«المحتوى الهابط»، والحلول التي لا تحتاج ذهاباً للقاضي
13-شباط-2023
حسن الصرّاف
يروي جلال الدين الروميّ في إحدى قصص المثنوي حكايةَ دبّاغ يعمل منذ سنوات على تنظيف الجلود عن الأوساخ والقذارة. ذات يوم مَرَّ هذا الدباغُ بسوق باعة العطور، فلم يمشِ سوى بضعة خطوات حتّى فَقَدَ وعيَه وسَقَطَ مغشيّاً عليه! تجمَّع النّاسُ حوله وحاولوا إنعاشه، ولكنّه ظلّ على ذلك الحال إلى أن جاء أخوه وَجَلَبَ له روثَ حيوان وقرّبه مِن أنفه! فما أن استنشق الرائحةَ النتنة أفاق! كان الدبّاغ لا يطيق رائحة المسك والعنبر والعطور الزكية في ذلك السوق، ولذلك أُغمي عليه! وما إن شمَّ أنفُه الرائحةَ التي اعتاد عليها عاد وعيُه ونهض!
التصدي لِلمحتوى الهابط يبدأ بإقناع متابعيه بأنَّ ما يشاهدونه هابطٌ ويهبط بالعقلِ والسلوك ومستوى التفكير. كيف تقنع الملايين من متابعي المحتوى الهابط بأنْ لا يتابعو السخفَ والهراء؟ وكيف تقول لهم بأنّكم تفسدون أذواقَكم وسلائقَكم وتحرمون أنفسَكم من متعة الأدب والفنون الحقيقية؟ في المستقبل البعيد، أو حتّى القريب، قد يواجه المدمنون على مشاهدة المحتويات الهابطة مصيراً مشابهاً لمصير الدبّاغ الذي روى الروميُّ قصّته! تخيّلْ أحدَهم تتداعى إلى أسماعه إحدى معزوفات بتهوفن من دون أن يستمتع بأنغامها! أو مَن يقرأ قصيدةً لِلمتنبيّ أو روايةً دوستويفسكي ويسخر منها، وحتّى قد يصوّر مقطعاً في التواصل الاجتماعي لِلتنمّر على ذلك الشاعر أو الكاتب. أو مَن يدخل متحفاً لِلفنون ويسقط مغشياً عليه مثل ذلك الدبّاغ! كلّ ذلك لأنَّ فكرَه ومستوى ذوقه اعتاد على مشاهدة صور ومقاطع فيديو هابطة. وقد لا يخفى على المتخصصين في علم الاجتماع والقضايا التربوية والتعليمية أنَّ المجتمع الذي لا يستذوق معظم أفراده الآدابَ والفنون، وينشأ منذ الطفولة على مشاهدة السخف والهراء سيسهل التحكّم به وبرأيه العام لِتحقيق أهداف ومآرب سياسية واقتصادية مهمّة ومصيرية. قد يرى بعضٌ إنَّ التحذير من مخاطر التفاهة والسخف بات أمراً مبالَغ فيه مكافحة المحتوى الهابط في التواصل الاجتماعي «لا تحتاج ذهاباً لِلقاضيّ»! إنَّ العقليّة التشريعية والقانونية عندنا اعتادَت على أن تعالِج المشاكل والأزمات بالحبس فقط. والمعنيّون بحلّ الأزمات اعتادوا على معالجتها بالذهاب لِلقضاء فقط. في حين إنَّ كثيراً من الحالات تحتاج إلى حلول جذريّة طويلة الأمد على المستوى الثقافي والاجتماعي والنفسي والتعليميّ قبل أيّ شيء. هنالك برامج وخطوات تعليمية وتربوية عديدة، ومعظمنا يعلم بها ويدركها، ولكنّها مهمَلة تماماً:
1ـ تفعيل دَور المكتبات في المدارس والثانويات والكليّات.
2ـ وضع برنامج تعليمي وطنيّ مموَّل حكومياً لإرسال الطلبة المتميزين في الثانويات والكليات لزيارة مراكز بحثيّة ومتاحف عالميّة في شرق المعمورة وغربها.
3 ـ الدعوة من الأكاديميين والباحثين والأدباء والمفكّرين المعروفين على المستوى العالَمي لإلقاء محاضرات وعقد ندوات في المؤسسات التعليمية والبحثية في البلاد.
4ـ تمويل مشاريع بحثيّة وتعليمية تعنى بقضايا الأسرة ومشاكل الأطفال والمراهقين في المدارس.
5ـ إقامة مسابقات وطنيّة سنوية في المدارس والكليات لقراءة النصوص الأدبية وكتابتها وحفظ الشعر.
6ـ إقامة مسابقة وطنيّة سنوية في المدارس والكليات لقراءة الكتب العِلميّة الحديثة.
7ـ إقامة مسابقة وطنيّة سنوية في الثانويات والكليات لترجمة النصوص العلمية والأدبية.
8ـ إقامة مسابقة وطنية سنوية لتشجيع وتكريم منتجي المحتويات العلمية والتعليمية والثقافية. فهنالك العشرات أو المئات من الشباب المثابرين ينتجون العديد من مقاطع الفيديو في التواصل الاجتماعي، يقدّمون فيها النافع والمفيد لأقرانهم من الجيل الجديد.
كلّ هذه الخطوات سهلة ويسيرة و«ما تحتاج روحة للقاضي»! أمّا إذا كان أصحاب القرار مصرّين على إهمال التعليم والتربية في البلاد وإهمال مثل هذه الحلول المتاحة فيجب أن نعطي الحقّ كلّه لمن يقول بأن معاقبة منتجي المحتوى الهابط هي مقدّمة لِقمع الحريّات الفكرية الأخرى! وهذا موضوع خطير آخر لم يغفله المتابعون.