ابراهيم العريس
كان لافتاً في بعض سنوات الثمانينيات من القرن الـ20 إقدام السينما المصرية الأكثر تقدماً على اقتباس بعض درر الأدب المصري الجديد في أفلام رائعة يتحدث البعض منها عن تعاسة الحياة في الريف، ليشكل جزءاً من واقعية مصرية جديدة سيأتي حديثها في سطور تالية وبعد أن نذكر بالجديد الذي أتت تلك الأفلام تحمله.
ربما يصح أن نقول، بالنسبة إلى السينما المصرية، إن ثمة فئة خاصة في هذه السينما يمكن أن نسميها "السينما الريفية" ولا نعني بهذا مجموعة أفلام تصور الريف، لتتغنى به وتقول ما يشبه "محلاها عيشة الفلاح"، بل هي أفلام حاولت دائماً، بخط كبير أو صغير، أن تصور الريف والحياة فيه تصويراً واقعياً يكشف مآسي هذه المناطق ومآسي سكانها الذين لا يشكل الفقر وحده فاجعتهم الكبرى، بل هناك أيضاً التخلف والعادات المتوارثة، ولعل من أبرز هذه الأفلام "الأرض" ليوسف شاهين، و"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق صالح، و"الحرام" لهنري بركات، وصولاً، مثلاً، إلى "عرق البلح" لرضوان الكاشف. ولقد أدلى المخرج المصري المعروف بدوره في هذا السياق فقدم، انطلاقاً من نصين أدبيين واحداً من أقوى الأفلام في هذا السياق: "الطوق والإسورة".
"الواقعية الجديدة"
يعرف متابعو السينما المصرية أن خيري بشارة الذي كان - ولا يزال - واحداً من أبرز سينمائيي "الواقعية الجديدة" إلى جانب محمد خان، والراحل عاطف الطيب، وداوود السيد، وعلي بدرخان. بدأ حياته السينمائية مخرجاً للأفلام الوثائقية ذات الموقف السياسي غالباً. وهو إذا كان في أفلامه الطويلة بعد ذلك قد توصل إلى الإفلات من براثن السياسة المباشرة، فإن عينه التسجيلية الموثقة الراصدة، ظلت ماثلة لديه بكل قوتها وزخمها. ولقد بدا هذا الأمر واضحاً منذ فيلمه الروائي الطويل الأول "العوامة رقم 70" من خلال اقتراب الكاميرا من دينامية الواقع - حتى ولو كان مبنياً بصورة تخييلية - كعين "بصباص" تحاول أن تتسلل لتتفرج على أشخاص يبدو أنهم يؤدون أدواراً ما في لعبة معينة.
بيد أن هذا الزخم التسجيلي في رؤية خيري بشارة السينمائية يبدو في "الطوق والإسورة" أكثر وضوحاً، إذ تلفت الانتباه بخاصة تلك الكاميرا التي تكاد تكون أنثروبولوجية خالصة، والتي تنظر عبرها عين المخرج إلى الريف المصري متمثلاً بمنطقة الكرنك فتتحرى عادات الناس وتقاليدهم وأخلاقهم وعلاقاتهم، بحيث إن الصورة جاءت في نهاية الأمر لتقول لنا إن ما أمامنا على الشاشة جزء من حياة يومية ترصدها عين متنبهة ذكية.
غير أن هذا الجزء، الذي حكم بصورة إيجابية لغة خيري بشارة السينمائية، ليس في الواقع سوى الرداء الذي لبسه جوهر الفيلم، لكن هذا الجوهر يغوص، في الحقيقة والعمق، في مكان آخر: في التخييل الذي يطلع من الواقع المرصود بحكاية ترتدي خصوصيتها لتنتقل منها إلى العام وليس العكس. ففي "الطوق والإسورة" حكاية بالمعنى العادي للكلمة: حكاية أم وابنتها، والابن/ الأخ الغائب.
خصوصية الحكاية
والحكاية في هذا الإطار تتخذ خصوصيتها من خصوصية الوضع الذي تعيشه هذه العائلة حيث الذكر مغيب مرتين: مرة من خلال الأب المريض المقعد الذي سرعان ما يموت، ومرة أخرى من خلال الابن/ الأخ الغائب في فلسطين يبحث عن لقمة العيش ويعد بالرجوع، رجوعاً يعقد البيت عليه آمالاً كبيرة، لكن الابن لا يعود. فيبقى البيت البائس أسير حالة أنثوية تتمثل بالأم فردوس عبدالحميد وابنتها شيريهان والحفيدة شيريهان أيضاً التي ستولد لاحقاً من زواج فاشل للابنة. علماً أن ولادتها ستكون إيذاناً بموت الابنة، كما تموت كل امرأة لا يعتنى بها في ريف بدائي جاهل، نتيجة مرض يلي الولادة. وهنا، في الواقع يعطينا المخرج بعض المشاهد في تاريخ السينما العربية، حتى ذلك الحين. ومن نافل القول هنا أن نكون مع تصوير مثل هذه المشاهد أو ضده.
تهيمن على هذا الحضور الأنثوي في البيت، شخصية الأم التي تعيش حياتها ممزقة بين ذكرى زوج طيب متسامح مات، وواقع مجتمع قاس لا يرحم. مجتمع صنعه الرجال على قياس رغباتهم ومخاوفهم، لكنه عاد وصنعهم بدوره وكيفهم.
الخير والشر ليسا قيمة ثابتة في سينما خيري بشارة، بل هما حركة جدلية تتولد عن تضافر الظروف والمرجعيات. في مثل هذا المجتمع قلما يكون هناك جلادون هم غير الضحايا أنفسهم. وكاميرا خيري بشارة تدرك هذا الأمر بكل وضوح، فتتعامل مع الشخصيات الأساسية على أنها ضحايا وإن بدرجات متفاوتة. التبادل بين الجلاد والضحية يتم، في معظم الأحيان، داخل الشخصية الواحدة. فالابن، مثلاً، الذي سيصبح خالاً، بعد أن عاد من غربته الفلسطينية خائب المسعى، عزت العلايلي، هو ضحية قبل أن يكون جلاداً. وهو جلاد من غير اقتناع وإن كان عدم الاقتناع هذا، غير قادر على تبرير ثورته المجانية الساذجة في الدقائق الأخيرة من الفيلم. والحداد، زوج شيريهان الأولى ووالد شيريهان الثانية، رجل بمقدار ما هو ضحية. والأم أيضاً ضحية، لكنها هنا من نوع الضحية التي تتواطأ مع الجلاد... حتى ولو كان جلادها.
حياد ظاهري
لكن من الواضح أن خيري بشارة، ليس في جدلية الضحية/ الجلاد هذه، محايداً بالقدر الذي قد يلوح لنا في ظاهر الأمر. ففي سلم القيم التراتبية الذي يرسمه لنا في هذا الفيلم الذي اقتبسه كاتب السيناريو يحيى عزمي من قصتين للكاتب الكبير الراحل يحيى الطاهر عبدالله، نرى أن خيري بشارة إذا كان يسم رجاله بسمة الضحية أحياناً، فإنه يكشف عن فظاعة، وربما أيضاً مجانية، تحولهم إلى جلادين حين يتحولون. خيري بشارة يقدم هنا - بكلمات أخرى - صرخة لمصلحة المرأة: المرأة كضحية مرتين، مرة حين تكون ضحية ومرة حين تكون جلاداً.
ويقيناً أن جزءاً كبيراً من قوة الفيلم يكمن عند هذا المستوى من القراءة. كما تكمن هنا حدته. فما أمامنا هنا ليس نصاً سينمائياً عادياً، كما أنه ليس ثرثرة "ثقافوية" حول حرية المرأة ووضعيتها في المجتمع، ما لدينا هنا صرخة واقعية قاسية مفعمة بالمرارة. أهميتها أنها توصل إلى أسئلة أكثر مما توصل إلى أجوبة.
وفي هذا السياق لا بد أن نذكر هنا أن أضعف ما في هذا الفيلم هو أن المخرج - لسبب غير مفهوم - رسم سؤال الفيلم الأساس على لسان الابن الخال، عزت العلايلي، مع أن بناء شخصية هذا الأخير لا يمهد أبداً لموقفه التراجيدي حتى بالمعنى الإغريقي للكلمة حين يتهم القدر - ضمنياً - بالافتراء!
مهما يكن، تعمل لمصلحة خيري بشارة في هذا الفيلم لغة سينمائية مميزة، وكاميرا دينامية تتقن فضيلة الاقتصاد والتكثيف داخل اللقطات وتشتغل على نظرات العيون بقدر ما تشتغل على ما تفوه به الشفاه، بل إنها تصل أحياناً إلى رسم علاقة تناقضية ممتعة بين ما تقوله العيون وما تقوله الشفاه. غير أن الاقتصاد داخل اللقطات، وفي التعامل القوي مع معظم ممثلي الفيلم، قابله بعض التشتت والضياع في بعض المشاهد. وأسوأ من هذا، في بعض المفاصل الأساس للفيلم: مثلاً حكاية الطاحونة التي أخرجت نص الفيلم عن وحدته، فلم تغنه، ومشهد زواج الحداد وحرق البيت، وكل وجود المغني المميز محمد منير، الذي بدا في سياق الفيلم غير مبرر على الإطلاق. مع مثل هذه المشاهد تشعب الفيلم، وبدا وكأن مخرجه يريد أن يقول عشرات التفاصيل والأمور التي كان من المحتم لها أن تضيع المتفرج.
وهنا قد يبرز سؤال فضولي: لماذا وجد خيري بشارة وكاتب السيناريو يحيى عزمي أن من الأفضل لهما استخدام نصين لا نص واحد ليحيى الطاهر عبدالله لكتابة هذا الفيلم؟
خارج إطار هذه الملاحظات، الطفيفة في رأينا والتي لا تنقص من قيمة هذا الفيلم أي شيء، يمكن القول إننا هنا، أمام "الطوق والإسورة" نجد أنفسنا أمام فيلم شكل عام ظهوره 1986 علامة انعطافية في تاريخ السينما المصرية، منضماً في هذا إلى عدد لا بأس به من أفلام حققت في مصر خلال تلك الحقبة التي يمكن، بكل بساطة، وصفها بأنها حقبة ذهبية في تاريخ الفن السابع في مصر.