت بواسطة طائرة تركية من دون طيّار داخل الأراضي السورية.
جدير ذكره أنّ باسكال بورغو (1968م) هي مراسلة رئيسية للتلفزيون البلجيكي. غطت حروب كوسوفو وأفغانستان والعراق. أنجزت العديد من الأفلام ونالت عنها جوائز عديدة من بينها "الاغتصاب في الجيش الأمريكي" 2008م، و "دموع أمير حرب أفغاني" 2012م، و "إيران في ظل نظام العقوبات" 2013م، و "يهود إيران" 2013م، إضافة إلى فيلم "حوار، أطفالنا المنبوذون" 2023م الذي عرض في عدة مهرجانات أبرزها "ڨشنز دو ريل" و "فالوني بروكسل إيمج".