(الحلقة الثامنة)
د. شاكر الحاج مخلف*
الولاية للمؤمنين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا بعد نبيهم صلى الله عليه وآله واجبة والغفاري وجمع كبير يتمثل فيه ذلك ، من صفاته الأمانة والصدق والوفاء بالعهد ، تروي قصص العرب - أتى أبا ذر رجلٌ فبشَّره بغنم له قد ولدت، فقال: يا أبا ذر أبشر، فقد ولدت غنمك وكثرت، فقال:ما يسرُّني كثرتها وما أحبُّ ذلك فما قلَّ وكفى أحبُّ إليَّ مما كثر وألهى، إني سمعت رسول الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يقول: على حافتَي الصراط يوم القيامة الرحم والأمانة، فإذا مرَّ عليه الموصل للرحم والمؤدِّي للأمانة لم يتكفأ به في النار ، ويروى عنه أيضا ، جاء رجل إلى أبي ذر فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم الدنيا، وأخربتم الآخرة، فتكرهون أنَّ تنقلوا من عمران إلى خراب ، فقال له: فكيف ترى قدومنا على الله؟ فقال: أما المحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء منكم فكالآبق يردُّ إلى مولاه، قال: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم على الكتاب، إنَّ الله يقول: (إِنَّ الأَبْرَاْرَ لَفِيْ نَعِيْمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّاْرَ لَفِيْ جَحِيْمٍ). فقال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: (رَحْمَةُ اللهِ قَرِيْبٌ مِنَ الْمُحْسِنِيْنَ) ، كتب رجلٌ إلى أبي ذر (رضي الله عنه): يا أبا ذر أطرفني بشيء من العلم ، فكتب إليه: إنَّ العلم كثير، ولكن إن قدرت على أنْ لا تسيء إلى من تحبه فافعل، فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يحبه؟ فقال: نعم، نفسك أحبُّ الأنفس إليك فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها ، من مواقفه المبدئية المعارضة للظلم رفض كل الأموال التي بذلت له في سبيل تغيير رأيه أو كتم أفكاره المعارضة للسلطة ، وقد اعترض على سيرة الحكام في بيت المال، فقام الخليفة بنفيه إلى الشام ، فشل معاوية بتطويق أمره وثنيه عن سلوكه المعارض الصارخ بصوت الحق ...
الصوت الاشتراكي
بسبب موقفه الصحيح من بيت المال والغنى الفاحش ، ينظر بعض المؤرخين إليه على انه من رموز الاشتراكية في الإسلام ، والحقيقة أن أبا ذر مصلح اجتماعي أراد محاربة السلطة بالطرق السلمية من خلال شرح موقفه المستند إلى القرآن والسنة النبوية. لهذا كان يدعو إلى التقشف وعدم التبذير. وهذا الأمر لم يرق لحكام تلك المرحلة أو الذين جاءوا من بعدهم حيث اندفع الحكام نحو الفساد والظلم وتبذير ثروة الأمة ، دعوته استندت على المتن في آيات الله ، يعتقد انه لا يجوز لمسلم بان يكون له في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، مستنداً على الآية الكريمة "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم" ، صعد المنبر في الشام وخطب وقال : "يا معشر الأغنياء والفقراء.. بشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم " حاول بنو أمية إتّباع أسلوب التهديد والوعيد والفقر والجوع والقتل.. أثرإطلاقه تلك الدعوة أزداد ضغطهم ضده ، وكان ردّ أبي ذرّ: "إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحبّ إليّ من ظهرها والفقر أحبّ إليّ من الغنى" ، حاول بنو أمية نبذ أبي ذر اجتماعياً وإبعاد الناس عنه (كما فعلوا مع عليّ بن أبي طالب ، لهذا منعوا الناس من الاقتراب إليه، ووصل الأمر أن الناس كانوا يفرّون منه عندما يقبل!، حاولوا معه بطرق شتى حتى يتم إفشال مشروعه الإنساني الاشتراكي من تلك المحاولات إعطائه الأموال بغير حق وذلك كي يتم فضحه أمام الملأ ، وعندما رفض استلام المال المغموس بالخديعة والفساد تم قطع عطاءه وذلك من أجل الضغط الاقتصادي عليه ،أخيرا أضطروا إلى قرار النفي ، ظل رغم تلك الضغوط المهينة وحالة الاحتراب المتواصلة رمزا للصحابي المثالي الذي يتمسّك بدين الله ورسوله ولا يحيد عنه قيد أنملة ، رغم كل الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والنفي والمقاطعة ، حارب الفساد بغير السيف.. لأنه لم يرغب بإراقة دم المسلم .. ولم يكن رجل حرب..ظل وعاظ السلاطين يتجاهلوا قضيته الإنسانية وثورته الاجتماعية والتي تعتبر من الثورات الأولى في صدر الإسلام ، كانت أفكار أبي ذر إسلامية خالصة، وكان القرآن مرجعه الأول يضاف إليه الأحاديث النبوية الشريفة التي سمعها وحفظها عن ظهر قلب من الرسول مباشرة ..
الصوت والفعل القوي
صعد المنبر أما جمع من المسلمين وقال " أتقوا الله تقية ذي لب شغل التفكر قلبه ، أتقوه تقية من سمع فخشع ،وأقترف فأعترف ، ووجل فعمل ، ورجع فتاب واقتدى فأحتذى ، أيها الناس ، الزهادة قصر الأمل ، والشرك عند النعم ، والورع عن المحارم ، اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل ، طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن شعارا ، والدعاء دثارا ، ، ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهج المسيح عليه السلام ، رب عالم قتله جهله وعلمه لم ينفعه ، من أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها ، وهما بمنزلة المشرق والمغرب ، وما بينهما ، كلما قرب من واحد بعد عن الآخر ، هما ضرتان ، أن تقوى الله مفتاح سداد وذخيرة معاد ، الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون علي بن أبي طالب القدوة وباب العلم
اقترب كثيرا من يعسوب الدين وحفظ عنه الفعل الذي بنى في عقله الموقف الإنساني الاشتراكي ، تأمل كثيرا قول إمام المتقين " لو كان الفقر رجلا لقتلته " ظل يفكر في تلك الطبقة المحرومة كثيرا ، قال " ما سمعت من علي ابن أبي طالب شيئا فنسيته " وكان يردد دعائه المشهورالذي سمعه من الرسول " اللهم أجعل لي عندك عهدا وأجعل لي في صدور المؤمنين مودة " يصف أبا الحسنين " بخير البرية " استنادا إلى ما ورد في القرآن الكريم " ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك خير البرية " تذكر جميع المصادر التي طالعتها ان إمام المتقين قرب أبا ذر وعامله إلى آخر يوم في حياته كواحد عزيز عليه من أهل البيت ، وذكرت بعض المصادر – أنه قال ياغفاري الدنيا مثل الحية ، لين ملمسها، قاتل سمها ، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها ، وضع عنك همومها ، لما أيقنت به من فراقها وتصرف حالاتها ، وكن أنس ما تكون بها أحذر ما تكون منها فأن صاحبها كلما أطمآن فيها إلى سرور ، اشخصته عنه إلى محذور ،أو إلى إيناس أزالته إلى إيحاش ...
الغفاري والردة
بعد وفاة النبي الأكرم زلزلت أرض الجزيرة العربية زلزالا شديدا على أثر ذلك أرتد عن الأسلام أقوام كلت بصائرهم ومرضت أهوائهم وقامت قبائل أخرى ترفض إيتاء الزكاة وتعترف ببقية أركان ال‘سلام ، قام رجال ونساءيدعون النبوة نشروا كلاما مسجوعا واشارواإلى ان تلك الرقع من الجلود تحتوي كتبا تشبه قرآن محمد ، على أثر ذلك تصدعت الآلفة وتفرق شمل القبائل وتدهور نظام الحياة في المدن خاصة في المدينة التي احتضنت ظهور الإسلام ، اضطرب نسيج الحياة ولف البيوت ذهول كبير ـ تفرقوا وتمزقوا إلى فرق صغيرة متناحرة ، كان الخليفة آنذاك " ابوبكر الصديق " رض " الذي حاصرت فترة ولايته تلك الأزمة الكبيرة ،جمع الرجال من حوله واتخذ القرار الذي لابد منه القاضي بمحاربة رموز الردة والفتنة ، كانت خطوته الأولى خطبته التي ترافقت مع بداية الردة ، قال " من كان يعبد محمدا فإان محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " وأضاف " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عاقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين ، ورغم ان الغفاري لم يكن من الذين بايعوا ابوبكر على مضض إلا أنه أنتظم مع الذين تصدوا لتلك الردة وساهم في دفنها والتي انتهت بهزيمة مسيلمة الكذاب وسجاح وغيرهم ...
صاحب الموقف المبدئي
أحد الثلاثة الذين لم يتأثروا بالأحداث التي حصلت بعد الرسول «صلى الله عليه وآله»، وظلوا على الولاء التام لأهل البيت «عليهم السلام» ثم لحقهم الناس بعد.
ـ بايع النبي «صلى الله عليه وآله» على أنه لا تأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق وإن كان مراً.
ـ وهو أحد من امتنع عن بيعة أبي بكر، حتى جاؤوا بأمير المؤمنين «عليه السلام» كرهاً فبايع.
ـ وهو أحد الذين صلوا على فاطمة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليها»..
ـ وهو الذي لم يمتنع عن الحديث عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» رغم منع السلطات، ولم يكترث بتهديداتهم، وقال: «والله لو وضعتم الصمصامة على هذا (وأشار إلى فمه) على أن أترك كلمة سمعتها من الرسول «صلى الله عليه وآله» لأنفذتها قبل أن يكون ذلك».
ـ وهو الذي بُذلت له الأموال ليتنازل عن موقفه وجهره بالحق، فأبى وتعرض لمختلف أنواع البلاء والنكال.
ـ عرف وأدرك دور الأحبار واليهود في السياسة وتأثيرهم في المسلمين، فجهر بحقيقة ما أدركه، فتعرض لغضب الحكام ولتنكيلهم به.
ـ بسبب إصراره على أن يحدث بما سمعه عن النبي «صلى الله عليه وآله»، وأيضاً بسبب موقفه من تدخلات اليهود وأحبارهم في شؤون المسلمين وقراراتهم، وأيضاً بسبب اعتراضه على سيرة الحكام في بيت مال المسلمين، وكذلك من أجل نشره لفضائل أمير المؤمنين «عليه السلام»، ووصي رسول رب العالمين واستخلاف النبي «صلى الله عليه وآله» إياه ـ من أجل ذلك.. نفاه القوم عن حرم الله، وحرم رسوله (فقتلوه فقراً وجوعاً، وذلاً، وضراً وصبراً) على حد تعبير الرواية.. وكان ما فعله عثمان بأبي ذر من جملة ما نقمه الناس على عثمان، ومن أسباب ثورة الناس ضده،أخبر الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» أبا ذر بما يجري عليه، وأمره بالصبر حتى يلقى الله تعالى، وعدم حمل السلاح ضدهم.. فامتثل «رحمه الله» أمر الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»، وصبر على المحن والبلايا التي واجهها، حتى لقي ربه..تروي قصص العرب ان معاوية أرسل إليه بألف دينار في جنح الليل، فأنفقها، فلما جاء الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه، فقال: إذهب إلى أبي ذر فقل له: انقذ جسدي من عذاب معاوية، فإنه أرسلني إلى غيرك، وإني أخطأت بك، ففعل ذلك ، فقال له أبو ذر: يا بني، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها ، لم يكن يؤمن بوجوب إنفاق كل ما زاد على النفقة، ولا كان ينكر على الهيئة الحاكمة تملك الأموال.. ولا كان يدعو إلى التزمت وترك الدنيا، والإعراض عنها بحيث يضر بالعيش، وعمران الحياة.. ولا كان يدعو إلى الانفاق الواجب الزائد على الزكاة، مما لابد منه في السبيل الواجب ، وإنما هو يقول بجواز ملكية كل ما يأتي بالطرق المشروعة، بعد إخراج حقوق الله منه، من الزكاة والخمس، وما إلى ذلك، ولا يجب إنفاقه. ولكنه ينكر على الحكام، والولاة، وعلى معاوية والأمويين استئثارهم ببيت مال المسلمين، وانفاقه على شهواتهم، ومآربهم، ولذائذهم الشخصية، وحرمان الآخرين منه.
وما جرى بين أبي ذر وبين كعب الأحبار لم يكن هو لب المشكلة وأساسها، كان مفردة عابرة استفاد منها الخليفة لقدح زناد التنكيل بأبي ذر، ومباشرة نفيه إلى الربذة، ليموت هناك جوعاً وضراً.. إن ما أنكره أبو ذر هو الذي حذره منه رسول الله أصحابه وأمته من أن الفئة الحاكمة سيتخذون بمال الله دولاً وعباده خولا ودينه دخلا. عمر بن الخطاب حذر عثمان من هذه الأمور وهذه الطريقة في الحكم والإدارة والتصرف، وأكد له أن المسلمين وعلى رأسهم الصحابة سيثورون عليه ، إن فعل ذلك. وحذر منه أيضاً علي وعمار، وأبو ذر، وغيرهم كسعد وعبد الرحمان. وكل هذه الإعتراضات والإحتجاجات إنما هي على الإستئثار بالأموال العامة، أعني أموال المسلمين لا الأموال الخاصة التي جمعت من طرق مشروعة فإنه لم يناقش احد، لا أبو ذر ولا غيره في المقدار المسموح منها وغير المسموح ولا تجد لذلك أثراً أبداً.أبا ذر يأمر عثمان باتباع سنة أبي بكر وعمر في الأموال.
قال عثمان : كذبت، ولكنك تريد الفتنة، وتحبها، وقد انغلت الشام علينا.
فقال أبو ذر : اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام ولما فعل عثمان أبي ذر ما فعل، قال علي «عليه السلام» لعبد الرحمن بن عوف: هذا عملك. في إشارة منه إلى دور ابن عوف في الشورى و تكريس الأمر لصالح عثمان.
فقال عبد الرحمن: إذا شئت فخذ سيفك، وآخذ سيفي؛ إنه قد خالف ما أعطاني أي خالف ما أخذه عليه في قضية الشورى، من العمل بالكتاب والسنة، وسنة أبي بكر وعمر..
شاع في المدينة أن علي بن أبي طالب غاب عن الجميع وأنشغل بتجهيز دفن الرسول "ص " ودموعه تفيض على وجهه في صمت وهو يتمتم طبت حيا وطبت ميتا ، لولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع ، بأبي أنت وأمي ، ان الصبر لجميل إلا عنك وان الجزع لقبيح إلا عليك ...
في تلك الفاصلة من الزمن بدأت قصة الخلاف الكبير ....
( يتبع )