«تعريف متشابه جدًا»: الجسد العراقي مانيكان لتجريب الألم
4-أيلول-2022
بغداد ـ العالم
تستفز الشاعرة العراقية رؤى زهير شكر، المخيلة الإنسانية، عبر صور ومشاهد، وحالات شعورية غائرة، تمس الذات والجمع، وتحلل علاقة الإنسان مع الألم، وبؤس العيش، في مجموعتها الشعرية: ”تعريف متشابه جدًا“ الصادرة عن منشورات اتحاد الأدباء، في العراق 2022.
وتكشف الشاعرة في مجموعتها عن نبض شعوري صارخ تجاه الحياة، ومجرياتها، معبرة عن حجم المُقت الدائر في الروح العراقية، تجاه كل ما يحدث من تردٍ أمني، واجتماعي، وفكري، وما تخلفه آلة الموت التي لا تتوقف هناك، وتعبر الشاعرة عن قسوة المشاهد اليومية في حياة المرء العراقي، بما تخلفه من فقد وتباعد للمسافة: ”فلا ذنب لأصابعنا المبتورة/ وهي تتلمس مسافات الفقد وسكين الغياب“.
وتعكس الحالة الشعرية لدى رؤى يحيى شكر، مدى بشاعة وجود الإنسان في منطقة تنز بالدم، وتكفن الشهداء عبر تكرار المجازر وتداولها باعتيادية.
وتفضح القصائد الواقع السياسي العراقي عبر احتكار الإنسان، لتحقيق المآرب النفعية للمسؤولين العراقيين، وعدم الاكتراث لقيمة الإنسان، الذي توصفه الشاعرة بأنه ”سلعة“ يتم بيعها بأرخص الأثمان، بل إن الشاعرة تعتبر أن كل ما يملكه العراقي حتى جسده، قابل للإيجار في لحظة ما.
ويمكن ملاحظة الوصفية العالية عند رؤى يحيى شكر، فمشهديتها تعتمد على الرسم عبر اللغة، إذ تمكنت من تصنيع الصورة الشعرية، ببروزاتها والأصوات الناجمة عنها، حتى الرائحة تفوح في شعرها.
وحملت قصيدتها أدوات الدقة في الوصف، والتنقل ما بين الكوادر الشعرية، بما يسهم في جس نبض القارئ، واستثارة حواسه ومخيلته، للمزيد من الإبحار عبر 118 صفحة من القطع المتوسط.
وتبدو لغة رؤى شكر مباغتة، بما يتحقق من ليونة في تقديم النص، وجرأة في التنقل ما بين الفقرات والجمل، إضافة إلى القدرة على إحداث الصوت الشعوري الصادم.
فلا قيد في تركيب الصور والجمل يمكن استشعاره، عند الشاعرة، وبدت لغتها معبرة عن حالات شعورية متمردة على الواقع وتابوهاته المجحفة.
ولاعتبارية الشعر الخاصة، بالتصاقه بذات الإنسان، فإنه يعتبر مفتاحا لفهم التركيبة النفسية للإنسان، ذاتا وجمعا، فيكون المخاض الشعري ممرا للوصول إلى الصوت الداخلي المعبر عن مجتمع في حقبة ما، وهو ما يتحقق في نص ”أسِرّة الموت“ الذي تختبر من خلاله الشاعرة العراقية، مشاعر العراق بأكمله، من خلال كشف الألم العراقي مع الحرب التي تسيطر على الحياة الاجتماعية للإنسان هناك، لمدة ما يقارب العقدين.
في قصيدة رؤى شكر، نلمس الوجع والبكاء والقلق الوجودي مع الخطر، الذي لا يحيا الإنسان في وجوده، ونرى الصوت الشعري الغاضب، بجهورية الكلمات، وصراخ الصور التي تعتمد الشاعرة نقلها عبر لغتها.
وتعكس القصيدة سخرية الحياة من الإنسان، واستخدامها السيئ له، عبر تقزيم وجوده، من خلال تشكيله في وضعية المانيكان الرديء، فالإنسان الذي تحجزه سيزيفية الواقع في محط العذاب والبؤس، يصاب، بعد ذلك، باليباس الشعوري تجاه الحياة.
تكتب الشاعرة:
”نحن الماقتين أوجاعنا خلف طوابير الدمع،
أسرّة الموتى الفارغة تنتظر سربًا منّا يحلق فوقها،
نتسمّر على إسفلت الحروب،
لنمضغ حلمًا بلون الحرّية،ذ
نحن (المانيكانات) المرصوفة على رف العمر،
نتدثر كل ليلة بخيباتنا،
وندفنها على حافات الوسادة،
نلملم شتاتنا فجرًا،
وننهض ببسمة مهشمة،
بلون الدم والثلج“.
وفي قصيدة ”تعريف متشابه جدًا“ وهي القصيدة المتخذة كعنوان للمجموعة، تصنع الشاعرة مقارنة بين مشهدين مختلفين متباعدين في المسافة والزمن، لكن ”ما أشبه اليوم بالبارحة“. فتعتمد الشاعرة على تغليف الحياة بالحواف البارزة، من خلال التركيز على الهامش، الذي هو الملفت في المشهد، حيث تأخذ الصرخة الأولى للحياة كحافة لبدء المعاناة والانكسار، أما الصرخة الثانية فهي للموت، الخاتم الفعلي بكفنه الأبيض لرواية إنسان عاش في العراق، بكل البؤس الممكن، ليكون المشهد الملخص، خطين أبيضين رفيعين، بينهما مساحة كبرى من اللون الأحمر، هو حجم وطن العراق.
وهنا تستخدم الشاعرة البعد البصري، في لفت انتباه القارئ، لحجم الكارثة في الواقع العراقي، ويتكلل التخييل مع اللونين الأبيض والأحمر، بإحداث صدمة شعورية فنية، إذ تمكنت من خلالها الشاعرة، من بناء مشهد شعري يخترق الحواس، عبر التركيب والوصف، المعتمديْن على إبراز التناقضات والاختلافات بين المساحات الفنية.
تكتب الشاعرة:“
”صرخة،
صرختان،
أطلقت الأولى حين طردتني أمي من رحمها،
الثانية لأمي أيضًا،
حين سجّيتُ بتابوت خشبي،
تكبيرتان،
الأولى
أطلقتها في أذني الطبيبة التي استقبلتني،
الثانية
رددها في أذني شيخ يعتمر عمامة،
وهو يلقن جثتي الهامدة
وقت دخولي لحدًا أبيض.
بالبياض اتشحت لأول مرة،
في أول دقيقة في الحياة،
والمرة الثانية في كفن لف جسدي،
فما بين الصرختين عمر بلون الانكسار،
وبين البياضين،
وطن بلون أحمر“.
وبطريقة أخرى، تعمد الشاعرة إلى صناعة الصدمة، في نهايات القصائد، عبر طرق كف لغوي للذهن، يسهم في إطلاق القصيدة كمشروع جمالي، قادر على الاستمرار مع الإنسان مدى عمره.
فتستهدف رؤى شكر أعصاب القارئ عبر تحفيزها، من خلال شريط الذاكرة، من خلال تعديد مشاهد الطفولة والبدايات مع الوعي وفهم الأشياء من حولنا. فتسترتجع أول شعور مع الحب، مع القبلة، مع الأمنية، مع الخذلان، ومشاعر مختلفة، كلها تغلفها الشاعرة بالنهاية الحزينة، من خلال تبطيء سينمائي مصور، لمشهد مداهمة الرصاصة ودنوها من الجبين، معلنة نهاية رحلة هذا الجسد، تاركا هذه المشاهد الأولية كلها، للفراغ الذي يبقى بعده في الحياة.
تقول الشاعرة:
”سمعت في فيلم ذات مرة
(احذروا حلاوة الأشياء)
أكّدها شريط الذاكرة حين مر بكل جنونه
في سيناريو العمر،
لحظة إطلاق الرصاصة الأخيرة..
أول دفتر مدرسي خبأت في طياته أحلامي..
أول قصاصة كتبت عليها نبضة،
ودسستها في صدع قلبي ..
أول مسمار علقته الأمنيات على باب ليلي الطويل،
ورحَلَت دون عودة..
أول قبلة مسروقة..
أول موعد مهجور ..
هل انتهى دور القارئ النموذجي الذي أراده أمبرتو إيكو؟
تغيّر مزاج الشباب في اختيار الكتب وازدهار القراءة
وآخر شهقة شوق..
وحين بدأت الرصاصة تدنو نحو جبهتي ..
أدركت معنى أن تكون جليدا، وتحترق“.