(الحلقة السادسة)
د. شاكر الحاج مخلف*
العالم العابد الناصح
حرص الغفاري منذ دخوله الدين الجديد أخذ الاحكام والفتاوى والتوجيه من النبي " ص " لم يتردد يوما في السؤال وإثارة الفكرة في حضرته ولدى الفقهاء والصحابة وخاصة من لدن بوابة العلم " علي بن أبي طالب " كما جاء في وصف النبي له ، وعندما تمكن تماما من الإحاطة بالمعرفة صار في فترة حكم الخلفاء صار راية للعلم وصوتا ينطق بالفتاوى الصحيحة المستندة إلى الآيات البينات من القران والاحاديث الشريفة ، أعطاه البعض من الصحابة الموقع المتميز وجعلوه بمستوى علم ابن " مسعود " أنعكس ذلك على مكانة رفيعة له لدى الخلفاء وعامة المسلمين ، رأى الخليفة الراشد الرابع أن أباذر الغفاري صار يقرن قول العلم والمعرفة بالعمل ويجاهر بقول الحق ، وصفه بأنه على قدر كبير من التقوى والعلم بأصول الشريعة والتنزيل الحكيم ، عاب عليه بعض الصحابة انه لم يخرج كل علمه لمن كان يتبعه من طلاب العلم ، تذكر الروايات المنقولة ان إمام المتقين قال عنه " : «أبو ذر وعاء مُلئ علمًا، أوْكى عليه، فلم يَخرج منه شيء حتى قُبض» ، وقد روى " ابن ماجه وغيره من كتاب السيرة النبوية ، ان له مكانة كبيرة عند النبي حيث قال عنه :«إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ سَمِّهِمْ لَنَا، قَالَ: عَلِيٌّ مِنْهُمْ، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلاَثًا وَأَبُو ذَرٍّ، وَالمِقْدَادُ، وَسَلْمَانُ أَمَرَنِي بِحُبِّهِمْ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ» ويروي أبو الدرداء أن النبي كان يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب، كما أردفه النبي خلفه يومًا على ظهر حماره ، وقد سمع عبدُ اللهِ بنُ عمرو بن العاص النبيَّ يقول: «ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر» ، ويروي " أبو هريرة " عن النبي قوله: «من سرّهُ أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم ، فلينظر إلى أبي ذر» وقال عنه علي بن أبي طالب: «لم يبق أحد لا يبالي في الله لومة لائم ، غير أبي ذر»، ثم ضرب بيده على صدره وقال: ولا نفسي ...
رجل الجهاد والمواجهة
يُعد الغفاري من أهم علماء الذين ظهروا تعبيرا وجهادا عن الدعوة الإسلامية ، زاهدا سيفا من سيوف الحق ومجاهدا ضد صور الفقر والبؤس والفساد ، لم يكن يدخر مالا من عطائه بل ينفق النصيب الأكبر منه في سبيل مساعدة المحتاج وعابر السبيل ،يصفه أحد رواة الحديث والسيرة النبوية فيقول " الغفاري هو العابد الزاهد ،القانت الوحيد، رابع الإسلام ، ورافض الأزلام قبل نزول الشرع والأحكام ، تعبد قبل الدعوة بالشهور الأعلام ، وأول من حيا الرسول(ص) بتحية الإسلام ، لم يكن يأخذه في الحق لائمة اللوام ، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكام ، أول من تكلم في علم البقاء ، وثبت على المشقة والعناء ، وحفظ العهود والوصايا، وصبر على المحن والرزايا ، واعتزل مخالطة البرايا إلى أن حل بساحة المنايا. ، أبوذر الغفاري، خدم الرسول(ص)، وتعلم الأصول، ونبذ الفضول.."
قال: والله لقد أوصيت إلى أمير المؤمنين(ع) حق أميرالمؤمنين ، والله إنّه للربيع الذي يسكن إليه، ولو قد فارقكم لقد أنكرتم الناس وأنكرتم الأرض ..
وينقل ابن أبي الحديد عن أبي رافع قال: أتيت أبا ذر بالربذة أودعه ، فلما أردت الانصراف ، قال لي ولأناس معي: ستكون فتنة فاتقوا الله ، وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب (ع)، فاتبعوه وقد بلغت هذه العلاقة والمحبة درجة بحيث كان أحد الذين حضروا تشييع جثمان فاطمة الزهراء ليلا ، كما نقلت روايات عديدة عن الغفاري ومسيرته في العديد من المصادر مثبتة ، كان الغالب منها يدور حول وصايا الرسول وتفاصيل مواقفه ، كان يقول غير آبه بمنع كتابة الحديث: " والله لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى حلقه - على أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله(ص) لأنفذتها قبل أن يكون ذلك " وقد أدى التزامه بنقل الحديث إلى أن سجن وتعرض للنفي لعدم موافقته على تمجيد الظلم والمقال السيء ..
روي ابن أبي الحديد عن حادثة نفي أبي ذر إلى الشام قائلاً: إن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره من بيوت الأموال، واختص زيد بن ثابت بشيء منها، جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع: " بشّر الكافرين بعذاب أليم " ويرفع بذلك صوته... فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي ، الحق بالشام، فأخرجه إليها ، وعندما أقام في الشام بدأت في حياته مرحلة جديدة من الجهاد والمواجهة ، كان يعظ الناس، ويروي عن رسول الله(ص) ما سمعه منه في فضائل أهل بيته(ع) ؛ فكان معاوية ينهى الناس عن مجالسة أبي ذر، وكتب إلى عثمان كتاباً يعلمه بما يفعله، ويقوله أبو ذر. وبعد جواب عثمان قام بإخراجه إلى المدينة ، عاد إلى المدينة ومن جديد شهر سيفه وأطلق صوته ضد الظلم ،واجه بعد رجوعه الی المدينة، الخليفة الثالث ولم يقبل دنانيره التي اعتبرها بمثابة رشوة لشراء سكوته . ظل ينتقدالسلطة الحاكمة ، فلم يتحمل الخليفة واتباعه ذلك ، فأبعده إلى الربذة ، وقد نقلت الكتب ما دار بينهما من كلام ونفيه إلى الربذة ،
وروي أن الخليفة نهی عن مشايعة أبي ذر عند الذهاب إلی ربذة ، إلا أن الإمام علي وولديه وآخرين صحبوه ، ولما اعترضهم " مروان بن الحكم " علی ذلك ، لم يعبأ به علي بن ابي طالب، ونحّاه عن طریقه ، وكانت الربذة – المنفى الثاني تقع في جنوب شرقي المدينة المنورة ، وتبعد منها حوالي 200 كيلومتر. يأتي موقعها على حافة جبال الحجاز الغربية على خط عرض، وتمر بجوارها عدة طرق وتنتشر في منطقة الربذة المرتفعات الصخرية التي تتداخل أحيانا مع الجبال المرتفعه ، وتتميز بطون الأودية بتربة ناعمة أو طبقة من الحصى المتناثر على أرضياتها، وتنبت في بطون الأودية النباتات الصالحة للرعي ، لا خلاف بين مصادر التاريخ ، أن جُندب بن جُنادة الغفاري توفي في الربذة سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين للهجرة ، ودفن فيها. «بالربذة مات أبو ذر وحده لما نفي من المدينة ليس معه إلا امرأته وغلام له».
صورة في المصادر
وفي (المصباح المنير) للفيومي – مادة ربذ: « الربذة وزان قصبة خرقة الصائغ يجلو بها الحلي ، وبها سميت الربذة، وهي قرية كانت عامرة في صدر الإسلام ، في كتاب تاج العروس يأتي تعريفها على النحو التالي " قرية كانت عامرة في صدر الإسلام، وهي عن المدينة في جهة الشرق على طريق حاج العراق ، على نحو ثلاثة أيام " مكث فيها بعد حادثة النفي حتى مات ، وفي كتاب معالم التنزيل: " أن أبا ذر لما أخرجه عثمان إلى الربذة فأدركته منيته ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه… ».
وكان انتقال أبي ذر من المدينة المنورة إلى الربذة في أيام حكم عثمان بن عفان وبأمر منه لما كان يؤاخذه عليه من تصرفات في الإدارة والأعمال.
وقد التقاه غير واحد من المسلمين وهو في الربذة ، قال الذي ألتقاه: أتيت أبا ذر فسلمنا عليه ، وهو يقول:" إن كانت بعدي فتنة، وهي كائنة، فعليكم كتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب ، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: علي أول من آمن بي وصدقني وهو أول من يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو الفاروق بعدي يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب الدين " وعن الصحابي أبو الأسود الدؤلي، فقد «روى الواقدي… عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة فجئته فقلت له: ألا تخبرني أخرجت من المدينة طائعاً أم خرجت مكرهاً؟» الربذة محطة من محاط أو مرحلة من مراحل طريق الحاج العراقي المعروف بـ( درب زبيدة ) زوج هارون الرشيد الحاكم العباسي، لأمرها بإنشائه ،وهي ملتقى طريقين، فهذا تقدير طريق العراق في العروض على ما عمله بعض علماء العراق».
الربذة – المنفى الأخير
جاءت تسميتها بالربذة على تعليلات مختلفة، لعل أقربها إلى الواقع ما ذكره ابن الكبي عن الشرقي من أن «الربذة وزرود والشقرة بنات يثرب بن قانية بن مهليل بن ارم بن عبيل بن أرفخشد بن سام بن نوح»، فسميت الربذة باسم أولاهن وسميت قرية زرود باسم الثانية وقرية الشقرة باسم الثالثة ، يقول ياقوت الحموي في (معجم البلدان ) : «قرأت في تاريخ أبي محمد عبيد الله بن عبد المجيد بن سيران الأهوازي ، قال: وفي سنة 319 خربت الربذة باتصال الحروب بين أهلها وبين ضرية، ثم استأمن أهل ضرية إلى القرامطة فاستنجدوهم عليهم ، فارتحل. عن الربذة أهلها، فخربت، وكانت من أحسن منزل في طريق مكة».
اتوقف عند رواية البخاري في صحيحه عن زيد بن وهبٍ ، قال: مررت بالرَّبذة، فإذا أنا بأبي ذرٍّ رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشَّام، فاختلفت أنا ومعاوية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*} [ التوبة: 34]. قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا، وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ النَّاس حتَّى كأنَّهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريباً. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشيّاً؛ لسمعت، وأطعت ...
الموت والبقاء الأبدي
توفي أبو ذر في ذي الحجة سنة 32 هـ في خلافة عثمان في الربذة ، ويروى أنّ رسول الله(ص) قال له: يا أبا ذر تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتدخل الجنة وحدك ، وقد قام بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه عبد الله بن مسعود وجماعة معه كانوا في طريقهم من المدينة إلى الكوفة ، وروي أن زوجته أم ذر كانت تبكي عندما حضرته الوفاة، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، وليس عندي ثوب يسعك كفناً لي ولا لك، ولا بد لي من القيام بجهازك! قال: فابشري، ولاتبكي فإني سمعت رسول الله(ص) يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين. وليس من أولئك النفر أحد، إلا وقد مات في قرية وجماعة، ولم يبق غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت؛ فأنا ذلك الرجل، فو الله ما كذبت ولا كذّبت ، في رواية مهران بن ميمون قال: ما أراه كان في بيته يسوى درهمين ، ويذكر ابن كثير: إنّه لم يكن معه عند الموت سوى زوجته وولده ، ويقول الزركلي: لما مات لم يكن في داره ما يكفن به ، وأقام أبو ذرٍّ في الرَّبذة، فلمَّا حضرته الوفاة أوصى امرأته، وغلامه: إذا متُّ؛ فاغسلاني وكفِّناني، ثمَّ احملاني فضعاني على قارعة الطَّريق، فأوَّل ركبٍ يمرُّون بكم، فقولوا: هذا أبو ذرٍّ. فلمَّا مات؛ فعلوا به كذلك، فطلع ركبٌ فما علموا به حتَّى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعودٍ في رهطٍ من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذرٍّ، فاستهلَّ ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يرحم الله أبا ذرٍّ! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده». فغسَّلوه وكفَّنوه وصلَّوا عليه، ودفنوه، فلمَّا أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم ابنته: إنَّ أبا ذر يقرأ عليكم السَّلام، وأقسم ألا تركبوا حتى تأكلوا، ففعلوا، وحملوهم حتَّى أقدموهم إلى مكَّة، ونعوه إلى عثمان رضي الله عنه، فضم ابنته إلى عياله. وجاء في روايةٍ.. فلمَّا دفنَّاه؛ دعتنا إلى الطَّعام، وأردنا احتمالها، فقال ابن مسعود: أمير المؤمنين قريبٌ، نستأمره، فقدمنا مكَّة ، فأخبرناه الخبر، فقال: يرحم الله أبا ذر! ويغفر له نزوله الرَّبَذَة ، ولمَّا صدر؛ خرج، فأخذ طريق الرَّبَذة، فضمَّ عياله إلى عياله ، وتوجَّه نحو المدينة، وتوجَّهنا نحو العراق ، كلمة علي بن أبي طالب عليه السلام في وداع أبي ذر رضوان الله تعالى عليه ، ورد في نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يلي: "يا أبا ذر، إنك غضبت لله فارجُ من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عما منعوك، وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسَّداً ، ولو أن السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا، ولا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لأمنوك ...
( يتبع )