الحلقة الثانية
د. شاكر الحاج مخلف*
في فترة التأسيس تلك تنافست الدول الصناعية الكبرى وبحثت في طرق تنفيذ تنظيم جديد لتجارتها من أجل ذلك وضعت الخطط المحسوبة لترفع من مستوى صادراتها الصناعية أكثر من وارداتها التي تأتيها من دول أخرى كي تحقق الأرباح المطلوبة التي يتم استيفاؤها بالعملة المتداولة، وكانت على الأغلب من الذهب، من أجل تثبيت دعائم ذاك النظام الجديد في مشروع التبادل التجاري. وقد ظهرت إلى الوجود قوانين تم بموجبها وضع الرسوم والضرائب المرتفعة على الواردات تبعا لذلك صارت كل دولة تعمل بدأب على تحقيق الكفاية والفائض في الإنتاج الزراعي والصناعي وتجد الأسواق الجيدة لتصدير الفائض من الناتج السنوي، حيث أعطت تلك التشريعات للدول الدور الجديد – دور التاجر الحر – الذي يعمل للحصول على الأسواق التي تتولى تسويق بضائعه إلى الدول التي تطلبها، وهكذا صارت لها إدارات ووزارات ومؤسسات للتجارة الداخلية والخارجية لها الدور الفاعل في تنمية وتفعيل خطط التنمية والإعمار.
أطلقت حركة التوثيق الدولية اسم "مرحلة الدخول إلى الثروة والرخاء الإقتصادي"، وبدأت أوروبا تنتقل إلى مرحلة الإزدهار الزراعي والصناعي وباتت قوة التجارة واضحة، والتي حصل من خلالها مسك الأسواق الدولية، الأمر الذي أدى إلى نتائج سلبية تمثلت في تقييد حرية النشاط التجاري الفردي، وتحديد أنواع السلع التي يمكن المتاجرة فيها من قبل صغار التجار، وهيمنة الدولة على أغلب النشاط التجاري، الأمر الذي أنعكس أيضا على تدهور الناتج الزراعي في العديد من الدول الصناعية، ما ترتب على ذلك حصول شحة في الإنتاج ومظاهر القحط وتفشي الكوارث الوبائية.
وظهرت العديد من العقبات التي حدت من حالة التطور التجاري بسبب شحة المواد الأولية وتردي الإنتاج، وقد ظلت تلك الأفكار والممارسات القانونية القسرية تسيطر على حركة التجارة والمجتمع التجاري بشكل عام في أوروبا، ثم تغير الحال بعد ظهور دراسات في الاقتصاد والتجارة وتنظيم حقوق الناس. وقاد تلك الدعوة القوية رجال الفكر في أوروبا وأمريكا وبريطانيا من أمثال روسو ولنكولن وفولتير وغيرهم. وبدأت أول ملامح التخلص من العبودية تتحرك في كل اتجاه من خلال الدعوة المتعاظمة لتحقيق حرية الإنسان ووضع تشريعات قانونية جديدة منها تمجيد حرية الإنسان العامل بذلك ازدادت وتوسعت المظاهر الاحتجاجية عندما رفع المفكر الفرنسي الفزيو كرات دعوته الشجاعة ونشر نقدا علميا لتلك القوانين الجائرة، اطلق من خلاله صرخة قوية لتحقيق فكرة حرية التجارة الدولية، وطالب بإغلاق وتخفيف الحواجز الضريبية على كل أنواع التجارة. كما تم تأسيس منظمات ومؤسسات وجمعيات لذلك الهدف، رفعت بشكل تضامني شعارا موحدا هو "دعوا التجار يعملون بحرية – دعوا البضائع تمر إلى الأسواق القريبة والبعيدة" الى جانب تلك الدعوة جاءت دعوة أخرى أطلقها المفكر جون بول فيتوس وناصره المفكر فرانسوا كيناي وكلاهما من رجال الاقتصاد الذين عاشوا خلال أواسط القرن الثامن عشر.
قادت تلك الدعوات المتتابعة إلى انتشار الفكر الاقتصادي الحديث الذي تبع نظريات آدم سميث. تلك الدعوات الصادمة لمنظومات الحكم الطاغية، طالبت بأن يترك كل فرد يعمل بحرية ودون قيود وتدعيم النشاط التجاري الفردي الخاص وتزايد تكرار حالات الاحتجاج كما وجدت تلك الأفكار الموافقة في ما بعد من الحكومات ومؤسساتها التجارية، تم على أثر ذلك إزالة جميع الحواجز وإصدار تشريعات قانونية جديدة عرفت بقوانين حرية التجارة الحديثة وترافق مع ذلك تزايد ظهور أفراد طبقة التجار الأغنياء إلى جانب فئة فقيرة مستغلة تعمل في المعامل التي تمتلكها الطبقة الغنية المتنفذة صاحبة القرار الفاعل، الأمر الذي هيأ الفرصة لظهور صراع حاد بين الطبقتين، وأدى ذلك إلى ظهور بوادر الثورة الصناعية التي جاءت بعد تطوير وسائل جديدة للتقنية في الصناعة من خلال ابتكار الآلات وانتشار استعمالها لزيادة وتيرة الأرباح لدى أصحاب المعامل والتجار، وتم بعد ذلك تدريجيا تقليص أعداد الأيدي العاملة في المعامل، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لصراع حاد صار ينمو بقوة.
بعد التدهور الذي لحق بالطبقة العاملة وانحطاط مستواها المعيشي وتزايد أرباح الطبقة الغنية المسيطرة على الإنتاج التي يطلق عليها تسمية الرأسمالية التي عملت بشكل وحشي لجني الأرباح والقفز على العامل الإنساني وجمع الثروة بطرق أحيانا تكون غير مشروعة دون الالتفات إلى الضرر الذي ألحقته تلك الممارسات بجموع العمال، وكيف تم هضم حقوقهم من تلك التجاوزات (تقليل الأجور – عدم سن قوانين للضمان في مرحلة الشيخوخة – عدم دفع التعويضات عند حصول إصابات العمل – محاولة تحديد الأجور ضمن نطاق الكفاف وجعلهم في واقع العيش تحت مستوى الفقر) كانت القوى المستغلة تدرك ان جموع العمال لا تمتلك الرفض وليس لديها مجال للمناورة او بدائل. كل ذلك حصل بسبب التشريعات والقوانين التي جاءت بها تلك التشريعات، عندما أقرت المذهب الحر التجاري الذي أدى إلى الإخلال بالتوازن الاجتماعي، فظهرت احتجاجات جديدة وعنيفة أشارت الى ان الثروة التي حصلت عليها الطبقة الرأسمالية كانت ثمرة جهودهم في المعامل وطالبت أصوات الإحتجاج بان تكون الأرباح خاضعة لحالة العدل في التوزيع بين صاحب المعمل والعامل ، هذه الصرخة القوية أدت إلى البحث عن أفكار جديدة لمعالجة الخلل الحاصل آنذاك.
ووجدت أفكار كارل ماركس الألماني صداها الكبير وصارت تلك الأفكار تتمحور حول الدعوة للإشتراكية. يوصف ماركس بأنه فيلسوف وناقد للإقتصاد السياسي ومؤرخ وعالم إجتماع ومنظر سياسي وصحفي ثوري إشتراكي – عمل بالتعاون مع صديقه فريدريك انجلز وتم إنجاز كتابهما "البيان الشيوعي ورأس المال" وجاء في ثلاثة أجزاء – كان لتفكير ماركس السياسي والفلسفي تأثير هائل على التاريخ الفكري والإقتصاد العالمي، حيث استخدم اسمه للدلالة على ظهور مدرسة مهمة ارتبطت بها التطورات الكثيرة لاحقا، تمت الإشارة لها بالماركسية وقامت نظريته الإشتراكية على مبدأ تطور المجتمعات عبر الحقب الزمنية. تلك الدراسة كانت خاضعة لمبدأ الصراع الطبقي ومهاجمة نمط الإنتاج الرأسمالي والإشارة للصراع الذي ينفجر لاحقا بين الطبقة البرجوازية الرأسمالية الحاكمة والمالكة لوسائل الإنتاج والطبقات المستغلة العاملة التي عرفها بطبقة البروليتاريا، وهي الطبقة التي تبيع ناتج عملها لقاء عائد أجور – استخدم ماركس في دعوته منهج المادية التاريخية النقدي ليتنبأ بأن الرأسمالية ستتعرض لاحقا لتوترات داخلية في النظم الإجتماعية والإقتصادية الأمر الذي سيؤدي لتدميرها ذاتيا واستبدالها بنظام يلتزم بنمط الإنتاج الإشتراكي. كما رأى أنها تفرز أزمات نتيجة عدم استقرارها الجزئي، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى وصول الطبقة العاملة لمرحلة الوعي الطبقي، الأمر الذي يؤهلها للاستيلاء على السلطة السياسية وإنشاء المجتمع الإشتراكي الذي تتمثل فيه أسس الكفاية والعدل، كما طالب في بيانات أخرى الطبقة العاملة بان تقوم بعمل ثوري لإسقاط الرأسمالية وتحقيق التحرر الإقتصادي ....
(يتبع)..
• باحث عراقي