«حياة الكتب السرية» قصص تتخيل سرقات شكسبير ودوما وفرانكشتاين
1-نيسان-2023
أنطوان أبو زيد
من الكتّاب الإسبان اللامعين سانتياغو بوستيغيّو (1967)، المعروف في بلاده على أنه باحث أكاديمي في اللسانيات الحديثة، وكاتب روايات تاريخية من العهد الروماني للقرنين الثاني والثالث للميلاد، والمتزامن مع الحرب البونيقية (أو الفينيقية) التي خاضها هنيبعل القرطاجي ضد روما، وكاد يحتلّها. ولما كان سانتياغو قد أعدّ أطروحته للدكتوراه عن الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، وكانت حواسّه الأدبية متحفّزة لالتقاط الطرائف التي يمكن استثمارها في نصّ قصصي أو روائي، سواء من معارفه التاريخية، أو من سعة اطّلاعه على الأدب الإنجليزي والإسباني الوسيط والعائد إلى حقبة التنوير، فقد رأى أن يحوك قصصاً قصيرة تدور حبكتها حول تأليف كتب لأشهر الكتّاب في العالم، وما اكتنف تأليف الكتب من أسرار لم يتناهَ إلى سمع أحد تفاصيلها سوى الأديب سانتياغو.
أساس تاريخي
إذاً، ينطوي الكتاب المترجم حديثاً إلى العربية والصادر عن دار مسيكلياني، بعنوان "حياة الكتب السرّية" - وقد كان عنوان الكتاب الأصلي لدى صدوره بالإسبانية عام (2012) "ليلة قرأ فرانكشتاين دون كيخوته"- على ثماني عشرة قصة، تتراوح حجماً، وتتنوّع معالجتها أسرار الكتب، أو أسرار الكاتب المجهولة والمعقولة، منطقياً، والتي لم يسبق أن تداولتها كتب التاريخ، ولم يتثبّت المؤرّخون من صحّتها. ولعلّ لعبة الكاتب سانتياغو الإبداعية تقوم على هذه المعقولية في الأحداث، التي لم تكن لتخطر على بال. ومن تلك القصص، على سبيل المثال، قصة "من اخترع الترتيب الألفبائي" وهي استخلاص لمسار من الوقائع جرت، على ذمّة الراوي، في القرن الثالث قبل الميلاد، لدى إنشاء بطليموس الأول، مكتبة الإسكندرية الكبرى، ومواصلة ابنه بطليموس الثاني توسيعها، وترتيب لفائف البرديّ فيها، بعد أن صارت ترد بعشرات الآلاف اليها، وأحدث تراكمها اضطرابا وفوضى. واتّفق أن كان ثمة أديب وفيلسوف يدعى زينودوتس، استدعاه بطليموس ليجد له حلاّ لتراكم اللفائف وفوضاها. وكان الحلّ أن "تُنظّم اللفائف اعتماداً على الترتيب الالفبائي لأسماء مؤلّفيها" (ص17).
طبعاً، لن يسأل القارئ عن صحّة المعلومات التاريخية التي بنى الأديب على أساسها حبكة قصّته، إلاّ أنه تشدّه غرابة الحدث، وحسن معالجته، وفاقاً لرؤية تعتبر القصّ لعباً يتأرجح بين قطبين هما؛ سياق شبه العالم (الزمان، والمكان، والأحداث والشخصيات) الحائز معقولية مقبولة، وبين حبكة أو حدث ذي قصدية واضحة.
الخيط الرفيع بين سرديّتين
في القصة الرابعة، وهي بعنوان "هل كتب شكسبير أعمال شكسبير"، يعرض الكاتب المتمكّن من حرفته، سردية أخرى نقيضة للسردية التاريخية المعروفة، مفادها أنّ ثمّة شخصية أخرى هي صاحبة الفضل في أعمال شكسبير الأدبية، وتدعى كريستوفر مارلو، الشاعر والمؤلّف الإليزابيثي المعروف. ومن ثمّ يمضي إلى إثبات مسلّمته الأولى بإيراده حكاية مبارزته الملفّقة ومقتله على يد إينغرام صديقه، واتّضاح الخديعة التي أعدّها للهرب إلى فرنسا وإيطاليا والعيش فيهما عميلاً سرياً في خدمة التاج. وهكذا تتوالى الوقائع المزعومة نسبتها إلى مارلو، إضافة إلى أخبار تآليفه المسرحية التي كان يرسل مخطوطاتها -سراً- من حيث يقيم خارج إنجلترا، من مثل "هاملت" و"عُطيل"، و"روميو وجيولييت"، و"حلم ليلة صيف" وغيرها. وحتّى إذا أضاف الكاتب إلى زعمه الآنف، عدداً من الأبحاث التاريخية التي تفترض وجود مؤلّف ثانٍ لأعمال شكسبير- وهذا ما تنفيه الدراسات الحديثة نفياً قاطعاً- نجد الكاتب وقد بلغ ذروة إبانته عن مسلّمته المغلوطة، فكاد القارئ معها يخلط بين السردية الحقيقية وتلك المنحولة حول شكسبير ومؤلفاته.
ثمّ أوليس الأدب، في صلته بالواقع المستمِدّ منه الأديب، نوعاً من التضليل والإيهام يقع على القارئ، وفقاً لمايكل ريفّاتيرّي، فتنحصر الصلة بينه وبين النص، أخذاً وردّاً؟ ومع ذلك، لا يضير الكاتب اختلاق حكاية رديفة، هي حكاية مارلو الصاحب المزعوم لأعمال شكسبير، إلى جانب الحكايات التاريخية الموثوقة، وكلّها لمزيد من الإمتاع والمؤانسة!
إضاءة وإعادة اعتبار
في القصة السادسة وهي بعنوان "ألكسندر دوما وظلّ أوغست ماكيه الطويل"، يستثمر الكاتب بوستيغيو بالواقع التاريخي المعروف، مسلّطاً ضوءاً ساطعاً على أديب فرنسي معروف يدعى أوغست ماكيه والذي لطالما كان ظلاّ لألكسندر دوما، وشريكاً في تأليف العديد من الروايات والمجموعات القصصية في زمنه. ومن المعلوم أنّ لماكيه عدداً من الروايات أفرد بها عن دوما، وإن تكن شراكتهما غطّت عليها، وهي: "الفرسان الثلاثة"، وبعد ذلك بعشرين عاماً، و"الملكة ماغو"، و"حرب النساء"، و"فارس البيت الأحمر" وغيرها. أما الفريد في هذه القصة فهو أنّ الكاتب يجعل من ماكيه شخصية حيّة؛ إذ يصوّره في مشهد وحيد، داخلاً إلى منزل دوما البورجوازي، ومقدّماً له مخطوطة رواية ألّفها بنفسه، هي "الفرسان الثلاثة" في مقابل مادّي معيّن، ورافضاً، مع ذلك، أشكال الإذلال والتعالي التي لطالما أتقنها دوما، بحسب بوستيغيّو، وذلك بتجاهله دعوة الأخير له إلى مباشرة الملذّات التي وفّرها لنفسه، وكانت سبباً لدفقه التأليفيّ الكبير؛ إذ عدّ له بعضهم حوالى 300 مؤلّف بين رواية وسيرة، ومسرحية، ومجموعة قصصية.دار مكلياني)
وبعد أن يورد المؤلف أمثلة كثيرة على استراتيجية "الزنوج" أو الكاتب الظلّ، من القرن السابع عشر حتى العشرين، يخلص إلى التوصية لناشري دوما، اليوم، بأن يضعوا اسم "ماكيه" إلى جانب دوما، إحقاقاً للعدل ليس إلاّ.
ومن قصص الكتاب ما يمكن أن يعدّ نوادر ومحطّات تاريخية دامغة، كالتي عنوانها "الخطاب" ومفادها أنّ أحد الكتّاب الإسبان المجيدين في القرن التاسع عشر، ويدعى دون خوسيه ثورييا، وبعد أن حُجبت عنه الجوائز، واستبعد من التكريم طوال سبع وثلاثين سنة، أرسلت الجمعية الملكية الإسبانية الكاتبين غاسبار نونيز دي آرسي، وأنطونيو دي ألاركون للقاء دون خوسي ثورييا لإقناعه بقبول التحاقه بالأكاديمية. وبعد حوار لا يخلو من عتب شديد، ومرارة الاستبعاد من قبل الأكاديمية، يقبل دون خوسيه بالعرض، شرط أن يقول خطاباً في ما يتقنه ويؤثر عنه، شعراً. وبالفعل، شكّل خطابه الشعري الذي ألقاه على مسامع الموقّرين من الأكاديمية الملكية، عام 1885، وعلى رأسهم الملك ألفونسو الثاني عشر والملكة دونيا ماريا كريستينا، حدثاً استثنائياً ودالاً على شخصية فريدة. قال: "كان الشعر جريمتي الوحيدة/ لكنني أعزلُ تماماً/ إلاّ من الكلمات".
أثر الأصيل في المبتدع
يمكن القول إنّ للكاتب سانتياغو بوستيغيو مأرباً آخر غير تجديد زاوية النظر إلى أمهات الكتب الأدبية، وصنّاعها، وهو إحقاق العدل لأصحاب الأعمال الحقيقيين، والنظر في الوقائع التاريخية الخافية إلى حينه. أياً يكن الحال، فإنّ في قصة "ليلة قرأ فرانكشتاين دون كيخوت" استعادة للإطار التاريخي الواقعي الذي جرى فيه تأثّر الكاتبة السويسرية ماري شيلي، برواية دون كيخوته، إذ اقتبست من تلك الرواية تقنيتها السردية لتكتب رواية "فرانكشتاين". إذاً، ترسم القصة إطار اللقاء بين زوجين إنجليزيين هاربين من بلادهما لدواع سياسية، هما بيرسي بيش شيلي وماري شيلي، وبين الشاعر الإنجليزي الشهير اللورد بايرون المتواري عن عيون منتقدي أفكاره الثورية، عام 1816، وفي مكان ريفي ناء. وتتفتّق اللقاءات بين الزوجين وبايرون عن فكرة مبتكرة، هي إطلاق الأخير فكرة الجائزة لأجمل قصة أو رواية في أدب الرعب. وهكذا، يتسنّى لماري شيلي أن تفيد من ترجمة زوجها لدون كيخوته إلى الإنجليزية، وأن تقبس من الرواية الأصل تقنيّتها السردية وتبني روايتها الشهيرة "فرانكشتاين". فمن المعلوم أن الرواية (فرانكشتاين) هي على اسم الشخصية فيكتور فرانكشتاين، العالم والمخترع في زمنه، وقد اجترح بعلمه بدعاً، هو كناية عن وحش يمكن أن يتحكّم به. إلاّ أنّ الوحش يخرج عن سيطرة بانيه، ويواصل مسار إرهابه...
في القصص الباقيات وقفات جميلة مع الروايات العالمية الروسية (دوستويفسكي) والإنجليزية (آرثر كونان دويل) وغيرهما ما ينبئ عن قدرة الكاتب بوستيغيو على إحياء هوامش الأدب واستنطاق الأدباء وتجديد النقاش في مأثورهم.