«هوامش» طه حسين منطلق لمقاربة تجربته المعرفية
22-حزيران-2023
علي عطا
اختار الباحث المصري أيمن بكر زاوية جديدة لبلوغ أفكار تعود لطه حسين، لم يسبق أن تنبه إليها الباحثون والنقاد الذين تناولوا إنتاج قلمه، وذلك بتحليل مقدمات كتبه وخواتيمها والمقالات الصحافية القصيرة والمقابلات وإهداءات الكتب، وما كتبه عميد الأدب العربي بالفرنسية، أي تلك الكتابات التي يُنظر إليها عادة بوصفها حاشية على متن أو مداخل يمكن المرور عليها سريعاً باتجاه المنتج الأولى بالعناية، أي باتجاه أفكار شكلت أدبيات طه حسين التقليدية التي دار حولها التقييم سلباً وإيجاباً، أو تناولها التحليل الهادئ الراغب في الفهم وهو الأبقى، بتعبير المؤلف.
ويؤكد بكر الذي يعمل أستاذاً مساعداً للأدب والنقد في جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا في الكويت أن "التحدي المنطقي" الذي واجهه قبل أن يبدأ العمل في كتابه "هوامش العميد: ملامح التجربة المعرفية عند طه حسين" (الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة)، هو أن يجيب على سؤالين أساسيين هما "ما الجديد الذي يمكن تقديمه عن العميد؟ وهل تكفي الرغبة في درسه والاحتفاء به لإنتاج معرفة حقيقية مختلفة تستحق وقت القارئ، أم ستتحول الكتابة إلى تسويد بارد للصفحات بأفكار نيئة أو مكرورة؟".
ويرى بكر أن من أكثر العناصر التي ميزت طه حسين عمن سواه من أبناء جيله هو اكتسابه اللغة الفرنسية داخل سياقاتها الاجتماعية وعبر التفاعل الحي مع أنساقها الثقافية، مما جعل أدوات التفكير لديه تتحرر بصورة صادمة لمعاصريه، مضيفاً أن ذلك ميز أيضاً الشيخ محمد عبده ولكن بدرجة أقل. وفضلاً عن "عناصر التحرر" تلك تمكن حسين من اللاتينية ودرس باكراً بعض اللغات الشرقية مثل الحبشية والعبرية والسريانية، لكن هل كان طه حسين على وعي بأهمية اللغة في فهم العالم بوصفها أداة تفكير؟ نعم، يقول بكر، معتبراً أن ذلك الوعي عبر عنه العميد في مناقشة ضرورة تعليم اللغة العربية في مراحل ما قبل الالتحاق بالجامعة بوصفها اللغة القومية.
علاقة اللغة بالفكر
ويقول حسين في سياق تأكيد فهمه العميق لعلاقة اللغة بالفكر وتشكيل العالم في العقل في مقدمة كتابه "مستقبل الثقافة"، "نحن إنما نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير ونحن لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نعرض الأشياء على أنفسنا إلا مصورة في هذه الألفاظ التي نقدرها ونديرها في رؤوسنا، فنحن إذاً نفكر بهذه اللغة ونحن لا نغلو إن قلنا إنها ليست أداة للتعامل والتعاون الاجتماعيين وحسب، وإنما هي أداة للتفكير والحس والشعور" (ص 116).
ويخلص بكر في هذا الصدد إلى أن تعلم اللغات جزء رئيس في تجربة طه حسين المعرفية، فاللغة الأجنبية الثانية والثالثة في ظنه ضرورة لتحقيق المعرفة المعمقة بالعالم وذلك من طريق التعرف إلى آداب الثقافات الأخرى وطرائق تفكيرها مباشرة، من دون الحاجة إلى المرور بترجمة من لغة وسيطة هي بمثابة عدسة غير مستوية.
ويضيف، "هنا يكمن الوعي المختلف لطه حسين، إذ يتضمن كلامه أن التعرف على آداب أمة عبر لغة وسيطة، ولنقل مثلاً التعرف على الأدب الروسي عبر ترجمته عن الإنجليزية، هو ابتعاد من هذا الأدب وتسطيح له، مما يعكس مرة أخرى فهم حسين للغة بوصفها حاملة لرؤية فريدة للعالم وذات تصورات وطرائق تفكير خاصة لا يمكن فهمها بصورة عميقة إلا عبر اللغة الأصلية التي أنتجت تلك التصورات وطرائق التفكير".
تجربة العقاد
ولاحظ بكر أن عين طه حسين كانت تنفذ سريعاً باتجاه التجارب المعرفية، لا تجربته هو وحسب التي نلقى تفصيلاً لها في مقدمات كتبه، بل تجارب معاصريه، وذلك ما يتضح من وصفه في مقالة لكيفية اكتساب خصمه عباس العقاد للمعرفة، خلال مقالة نقدية له عن كتاب الأخير "رجعة أبي العلاء" وأثر ذلك في قارئه.
ويفصل حسين الكلام عن تجربة العقاد المعرفية بالتعرض للطريقة التي كان يتعامل بها مع مادة بحثه الخاص، ولا يكتفي بنقد النقد بل ينفذ إلى كيف يتعامل العقاد مع النص الذي يقوم بدرسه، وبعبارة أخرى يحاول حسين وصف الفعل العقلي الذي مارسه العقاد تجاه نص "اللزوميات"، وهو ما يكشف انشغال حسين بالتجربة المعرفية قدر انشغاله بنقد النصوص أو بنقد النقد، وهنا يبدأ النقد الذي يلمح إليه حسين بقوله إن العقاد في قراءته للزوميات أبي العلاء "يعنف بها ويفرض عليها ما عنده أحياناً".
ويمكن ملاحظة أن اعتراض طه حسين الأساس على كتاب "رجعة أبي العلاء" يتمثل في منطق الاستنباط الذي اعتمده العقاد حين يصفه حسين بأنه متنبئ، وهي صفة مستحسنة في الشاعر أو الروائي لكنها ليست مستحسنة في الباحث أو المفكر، بحسب قناعة أيمن بكر.
استدعاء أبي العلاء
ويرى بكر أن طه حسين يبدو مختلفاً في مقدمة "صوت أبي العلاء" مقارنة مع معظم مقدمات كتبه الأخرى، إذ يفرد المساحة منذ الفقرة الأولى لحكيم المعرة من دون أن يذكر شيئاً عن نفسه أو عن علاقته ببحثه أو موقفه من الأديب الذي يقوم بدرسه، كما كان الأمر في كتاب "مع أبي العلاء في سجنه" (1939) الذي تظهر فيه ملامح تجربة طه حسين المعرفية منذ الإهداء حين يقول "إلى الذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس"، وهو إهداء يعبر ليس فقط عن موقف طه حسين من بعض خصومه بل عن إصراره على العمل في إنتاج المعرفة على رغم ما يواجه من هجوم وتضييق.
إنه يهدي إلى مهاجميه الكتاب تهكماً عليهم ومقاومة لهم في الوقت نفسه، مما يعبر عن ملمح مهم في تجربته المعرفية. وأقصد، يقول بكر، العناد في التمسك بالقناعات ما لم يتم دحضها بصورة علمية منظمة، والإصرار على العمل طبقاً لتصوراته المستفزة للثقافة المحيطة طالما بقيت قناعته بتلك التصورات قائمة. واختلاف تلك المقدمة ربما يرجع إلى أن طه حسين تحدث عن نفسه حين وصف أبا العلاء وقام بتقييم ذاته، وهو يقيّم أبا العلاء وعاب زمانه ومعاصريه حين عاب زمان المعري ومعاصريه.
وعي ساطع
يتكون الكتاب من مقدمة تليها أربعة فصول يستجلي أولها التجربة المعرفية، ويحاول بسط ملامحها من طريق تحليل مقدمة طه حسين لكتاب "مع المتنبي" وخاتمته للكتاب نفسه.
ولاحظ بكر أن مفهوم النفس عند طه حسين يتمثل ثنائية مصرية قديمة بين مفهومي "الكا" و"البا"، أو بين طاقة الحياة الساعية للخلق والإبداع والحركة وطاقة الحياة الراغبة في الاستمتاع والهدوء والاسترخاء، وأن الصراع بين هذين المكونين يمثل جزءاً معرفاً لتجربة حسين المعرفية، كما أنه كان على وعي ساطع بهما وبالصراع بينهما. ويتناول ثاني فصول الكتاب الجانب الشفوي الذي ميز عقلية طه حسين بأثر من فقده البصر وتعليمه الأزهري، مما جعله يحتفظ بشخصية "شيخ العمود" في أدائه العقلي وأسلوب كتابته جميعاً، وهما من أهم جوانب تجربته المعرفية. ويعيد هذا الفصل النظر مرة أخرى في قضية الانتحال المشهورة بوصفها تعبيراً عن صراع العقليتين الكتابية والشفاهية عند طه حسين.
أما الفصل الثالث فيناقش مقدمة "مستقبل الثقافة في مصر" في محاولة لتوسيع أفق الرؤية، مجاوزاً الموضوع الذي تمت محاصرة الكتاب فيه وهو التعليم، إذ حاول هذا الفصل إثبات أن همّ طه حسين كان مناقشة دور الثقافة ككل في لحظة تاريخية حرجة، وأن التعليم لم يكن سوى مثال تطبيقي على رغم احتلاله معظم صفحات الكتاب، ولهذا يتعرض الفصل في بدايته للمشكلات التي تعوق الثقافات العربية عن إعادة النظر في المشاريع الثقافية الكبرى لمفكريها.
ويبلور الفصل الثالث إشكالين هما الإجمال المخل الساعي للكشف عن جوهر مفترض للخطاب المعرفي، والاستخدام السياسي لتلك المشاريع المعرفية، فيما يركز الفصل الرابع على ما سماه بكر "شذرات العميد"، أي تلك الأفكار والمواقف التي تناثرت في كتابات طه حسين ولم تلق تحليلاً وافياً، مثل موقفه من تعلم اللغات الأجنبية والترجمة عنها. وكذلك يتعرض الفصل ذاته بالتحليل لمنطق الخصومة بين طه حسين والعقاد، مما يكشف عن جانب مهم في تجربته المعرفية ويلقي ضوءاً كاشفاً على ما شهدناه ونشهده من صراعات مريرة لا تستحق صفة "الثقافية" منذ ثمانينيات القرن الـ 20 تقريباً، بحسب المؤلف.
ويضم الفصل الرابع كذلك تحليلاً لفكرة "الصوت والصدى" التي اقترحها حسين لوصف علاقته بأبي العلاء المعري في كتاب "صوت أبي العلاء"، وعلاقة هذه الفكرة بتصور حسين عن نفسه وعن تجربته المعرفية، وما يرجوه لمنتجه الفكري في مستقبل السنين بعد انتهاء حياته.