«شقاوات» سياسية
29-أيلول-2022
جواد كاظم الدايني
علي الوردي، عالم اجتماع عراقي فذ، ومؤلفا اريحيا، في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، وقد اثارت مؤلفاته ودراساته جدلا واعتراضا واسعا في الاوساط الاكاديمية والشعبية، بعدما أدت آراؤه الى نزع صفة القداسة عن قيمنا ومعتقداتنا وجردت دوافع سلوكياتنا الاجتماعية، اما كتاباته فتعتبر الى الان مرجعا يستشهد بها اصحاب الراي والقلم والثقافة. هناك الكثير من الظواهر الاجتماعية التي ما زالت سائدة ليومنا هذا، او كامنة خلف المظاهر السطحية للحداثة في الشخصية العراقية، بعض هذه الظواهر تناولها مؤسس علم الاجتماع الاول "ابن خلدون" الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي؛ حيث تأثر الوردي بمنهجية ابن خلدون في دراسته للمجتمع العراقي.
تعتبر شخصية " الشقاوة " من الظواهر التي اولاها الوردي اهتماما غير قليل لانها كانت من الظواهر الشائعة في المجتمع العراقي المديني لفترة طويلة، وقد وجد فيها مدخلا اساسيا لفهم طبيعة التوازن الاجتماعي في المجتمع، فالشقاوات يمثلون القيم الاجتماعية السائدة، المحمودة والمذمومة، فهم كانوا يحترفون اللصوصية في كثير من الاحيان ويتفاخرون بسفك الدماء والاعتداء والسطو. وفي مجتمع تسود فيه ظاهرة التغالب وتسيطر عليه روح البداوة سوف يمجد الناس ما تقوم به الشقاوات، معتبرين ذلك دليلا على الرجولة والبسالة حيث ترتفع مكانتهم في المجتمع ويصبحون مثالا يحتذى بهم في الشهامة والنخوة، بغض النظر عما يسببونه من اذى للاخرين.
من اهم ما يميز هذه الشخصيات هي ولاءاتها الضيقة والتي لا تتعدى المحلة الواحدة، كما انهم دائمو العداء لسلطة الدولة والحكومة فقوانينهم لا تتلاءم او تتوافق مع قوانين الحكومة ودور الدولة.
توفي الوردي ـ رحمه الله ـ وهو لم يشهد التطور الذي طرأ على شخصية الشقاوات، فلم تعد المحلة منطقة لنفوذها، ولم تعد عندهم مشكلة مع الدولة لانهم الان اصبحوا هم الدولة، بعد ان حققوا انتصارات مهمة عليها منذ العام 2003، وهو العام الذي شهد غيابا كاملا للدولة العراقية واندلاع صراع سياسي وطائفي، ادى الى ظهور جماعات وتيارات مسلحة عوضت ذلك الغياب سريعا.
شهدت بعض تلك الجماعات المسلحة، قبولا من المجتمع، وتأييدا وانخراطا فيها، لاسباب عدة طائفية وسياسية وقومية، وهي في سلوكها كبيرة الشبه بظاهرة الشقاوات القديمة. تختلف شقاوات اليوم انها ذاقت طعما جديدا للسلطة والقوة والمال غير التي كانت محصورة بالخنجر، واللصوصية التقليدية، وفتلة العضلات والشوارب، شيئا لا يخص المحلة ولا الوطن ولا ابناءهما، فولاءاتهم اصبحت فئوية جدا ومحصورة بنطاق ضيق واخر عابر للوطنية، ومؤذ لها، فلهم مشاريعهم الاقليمية الخاصة، التي يعملون على تنفيذها من خلال ما يسمى "محور الشقاوة الشريفة". اصبح ذلك يعرقل عودة الدولة لدورها في المجتمع وعودة الاسلوب الحضاري والمؤسساتي في ادارة امور الناس والمجتمع، وفق القانون والدستور ومبدا المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات.
نشهد حقا وبشكل يدعو الى السخرية عودة ميمونة لظاهرة الشقاوة الكامنة في مخيالنا الاجتماعي، ولم تنحسر تلك الظاهرة كثيرا بسبب طبيعة وظروف المجتمع، لذلك تجد في ساحة السياسة والاحزاب والجماعات السياسية وحتى الفكرية والثقافية منها من يفكرون ويتصرفون بطريقة الشقاوات, فالاختلاف في المظهر لا يفسد من اصل القضية شيئا.