(الحلقة الرابعة)
د. شاكر الحاج مخلف*
الغفاري في المصادر
أبو ذر جُنْدَب بن جنادة الغفاري (المتوفى سنة 31 هـ أو 32 هـ) صحابي من السابقين إلى الإسلام. قيل إنَّه رابع أو خامس من دخل في الإسلام، وأحد الذين جهروا بالإسلام في مكة قبل الهجرة النبوية ، كان موحدًا قبل ظهور الإسلام ، لا يعبد الأصنام وحين بلغته الأخبار بأن هناك من يدعو للتوحيد في مكة، سارع إلى الإسلام، فكان من السابقين إلى الإسلام. هاجر إلى المدينة المنورة بعد غزوتي بدر وأحد، ولزم النبي، وشارك في غزواته ، شهد أبو ذر فتح بيت المقدس ، وأقام في الشام ، تسببت مجاهرته بالحق والتشهير بالظلم في فساد العلاقة مع والي الشامِ معاوية بن أبي سفيان، الذي كتب يشكوه إلى الخليفة الثالث بأنه أفسد عليه الشام ، فطلبه الخليفة ؛ فخرج أبو ذر إلى المدينة. وفي المدينة حدثت خلافات أشد بينهما، نفي إلى الرَّبْذَة، وتوفي فيها سنة 31 هـ أو 32 هـ، وصلى عليه عبد الله بن مسعود، وألحده بنفسه ، كان زاهدًا عالمًا، قال عنه الذهبي في ترجمته في كتابه «سير أعلام النبلاء»: «وَكَانَ رَأْسًا فِي الزُّهْدِ، وَالصِّدْقِ، وَالعِلْمِ، وَالعَمَلِ، قَوَّالًا بِالحَقِّ، لاَ تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، عَلَى حِدَّةٍ فِيْهِ».
السيرة والنشأة والنسب
نشأ أبو ذر الغفاري في مضارب قبيلته غِفار أحد بطون بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت مضاربها على طريق القوافل بين مكة والشام ، أما اسمه ونسبه فقد تضاربت فيه عدة أقوال والثابت في جميع المصادر أن اسمه هو «جُنْدَب بْنُ جُنَادَةَ».
الزاهد المجاهر بالحق
كان آية في الزهد وحب الفقراء، عطاؤه من بيت المال أربعة آلاف، فكان إذا أخذ عطاءه، يدعو خادمه، فيسأله شراء ما يكفيهم للسنة، ثم يستبدل بباقي المال نقودًا يفرقها على الفقراء، ويقول: «إنه ليس من وعاء ذهب ولا فضة يوكى عليه إلا وهو يتلظى على صاحبه»عرف عنه شجاعته كان موحّدًا، ولا يعبد الأصنام، وذكره محمد بن حبيب البغدادي فيمن «حرم في الجاهلية الخمر والسكر والازلام» ، حين بلغته الأخبار بأن هناك من يدعو للتوحيد في مكة، سارع إلى الإسلام ، فكان من السابقين إلى الإسلام على خلاف أكان رابع أربعة أم خامس خمسة انضمامًا إلى الإسلام ..
الباحث عن الحقيقة
ووردت روايتان حول قصة إسلامه، الأولى أنه بلغه مبعثُ النبيّ، فقال لأخيه أُنَيْس: «اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني»، فانطلق أنيس وسمع قوله، ثم رجع إلى أبي ذر،
فقال له: «رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلامًا ما هو بالشعر»
فقال أبو ذر: «ما شفيتني مما أردت»
قدم الى مكة، والتمس النبي وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع فرآه علي بن أبي طالب فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، واستضافه ثلاثة أيام، ثم سأله عن سبب قدومه،
قال أبو ذر: «إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا أن ترشدني فعلت»
، ففعل علي فأخبره، فقال:
«إنه حقّ، وإنه رسول الله ﷺ، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي»
، ففعل، وانطلق يلحق به حتى دخل على النبي، وسمع من قوله، فأسلم لوقته، ثم أمره النبي قائلاً:
«ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري»،
فقال أبو ذر: «والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم»،
فخرج حتى أتى المسجدَ فنادى بأعلى صوته:
«أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله»،
فقام القوم إليه فأوسعوه ضربًا حتى أضجعوه، وأتى العباس بن عبد المطلب، فأكبَّ عليه ليمنع عنه،
وقال: «ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غِفار! وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام؟» فأنقذه منهم. أمّا الرواية الثانية فقد رواها مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر.
انطلق أبو ذر بعدها إلى قومه امتثالًا لأمر النبي لدعوتهم إلى الإسلام، فلبّى نصف قومه دعوته، وأقام فيهم يقيم معهم شعائر الإسلام، يؤمهم كبيرهم إيماء بن رحضة الغفاري، وبقي نصفهم الآخر على شرْكه حتى هاجر النبي إلى المدينة المنورة، فأسلم بقية قومه، وتبعتهم قبيلة أسلم، ثم وفدوا على النبي، وفيهم أبو ذر، فدعا لهم النبي فقال: «غِفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله». وكان مَقدم أبي ذر على النبي في المدينة المنورة بعد غزوة أحد ..
المؤتمن
يُذكر أن النبيّ استعمل على المدينة أبا ذر لما خرج إلى غزوة ذات الرقاع ، ولما خرج النبي إلى غزوة بني المصطلق استعمله على المدينة ، كما حمل أبو ذر راية قبيلته غفار يوم حنين، ولما انطلق النفير ليجمع الرجال للمسير إلى قتال الروم في غزوة تبوك، تحسس المسلمون المتخلفين عن الغزوة، وأعلموا النبي،
فقالوا: «يا رسول الله، تخلّف أباذر»،
فقال النبي: «دعوه، إن يكن فيه خير فسيلحقكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه»،
حتى قيل: «يا رسول الله، تخلف أبو ذر»، وكان بعير أبي ذر قد أبطأ به، فأخذ متاعه، فجعله على ظهره، وخرج يغذُّ السير يتبع الجيش ماشيًا، ونظر ناظر،
فقال: «إن هذا لرجل يمشي على الطريق»،
فقال النبي: «كن أبا ذر»،
فلما تأمله القوم، قالوا: «هو والله أبو ذر»،
فقال النبي: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده».
القريب
كان أبو ذر أثناء إقامته بالمدينة يقوم على خدمة النبي، حتى إذا فرغ من خدمته، أوى إلى المسجد لينام. وجده النبي يومًا نائمًا في المسجد، فنكته برجله، فاستوى أبو ذر جالسًا،
فقال النبي: «ألا أراك نائمًا؟»،
قال أبو ذر: «فأين أنام، هل لي من بيت غيره؟»
، فجلس النبي إليه، ثم قال:
«كيف أنت إذا أخرجوك منه؟»
، قال أبو ذر: «ألحق بالشام؛ فإن الشام أرض الهجرة، وأرض المحشر، وأرض الأنبياء، فأكون رجلاً من أهلها»
، فقال النبي: «كيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟»
قال: «أرجع إليه؛ فيكون بيتي ومنزلي»،
قال النبي: «فكيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية؟»
، قال أبو ذر:
«آخذ إذًا سيفي فأقاتل حتى أموت»
، فكشّر النبي، وقال:
«أدلك على خير من ذلك؟»
، قال: «بلى، بأبي وأمي يا رسول الله»
، فقال النبي:
«تنقاد لهم حيث قادوك، حتى تلقاني وأنت على ذلك».
ولما اتسعت رقعة دولة الإسلام في آخر حياة النبي سأل أبو ذر النبيَّ الإمارةَ، فأبى النبيُّ وقال: «إنك ضعيف، وإنها خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها».
الزاهد – الراوي
شارك أبو ذر في الفتح الإسلامي للشام بعد وفاة النبي، وشهد فتح بيت المقدس مع الخليفة الثاني ، وبعد الفتح أقام في الشام، وتذكر بعض المصادر الخليفة الثالث هو الذي نفاه إلى الشام، وكان يُفتي الناس ويُعلّمهم أمور دينهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولكن في حِدّة. تسببت حدته تلك في فساد العلاقة مع معاوية بن أبي سفيان والي الشام حين اختلفوا في آية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣٤﴾
[التوبة:34]
فيمن نزلت، إذ قال معاوية:
«نزلت في أهل الكتاب»،
بينما قال أبو ذر: «نزلت فينا وفيهم»،
فكتب معاوية يشكوه إلى الخليفة بأنه أفسد عليه الشام، فطلبه الخليفة ؛ فخرج أبو ذر إلى المدينة. أقام أبو ذر في المدينة يدعو الناس بنفس المنهج الحاد، مما دعا الخليفة لمعاملته معاملة خاصة يغالبها الحذر. حتى إذا كان يوم كان فيه أبو ذر عند باب الخليفة ليؤذن له، إذ مر به رجل من قريش، فقال:
«يا أبا ذر، ما يجلسك هاهنا؟»،
قال أبو ذر:
«يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا»،
فدخل الرجل فقال: «يا أمير المؤمنين، ما بال أبي ذر على الباب؟».
فأذن له، فجاء حتى جلس، فإذا عثمان يسأل كعب الأحبار في ميراث يُقسّم: «أرأيت المال إذا أدي زكاته، هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟»،
فقال كعب: «لا»،
فقام أبو ذر فضربه بعصا، ثم قال:
«يا ابن اليهودية، تزعم أن ليس عليه حق في ماله، إذا آتى زكاته، والله يقول: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٩﴾ [الحشر:9].
ثم اردف قائلا:
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ٨﴾ [الإنسان:8]»،
لم يستطع أبو ذر أن يتأقلم مع الباطل ، وروى البخاري في صحيحه ان الخليفة في امرين فقال:
«إن شئت تنحَّيتَ، فكنتَ قريبًا»،
عندما رفض نفاه إلى الربذة....
يتبع