عبد وازن
ما كان أحوج المكتبة العربية إلى كتاب موسوعي يرصد الحركة الروائية العربية في القرن العشرين، رواياتٍ وروائيين، ومراحل وقضايا واتجاهات. فهذه الحركة التي بدأت تترسخ منذ مطلع القرن الماضي بدءاً من العام 1900، لم تلق الجهد التصنيفي التاريخي الذي يفترضه الصنيع الروائي نفسه، والهادف إلى بلورة المشهد وإبراز المراحل وتحديد المحطات التي اجتازها الفن الروائي. وتمت بضع محاولات متفرقة بغية وضع لوائح تتضمن عناوين روايات عربية مع أسماء مؤلفيها في القرن العشرين، ومنها لائحة أنجزها اتحاد الكتاب العرب، بدت ناقصة وغير موضوعية وراعت التوزيع الجغرافي والسياسي، وخلت من أي نصوص أو مقدمات. وخاض نقاد كثر "معركة" الرواية العربية الأولى وجرى بينهم سجال تاريخي اختلفوا فيه حول تعيين أول رواية عربية، ومنهم من قال برواية "زينب" لمحمد حسين هيكل، ومن قال برواية فرنسيس المراش "غابة الحق" ومنهم من أورد أسماء أخرى مثل: زينب فواز وخليل خوري وسليم البستاني.
كان لا بد من هذا السجال النقدي والتاريخي حول الرواية المؤسسة، لكنه جرى في غياب التأريخ الموسوعي لحركة الرواية العربية التي ترسخت تمام الترسخ في القرن العشرين. دار السجال حول البداية بينما غاب البحث في ما بعد البداية وفي المتن الذي أضحى قائماً وبقوة.
لعل الكتاب الموسوعي الضخم، الصادر حديثاً عن مركز أبو ظبي للغة العربية في سلسلة "إصدارت" بعنوان "مائة رواية ورواية - روايات عربية أثرت القرن العشرين" يملأ الفراغ الذي طالما شهدته المكتبة العربية في هذا القبيل، ويمثل مبادرة فريدة ومهمة، نحو ترسيخ التأريخ الموضوعي للرواية العربية عموماً. فهذا الاختيار النقدي الشامل، مع القراءات النقدية أو لنقل الملخصات الخاصة بالروايات المختارة، التي قام بها أربعة عشر ناقداً عربياً، في إشراف لجنة مكونة من النقاد: علي بن تميم (رئيس مركز أبو ظبي للغة العربية)، وخليل الشيخ ومحسن جاسم الموسوي، وعبدالله الغذامي، والراحل صلاح فضل، يلقي ضوءاً ساطعاً على روايات القرن العشرين وروائييه، ويمهد لأي دراسة لاحقة، تشمل هذا العطاء الضخم، في ما يوفر من معلومات وآراء نقدية، تساعد الباحث أو الناقد موضوعيا وتاريخياً، وتشكل له مادة مرجعية مهمة.
النقاش المفتوح: ومن خصائص هذا العمل الموسوعي أن النقاد الذين عملوا عليه لم يغلقوا باب النقاش حول اختياراتهم، فقد يحبذ نقاد عرب آخرون روايات أخرى للروائيين الذين اختيروا، وهذا من حقهم. فالاختيار هنا مثل التقديم، لم يخضع لأي عامل أيديولوجي أو جيوسياسي أو تمثيلي، مقدار ما كان موضوعيا وإبداعياً. وهذا أصلاً ما أشار إليه الدكتو علي بن تميم في لفتة تعبر عن مدى انفتاح المشروع، في تقديمه الكتاب قائلاً: "يوقن مركز أبو ظبي للغة العربية بأنه لا توجد آلية تحظى بالإجماع لاختيار ما يمكن الجزم بأنه أفضل الروايات العربية على الإطلاق، لكنّ توسيع دائرة القائمين على الاختيار، ووضع مجموعة من المعايير والموجهات للاختيار، قد يضمنان ربما حداً مقبولاً من الموضوعية وهذا ما حرصنا عليه". وأضاف: "إن الاختيارات الواردة في الكتاب لا تدعي أفضلية لها على غيرها، ولا تقلل من أهمية روايات أخرى لم تتضمنها قائمة الأعمال المختارة، أو تشكك في ريادتها وتاثيرها وقميتها الفنية، بل على العكس من ذلك، تأمل أن تكون حافزاً للآخرين كي يقدموا بدورهم اجتهادات ومختارات وفق آليات وإجراءات يعتمدونها". ولعل اختيار القرن العشرين بذاته، محدداً في سياق زمني يترواح بين 1900 و2000، بلا زيادة ولا نقصان، يقصر الإبداع الروائي على فترة ما قبل الألفية الثالثة، التي شهدت انفجاراً روائياً هائلاً، من نواح عدة، نوعاً وكماً، ومادة وأفقاً وتجريباً وبحثاً، خصوصاً مع نشوء جوائز تتوجه إلى الروائيين والروايات وفي مقدمها جائزة "البوكر" العربية، التي أحدثت "هزة" في الحركة الروائية، فشجعت على الإبداع الروائي وحفزت الروائيين على الاشتراك في "المسابقة"، وأتاحت للروايات فرصة الرواج الإعلامي والشعبي والترجمة إلى لغات عالمية. عطفاً على الفائدة المادية التي يحتاج إليها معظم الروائيين.
شهد العقدان الأولان من الألفية الثالثة ازدهاراً في التأليف الروائي كاد يطغى على التأليف الشعري، ودأب الناشرون العرب على "اصطياد" الروايات وعلى نشرها، فازداد عدد الروايات مثلما ازداد عدد الروائيين، وباتت أرقام الروايات المقدمة إلى الجوائز كلها تناهز نحو 400 رواية سنوياً. ناهيك عن الروايات التي لا يتقدم أصحابها إلى الجوائز. وغالب الظن أن مركز أبو ظبي للغة العربية، برعايته الشاملة للإبداع الأدب واللغوي وحركة الترجمة، لن يدع الربع قرن من الألفية الثالثة الذي بلغت الرواية فيه شأوها، خارج حقل اهتمامه، وفي سياق مشاريعه الموسوعية المقبلة.
إنجاز روائي كبير: ومن يقرأ عناوين الروايات وأسماء الروائيين المدرجة في الكتاب الموسوعي، يدرك أن الرواية العربية حققت خلال هذا القرن، إنجازاً مهماً جداً، يضعها في مصاف الإبداع الروائي العالمي من جهة المشهد السردي المتكامل، مع صرف النظر عن ريادة هذه الروايات عالمياً في حقولها أو ميادينها وموضوعاتها وتقنياتها... استطاعت الحركة الروائية العربية أن تكسر المقولة الجاهزة والسارية في الغرب أن الفن الروائي هو غربي ووقفٌ على الأدب الغربي، في معنى أنه ليس عربياً سواء بجذوره أو هويته. وتطرح هذه الروايات العربية، المجموعة في الكتاب، الشك في مقولة تأخر العالم العربي سردياً عن العالم الغربي، مما جعل بعض النقاد يصنفون الإنتاج الروائي العربي خارج السياق العالمي. وقد جاء فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل ليفتح نافذة واسعة للرواية العربية على العالم. ناهيك عن أن حركة ترجمة الرواية العربية شرعت تروج رواجاً لافتاً، بدءاً من منتصف التسعينيات ولكن من غير أن تحقق ترجماتها حتى الان، الآمال المنتظرة لأسباب عدة، ليس هنا المجال لخوضها. ومن يتأمل "المشهد" الروائي الذي ترسخه هذه المختارات، يلمس حال التنوع والتعدد الذي يسود الإنتاج الروائي العربي، ففي هذا المشهد تتآلف كل أو معظم المدارس الروائية التي شهدها العالم الغربي، منذ القرن التاسع وما قبله، من المدرسة التاريخية إلى الرومنطيقية والرمزية و"المغامراتية" والطبيعية (في مفهوم الفرنسي إميل زولا) والواقعية والفانتازية والفانتاستيكية... وهذا مما يؤكد مواكبتها لمعظم التحولات التي شهدتها حركة الرواية العالمية منذ القرن التاسع عشر، ولكن في منأى عن المقارنة او المقابلة. وعطفاً على المقدمات النقدية والملخصات، التي حظيت بها الروايات المختارة، وهي تتناول، عطفاً على السير الموجزة للروائيين، تاريخها وموقعها وأحداثها والشخصيات، في قراءة موجزة ووافية، ضمت الموسوعة مقدمتين نقديتين ضافيتين، الأولى للدكتور علي بن تميم والثانية للدكتور محسن جاسم الموسوي، وهي بعنوان "تحولات الرواية في القرن العشرين".
يتطرق بن تميم في مقدمته إلى قضايا شتى ومنها قضية "زمن الرواية"، وفي رأيه أنه "لم يعد مما يختلف فيه كثيراً، في ظل التحول المستمر لموقع الأنواع الأدبية من الاهتمام، أننا نعيش زمن الرواية، لا على مستوى العالم العربي فحسب، بل على مستوى العالم بأسره". لكن هذا التوصيف لا ينطوي برأيه، "على انتقاص الأنواع الأدبية الأخرى كالشعر أو القصة القصيرة أو المسرح، بقدر ما يؤكد واقعاً تكشف عنه اهتمامات القراء وتفضيلاتهم واختياراتهم، كما تكشف عنه قوائم الترجمة من اللغة العربية وإليها". ويضيف إلى هذه المعطيات ما أثبتته الرواية ذاتها، من مرونة وقدرة على التطور والاستفادة من كل تقنيات الأنواع الأدبية والفنية، وتوظيف هذه التقنيات على النحو الذي يمدها بأسباب جديدة للحيوية والفاعلية والتأثير. ويرى بن تميم أن الرواية قادرة على تقديم "صورة للمجتمع العربي بتفاعلاته الاجتماعية والفكرية والروحية والسياسية والاقتصادية وطموحاته وتحولاته"، مما يجعل منها مصدراً لا غنى عنه في أية محاولة لفهم واقع هذا المجتمع ومستقبله. فالرواية كما يرى، قادرة على تقديم رؤية متحررة من ضغوط الواقع ومحدداته، وعلى استشراف مسارات المستقبل، اعتماداً على الحدس الصادق، الذي لا تخلو منه الأعمال الأدبية الجادة، الذي يغطي مساحات قد لا تغطيها المشاريع الأكاديمية والبحوث الصارمة.
حاجة المكتبة العربية: ويوضح أن مركز أبو ظبي للغة العربية وضع في اعتباره، وهو يقدم هذه المختارات من الروايات العربية في القرن العشرين، حاجة القراء في العالم العربي، ولاسيما الشباب منهم، إلى إصدارات تمنحهم مساحة للتفاعل في مكان واحد مع عدد كبير من الروايات العربية التي استصفتها وانتخبتها ذائقة مدربة واعية، ورأت فيها ما يؤهلها لأن تكون من أبرز ما أنتجه المبدعون العرب، في هذا النوع الأدبي. و"يتقدم هذا الكتاب خطوة في تقديمه حيثيات تشرح جوانب تميز كل رواية ومواطن جمالها وما تمثله من إضافة، إلى جانب تعريف موجز بالرواية، ونص قصير منها، وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى تقديم تعريف واف وواضح بها، بلغة يسيرة ودقيقة، تناسب القارئ العام والمختص على السواء". ولعل هذا الإصدار كما يوضح بن تميم، يمثل مدخلاً للقراء المختصين وغير المختصين، إلى قراءة هذه الأعمال الأدبية أو بعضها، ويحفز كثيراً منهم إلى التفاعل مع الرواية من منظوره الخاص، اتفاقاً أو اختلافاً مع التعريف الوارد في هذا الكتاب، وقبولاً أو رفضاً لتضمينها فيه. و"لا شك أيضاً في أن كثيراً من قراء الكتاب سيطلعون على أعمال مهمة لم تكن معروفة لديهم من قبل، وسيتعرفون على روائيين مبدعين، وعلى أعمال أدبية مهمة تغطي العالم العربي بأسره، على النحو الذي سيعمق معرفتهم باتساع المساحات والفضاءات التي تتحرك فيها الرواية العربية، جغرافياً وفكرياً وفنياً".
ويرى أن ملخصات الروايات التي يتضمنها الكتاب، أعدها النقاد الذين شاركوا في الاختيار، وفقاً لمناطق اهتمامهم، "بحيث يكون من يكتب عن كل من مجموعة بعينها من الروايات هو الأكثر معرفة بها ومعايشة لها واهتماماً بها في سابق أعماله ودراساته، وهو الأقدر على إبراز الخصائص التقنية والجمالية لكل رواية، من خلال عدد من المعايير والموجهات، من بينها ريادة الرواية وتأثيرها في حركة الإبداع العربي، وفي الوجدان العربي، والجماهيرية التي حققتها، وشهرتها في حقول أخرى مثل الدراما والسينما". وفي هذا الصدد تكشف قراءة الملخصات هذه، التعدد في المنهج وطريقة النظر والتأويل. وقد يفضل بعض القراء روايات أخرى للروائين لم تُنتق. مثلاً قد يفضل قارئ رواية "دعاء الكروان" لطه حسين على رواية "شجرة البؤس"، أو ثلاثية نجيب محفوظ على رواية "أولاد حارتنا"، أو "الرغيف" لتوفيق يوسف عواد على "طواحين بيروت"، أو "الشراع والعاصفة" لحنا مينه على "الثلج يأتي من النافذة"، أو "رامة والتنين" لإدوار الخراط على "ترابها زعفران"... وهلم جراً. ولعل اللافت في الكتاب الموسوعي رقي الملخصات التي كتبها النقاد عن الروايات المختارة وهي مقالات مختصرة ومفيدة جداً، وتصلح مرجعاً للقراء أياً يكونوا.
يمثل كتاب "مائة رواية ورواية" مرجعاً تاريخياً ونقدياً شاملاً عن الحركة الروائية العربية في القرن العشرين، مرجعاً موضوعياً وعلمياً، بعيداً عن أي بعد إيديولوجي أو خلفية سياسية أو جغرافية وإقليمية. ولعله أيضاً مرجع للنقاد والدارسين والطلاب والقراء عموماً، والمستشرقين خصوصاً، يضع نصب أعينهم تحولات النتاج الروائي العربي بين عصرين: عصر النهضة الذي بلغ ذروته في العقدين الأولين من القرن العشرين (ما يسمى المقلب الثاني من النهضة)، وعصر الحداثة الذي تجلى بدءاً من الخمسينيات فصعوداً. وهنا تحديداً تكمن اهمية هذا الكتاب الموسوعي وفرادته وشموليته، وملؤه فراغاً كبيراً في المكتبة العربية.