د. شاكر الحاج مخلف*
قراءة تاريخ المرحلة الإسلامية ليس باليسير لعمل الباحث، إذ هناك الكثير من الكوابح والمنعطفات التي تحتاج التفكر والتدبر، تلك القراءة تضعنا أمام مفترق طرق يؤسس لبذرة خلافات جذرية منها الحادة جدا، كما يشير بدقة إلى جذور الخلاف الذي قسم القوى الجديدة وجعلها تبدو في اتجاهين متعارضين حد الاحتراب أحيانا، وفق تعصب مريض، أطلق البعض عن قصد او تماشيا مع بعض الحقائق على كلا الاتجاهين – اليمين واليسار في الإسلام: اليمين الموصوف يدافع عن إرث قديم وعن زمن سيطرة بدأ بالزوال، وعن التمسك بعبودية الناس واستغلالهم بشكل مهين. بينما الاتجاه الآخر الذي يوصف باليسار وقد استمد شرعية وجوده من جوهر الدين الجديد الذي سعى إلى نشر حالة التآخي والعدل والحرية ونبذ العبودية ورفض حالة الاستغلال والتعاون والتكافل. لكل طرف قوته، الباحث العربي أو الأجنبي المتحرر من عقدة الانحياز او التكتل الطائفي والملتزم بجوهر العقيدة ومنطلقاتها يرى بدقة متناهية ان الدين الجديد الذي اعلن عن ظهوره في شبه جزيرة العرب تضمن في محتواه نشر مبادئ سامية إنسانية لا تفرق بين الناس وتقول ان الناس سواسية أمام الخالق وأمام العدل والقانون، وفي العمل الصالح، تمثل ذلك بالدعوة الصريحة إلى موازنة العدل والحقوق بين الرعية، لا فرق بين أسود وأبيض في الحقوق والواجبات، كل الناس مدعوون إلى العمل النافع، كلهم أيضا مدعوون إلى تنظيم أمور الحياة وفق معيار صحيح، لا طبقية، لا استغلال، لا ظلم، أخضعت الدراسات الحديثة الفكر الإسلامي للمقارنة مع أفكار ونظريات عديدة ورغم تطور مفاهيم الإنسان الحديث في فهم الحياة وسبر أغوارها المجهولة والخفية، كانت البوصلة تعود دائما نحو القيم التي نشرها الدين الجديد، فواصل التاريخ البعيد والقريب تجدها متجاورة في تلك الإشارات والمضامين والرؤى وتظل بوابة الدعوة للخير والإصلاح وبناء العلاقات المتوازنة قائمة على العدل والتحرر ونمط التعاون وعدم الاستغلال هي الأقوى.
في هذا النشر، أنا لا أقصد المفهوم الديني والخوض بمساراته فهو معلوم وواضح وله اتباعه إنما شدني تاريخيا ذاك الصوت والفعل الذي يمثل إشارة مهمة نحو بدايات الفكر الاشتراكي. ذاك هو السهم المنطلق نحو المدى البعيد، وعلى مر فواصل الزمن المتداخل، يتمثل ذلك بالتيار الذي يصفه رجال البحث التاريخي العلمي بالاتجاه اليساري المناقض آنذاك للتوجه اليميني المستغل المنطلق من الحفاظ على المطامع والجشع ومنع الخير عن الناس، وجدت في جهاد "الغفاري" والذين ذهبوا في ذات الاتجاه بدايات الاشتراكية العربية في النهج الجديد – قد تقع المقارنة الصادقة مع قيم وأفكار النظريات والمذاهب التي روّجت الاشتراكية وفق مسميات عديدة ، تلك التي رفعت في اندفاعها الإنسان في عدد من البلدان إلى مستوى أفضل. كما يجب معرفة حقيقة غيبها البعض وهي ان أفكار النهج الاشتراكي وما يمثله في القانون والعدل وحماية مصالح الإنسان موجودة منذ حضارة "سومر" وما تبعها من حضارات ظهرت في بلاد ما بين النهرين. برزت تلك الأفكار وتطورت وتمت المناداة بها في تكوين الدين الجديد الذي لم يعلن الحرب صراحة على ثروات التكوين الأممي ولا الثروة التي يملكها الأفراد، بل هو رفع شعار محاربة اكتناز الثروة لدى فئة قليلة وتجريد فئة كبيرة منها. الإسلام في فكره الجديد لم يعط للغني أفضلية على باقي الناس، ليس له حق أدبي أو معنوي مميز، بل وضع اشتراطات على ثروته – اشتراطات وفق أركان الدين الجديد منها الزكاة وأمور اخرى – نجد تلك الإشارات واضحة في نصوص آيات القرآن الكريم وفي نهج بعض الصحابة وممارسات الخلفاء الأربعة - حياة "الغفاري" وجهاده فيه الكثير من الإشارات الى بدايات النهج الاشتراكي والى الفعل السياسي الاجتماعي المعارض للظلم وحالة الاستلاب المادي والفكري، والحث على إطلاق نهج الحرية والمساواة بين الناس وإزالة الفوارق الطبقية وسرقة قوت العامة. ان توضيح مواقف الغفاري تقود الى تثبيت دعائم فقدناها وتعلن الفكرة والصيحة القوية حيث تتهاوى الأمة الآن ..!
في السجل الذي رفعه العالم لفترة من الزمن كان هناك هدف لتحقيق الاشتراكية، وعلى أثر ذلك، سادت أنظمة وقوانين حاولت تجسيد ذلك المشروع المهم كونيا: تغيرت الكثير من السياسات الثابتة والمرحلية، وحصلت هجمة قاسية ضد أصحاب روؤس الأموال من طبقة التجار والأغنياء وأصحاب الشركات والمعامل الخاصة ذات الإنتاج الصناعي. وشكلت بعض الخطط والقرارات مواجهة جادة ضد حالة التردي، ورفضت استمرار القوى الاقطاعية المستغلة والسكوت عن فعلها، وهي تمسك برقبة اقتصاد الشعوب وتقود جموعا كثيرة قسرا نحو الفقر والتضور جوعا وتجعلها فريسة للمرض والموت، مع ان بعض الحضارات وسمت التاريخ بشذرات من القوانين التي تقود إلى ظهور مجتمع الكفاية والعدل – خاصة في سجل حضارة بلاد ما بين النهرين، حيث نجد المسلات والشرائع المتعددة قد وضعت المساواة بين عامة البشر كهدف أول. تلك الأفكار المبكرة أثرت كثيرا في دساتير الديانات التي ظهرت لاحقا. تلك المظاهر كانت بمثابة حياكة للثوب الإشتراكي البسيط. صحيح ان القول لدى البعض لم تتوفر له أفكار معمقة ولا نظريات، بل كان ممارسة لحالة الرحمة والعطف ورفع الحيف، اي مجرد اشتراكية لفظية عامة تنسجم مع أفكار المعبد، وهي تهدف إلى تحقيق تغيير مهما كان الأثر المنشود، حيث لم تقف قوى أصحاب السيطرة المالية والاقتصادية مكتوفة الأيدي بل إزدادت ضراوة وصارت تسلب القوى الفقيرة والكادحة في زراعة الأرض ما تنتجه وما تملكه تحت ذرائع شتى. تأثر الفلاح وهو المنتج الأول والمستُغل الأول.
وجدت أثناء البحث أن الديانات القديمة ساهمت إلى حد بعيد في نشر حالة الاستغلال وتعضيد حالة الفوارق الطبقية، لكن ظهور الأديان فيما بعد بشر بنوع من المساواة بين الناس كما ظهرت أنماط أخرى من الاستغلال.
قبل الدخول في فضاء الاشتراكية المعاصرة والحديث عن مراحلها الأخيرة وهي تذهب نحو الأفول وكذلك قبل التوغل في جذورها التي ظهرت في الديانة الإسلامية لابد من المرور على المراحل التي أسست ظهور الفكر الاشتراكي وما رافقه من تجارب، نتفحص بشكل علمي موثق تلك الحالات والمذاهب والأفكار التي اتخذتها منبرا لها، وربطت بها التوجه الاقتصادي. وهنا أقصد الترويج في دول معينة من التكوين الغربي في القرن الماضي، ذلك يعود إلى مراحل محددة كانت بدايتها في القرن السادس عشر، سنجد عند الإبحار في الأحداث والتفاصيل والمقارنة وجود تفاوت وتناقض بين نظرية وأخرى أو بين فكرة وأخرى، ويظل التشابه والاختلاف لدى الباحث والمتلقي واضحا ويمكن التفريق بين عوامل النجاح والنكوص.
حصلت أحداث جوهرية تمثلت في انتفاضات شعبية وثورات وحروب وقلاقل طبيعية وتراجع اقتصادي عنيف حقق بالنتيجة وضعا مؤذيا قاد الى كساد اقتصادي في بعض الدول ونتج عنه حالة مزرية للشعوب المحكومة بالفعل العسكري، تلك النظريات ومعها مناهج التطبيق سقطت في النهاية في هوة عميقة لا قرار لها، وبدت الاشتركية في الكثير من البلدان هزيلة متحجرة وعقيمة ولا يساوي الحديث عنها شروى نقير.
الدول والشعوب التي كانت متحمسة لها وتعمل على تطبيقها تراجعت ووضعتها على رف منزو ومن جديد عادت للترويج للملكية الخاصة وخصخصة الفعل الاقتصادي. هكذا وصلت الاشتراكية الى مرحلة الكساح. لم نعد نسمع في وسائل الإعلام ذاك التطبيل العالي لها. وضمن السياق التاريخي نجد البحث في اصول اشتراكية العالم الاسلامي رغم القصور في التطبيق تظل ركائزها ثابتة في الزكاة والتكافل الاجتماعي وتعظيم العمل والانتاج وبث روح التعاون. تلك الأفكار الدينية لها تأثيرها في النهج الاجتماعي التربوي رغم ان الحكومات السائرة في تطبيق أجندة المستعمر الغربي تضع باستمرار الكوابح الشديدة أمام ذاك النهج بكل أبعاده، في سنوات فورة اكتشاف الذهب والفضة من قبل بعض الدول الكبرى المتقدمة صناعيا ومنها "أمريكا" ولحقت بها فيما بعد أسبانيا أدى ذلك إلى وجود أسواق ومستعمرات ونشوء حالة الاستعمار المنتشر في المناطق الرخوة- هذا التوصيف يضعنا في ضفاف القرن السادس عشر تحديدا، عندما اكتشفت قوى الاستعمار ان تلك المعادن هي الأثمن كونيا ولذلك حصل السباق في وضع خرائط تحديد أماكن تلك الثروات والسباق للسيطرة عليها، على أثر ذلك صدرت قوانين وتشريعات تعمل على منع تصدير تلك المعادن إلى الدول النامية والمحافظة على مخزونها وهكذا صار السباق بين الدول على أشده في عملية البحث والسيطرة وتنمية الموارد الطبيعية وإرسال فرق التنقيب تحت مسميات مستترة، قبل هذه الثورة الصناعية كان العرب وفي أجواء الإمبراطورية الإسلامية في بغداد قد عرفوا الذهب والفضة وتعاملت به شعوبهم من خلال صناعة المجوهرات للنساء وكذلك ضرب العملة الذهبية والفضية وفي مجال الهدايا والنقوش وتزيين واجهات القصور التي تتخذ مقرا للخلافة ..
• باحث عراقي