«الضاحك الباكي»... سيرة نجيب الريحاني العصية
5-تشرين الثاني-2022
حميدة أبو هميلة
أخيراً، خرج المشروع المتعثر للنور بعد سنوات طويلة وترشيحات من هنا وهناك وبروفات يعقبها صمت، وانطلاق ثم تأجيل يتبعه إيقاف. جاءت الحماسة بعد انطفاء، وشاهد الجمهور نجيب الريحاني مجسداً على الشاشة من خلال مسلسل "الضاحك الباكي"، إنها سيرة ذاتية عن نجم كوميدي صاحب مسيرة تراجيدية، لديه مدرسة تخصه في فن التمثيل، وأحد أهم رموز المسرح العربي، كذلك أشهر من قدموا القصص الاجتماعية شبه السوداء في قالب كوميدي مميز ومبتكر في السينما المصرية، ورغم قصر مشواره في عالم الفن السابع فإن مساحات بصمته شاسعة وواسعة. إذاً القصة والتنفيذ والأداء من المفترض أن يغلب عليها الثراء والتميز، فهل هذا ما حدث فعلاً؟!
المؤكد أن الجدل الذي في أغلبه جاء سلبياً، بعد بدء عرض حلقات "الضاحك الباكي" تأليف محمد الغيطي وإخراج محمد فاضل وبطولة عمرو عبدالجليل، فتح ملف أزمة أعمال السير الذاتية في العالم العربي، ولا سيما تلك التي تتحدث عن مشاهير الفن، فيما يكون لنجوم الكوميديا منها النصيب الأصغر، حيث الاهتمام بالشخصيات التي رسمت البسمة على الوجوه غير كاف بالمرة، فالجاذبية دوماً للمطربين والممثلين ممن كانت حياتهم درامية، على رغم أن أغلب نجوم الكوميديا لم تكن معيشتهم الواقعية تشبه لقطاتهم المضحكة أمام الكاميرا أبداً.
نجوم غير محظوظين أم استهانة متعمدة؟
فجر العمل القضية المتجددة، لماذا لا ينجح نقدياً وجماهيرياً من أعمال السيرة الذاتية لمشاهير الفن في العالم العربي سوى قلة قليلة؟ وللمفارقة كان لمحمد فاضل بصمة في أحدها، وهو "ناصر 56" الذي قدم لمحات من حياة الرئيس جمال عبدالناصر، وجسد الشخصية الراحل أحمد زكي عام 1996، كما نجح زكي كذلك في فيلمي "أيام السادات" و"حليم"، ومسلسل "الأيام" بشخصية عميد الأدب العربي طه حسين.
لكن كذلك كان لمحمد فاضل تجربة مع فيلم "كوكب الشرق" من بطولة زوجته الفنانة فردوس عبدالحميد، لكنه واجه حينها عاصفة نقدية ضخمة حينما عرض عام 1999، وشهد العام نفسه مسلسلاً ناجحاً عن سيرة "ثومة" من بطولة صابرين، وإخراج إنعام محمد علي، وتأليف محفوظ عبدالرحمن.
المفارقة أن الاتهامات نفسها تتكرر، وهي أن المخرج المخضرم صاحب مسلسلات هي علامات حقيقية في الدراما العربية مثل "الرايا البيضا" و"رحلة السيد أبوالعلا البشري" و"الشارع الجديد" و"ما زال النيل يجري" و"ليلة القبض على فاطمة" و"أحلام الفتى الطائر"، يصر على إسناد أدوار رئيسة في أعماله إلى زوجته الفنانة البارزة فردوس عبدالحميد (75 سنة)، حتى لو كانت مواصفات الشخصية بعيدة، مثلما حدث في "الضاحك الباكي".
وظهرت فردوس في أول حلقة بدور أم شابة لأطفال صغار أحدهم رضيع، وهو أمر استهجنه كثيرون، وكان إحدى نقاط الانتقاد التي واجهت العمل الذي يأتي تأكيداً جديداً أن مسلسلات السير الذاتية لمشاهير الكوميديا عربياً "غير محظوظة" في أقل تقدير، فعلى رغم القدرة الكبيرة التي يتمتع بها الفنان عمرو عبدالجليل على الإضحاك بلا مجهود، فإنه بحسب كثير من المتخصصين، بينهم الناقد طارق الشناوي، "لم يكن ملائماً" بالمرة لشخصية صاحب "غزل البنات" و"سي عمر" و"لعبة الست".
انتقادات للأبطال والمخرج "لا يناقش"
بالنظر إلى حالة المسلسل ككل فهناك محاولات ليبدو عبدالجليل بمظهر قريب من الريحاني، لكن الشكل وحده لا يكفي، إذ إن الممثل الشهير يبدو أنه يمثل بطريقته شبه الارتجالية المعروفة، ويطلق إيفيهاته على طريقته هو، غير عابئ بتفاصيل الدور الذي له خصوصية كبيرة.
اللافت أن الشخصية كان قد ترشح لأدائها أكثر من نجم سابق، بينهم هشام إسماعيل وأشرف عبدالباقي، لكن وقع الاختيار على نجم "كلمني شكراً"، وهنا بالطبع اللوم لم يتوجه إليه وحده، بل أولاً إلى قائد العمل المخرج محمد فاضل (84 سنة) العائد للدراما بعد غياب 10 سنوات، إذ حرص على الرد في تصريحات تلفزيونية واصفاً الآراء السلبية بالحملة التي تهدف إلى النيل منه.
وأكد فاضل أنه "لا يناقش" في اختياره فريق العمل، مشيراً إلى أنه منذ 30 سنة يتعرض لهجوم بسبب تعاونه الدائم مع زوجته فردوس عبدالحميد، ولم يعد يأبه، وأن هناك من يتربص به، فيما علق المؤلف محمد الغيطي على اختيار عمرو عبدالجليل للبطولة في لقاء تلفزيوني أيضاً، مؤكداً أن الأخير "يقدم كوميديا تشبه الريحاني"، رافضاً أي اعتراضات على سيناريو العمل ودقته، مشدداً على أنه "ذاكر جيداً لمدة سنوات، وحرص على أن يطرح الحقائق التاريخية بعد توثيقها".
نظرية المؤامرة تعود مع "الضاحك الباكي"
فمن الملاحظ أن موجة الهجوم صاحبتها حملة دفاع من طاقم العمل، إذ يحظى المسلسل الذي تدور أحداثه بداية من نهاية القرن العشرين باهتمام ومشاهدة عالية، نظراً إلى طرحه في موسم درامي يلقى رواجاً دائماً، نظراً إلى قلة عدد الأعمال الجديدة المعروضة في الوقت الحالي عبر الفضائيات المصرية.
وعلى رغم التبريرات التي تتردد على ألسنة فريق المسلسل فإن كثيراً من النقاد يعتقدون أن الثغرات أكثر من الإيجابيات، يقول الناقد طارق الشناوي، "هناك تحفظات كثيرة على العمل بداية حتى من الاسم الذي يكشف عن أنه مأخوذ نصاً من عنوان كتاب شهير صدر نهاية السبعينيات للكاتب الراحل فكري أباظة الذي تناول سيرة مؤلفه".
وبحسب الشناوي فإن اختيار البطل عمرو عبدالجليل "كان خطأ كبيراً"، لأنه وعلى رغم موهبته الكبيرة فإنه "لا يتمتع بالقدرة على تقمص وتلبس الشخصيات، فمدرسته التمثيلية هي أن يطبع الدور ليجعله يشبهه هو، ويقدمه بطريقته، بالتالي فمن الصعب أن يتم تسكينه مثلاً ليجسد شخصية تاريخية بارزة بعيدة من طبيعته". أما عن فردوس عبدالحميد فيرى أن هذا الدور "لا يتوافق معها سواء من الناحية العمرية أو الوجدانية"، لافتاً أيضاً إلى أنه لا جدال على تميز وجدارة المخرج محمد فاضل.
واعتبر الشناوي أن استخدام النبرة الهجومية المتمثلة في أن انتقاد العمل يشكل مؤامرة تضر بالدراما المصرية وسمعتها، هو "سلاح انتهى عمره الافتراضي". لافتاً إلى أن النقاد أنفسهم الذين تحفظوا على مستوى "الضاحك الباكي" أشادوا بقائمة طويلة من الأعمال الدرامية المصرية الجيدة، بينها مسلسلات لمحمد فاضل نفسه، بالتالي فالأمر "ليس له علاقة إلا بعمل معين دون المستوى". مضيفاً "الحقيقة أن أعمال فاضل على قلتها خلال العشرين عاماً الأخيرة تشير إلى أنه لم يهضم أبجديات وألوان التكنيك الدرامي المتغير، فالمشاهد لم يعد يرضى بما كان يسعده في التسعينيات مثلاً، فالشاشة تغيرت، وكذلك الإيقاع، بالتالي فـ(الضاحك الباكي) عمل ينتمي ببساطة إلى عصر ما قبل الألفية الثالثة".
تجارب متفاوتة وتحديات أساسية
يبدو المشهد كأن المعاناة التي عاشها نجوم الكوميديا تكتمل مأسويتها بأعمال دون المستوى تجسد حياتهم، وكأنه استخفاف متعمد، فبالعودة 13 عاماً إلى الوراء فإن أجواء مشابهة صاحبت عرض مسلسل "أبوضحكة جنان"، الذي جسد فيه الفنان أشرف عبدالباقي شخصية الكوميديان الشهير إسماعيل ياسين، حين اتهم العمل الذي أخرجه محمد عبدالعزيز، وكتبه أحمد الإبياري، باحتوائه على مغالطات على رغم مشاركة ياسين نجل إسماعيل ياسين في كتابة السيناريو.
كما واجه انتقادات أيضاً تتعلق بالتقمص، إذ قدم عبدالباقي في كثير من المشاهد شخصية إسماعيل ياسين من منطلق أدواره، وليس كما كانت على أرض الواقع، محاولاً التشبه بإسماعيل ياسين كما ظهر في الأفلام، وهي نقطة ضعف سببت انقساماً في الآراء حول العمل الذي واجه سخرية كذلك بسبب مستوى المكياج والملابس.
ومع ذلك يبدو "أبوضحكة جنان" أفضل حالاً بالنسبة إلى النقاد من مسلسل نجيب الريحاني "21 يناير (كانون الثاني) 1889 - 8 يونيو (حزيران) 1949"، فيما حالة تقديم شخصيات نجوم الكوميديا على الشاشة ككل تتميز بالفقر الشديد بشكل عام، فمع باعهم الطويل وبصمتهم وإسهاماتهم، لا يقترب منهم كثير من صناع الدراما، فنادراً ما نجد اهتماماً لظهورهم في الأعمال التي تتناول حقباً تاريخية من منطلق فني.
في عام 2002 جسد الممثل سيد الروبي دور الكوميديان الراحل علي الكسار في مسلسل غنائي حمل عنوان "زمن عماد الدين" من إخراج هاني لاشين، قامت ببطولته دنيا سمير غانم، حيث ظهر الكسار بشكل هامشي، كما استغل الفنان محمد فهيم الشبه بينه وبين إسماعيل ياسين وجسد الشخصية أكثر من مرة بينها محاكاة كاملة له في برنامج "صاحبة السعادة".
لكن ما الأزمة الحقيقية التي تواجه مسلسلات السيرة الذاتية عربياً، ولا سيما التي تتناول مشاهير الكوميديا منها؟ يحاول السيناريست محمد هشام عبية، الذي يحضر حالياً لمسلسل يتناول سيرة حياة الأديبة مي زيادة، تفسير المعوقات التي تواجه مثل تلك النوعية من المشروعات. مشيراً إلى أن هناك رغبة دائمة في تقديم الشخص محل التناول، وكأنه منزه عن الخطايا والأخطاء، باستثناءات نادرة، وهذا في رأيه قد يكون طرحاً مقبولاً لو كان العمل من زاوية معينة في سيرة الشخص، لكن المشكلة أن "المثالية تضعف الأحداث درامياً، لأنها شيء غير واقعي".
في الحقيقة أنه ليست المصداقية فقط هي ما تقف عائقاً أمام أعمال السير الذاتية، يضيف عبية "هناك أيضاً الخوف من غضب أهل الشخصية، وتدخلهم في الأحداث، وكذلك الاستسهال في كتابة تلك المشروعات، إذ يعتقد البعض أن الجمهور سوف ينجذب للقصة، لمجرد أنها تحمل اسم فنان محبوب، ومن غير المهم التركيز في التفاصيل أو التدقيق والاجتهاد والحرص على أعلى معايير الجودة".
ويلفت عبية النظر إلى أن هذا الأمر تكرر كثيراً، مستشهداً بمسلسل سيرة حياة إسماعيل ياسين. مشيراً إلى أنه كان به مجهود كبير، لكنه افتقد شيئاً ما، وهو موقف على ما يبدو يتكرر بشكل أو بآخر في مسلسل نجيب الريحاني، بالتالي فالاعتماد على مبدأ حب الجمهور للشخصية يضر كثيراً بالمنتج النهائي حينما لا يكون هناك اهتمام ببناء درامي للحلقات.
لكن عبية يشير إلى بعض الأعمال الناجية، مثل مسلسل "أسمهان" بطولة سلاف فواخرجي، معتبراً أنه تحرر من كل المعوقات، إذ ظهرت البطلة إنسانة طبيعية تخطئ وتصيب، وفي الوقت نفسه كان هناك مراجع تاريخية قوية للعمل، ومن هنا تخلص من نقاط الضعف الأساسية. التحديات التي تواجه أعمال السير الذاتية عربياً يمكن القفز عليها بسهولة، مثلما نجح عدد من المبدعين سابقاً في أن ينتصروا للمصداقية وللحبكة الدرامية أولاً، وفي ظل المنافسة الشرسة التي جعلت المشاهد يطلع على مئات من المسلسلات والأفلام المهمة في عالم السيرة الذاتية، فالمهمة عربياً باتت صعبة للغاية، وينبغي أن لا يتعامل معها الصناع باستخفاف أبداً.