(الحلقة العاشرة)
د. شاكر الحاج مخلف*
استقبله " علي "بدرقته فضربه بالدرقة فشقها وأثبت فيها السيف ، وأصاب رأس علي فشجه شجا يسيرا، وبادر علي وضربه على حبل العاتق فسقط عمرو وثار العجاج وبانت سوءة عمرو وسمع النبي وأباذر وبقية المسلمين التكبير وعرف الجميع ان عليا قتل عمربن ود ، وأقبل علي على الرسول فعانقه ثم عانق أبا ذر الذي هتف لا فتى إلا علي ،كانت تلك غزوة الخندق ويتكرر الحدث البطولي للملهم الذي يشعر أباذر نحوه بالقائد وينبوع العلم والاشتراكية ..
يوم خيبر
وعن غزوة " خيبر " يروي " أبو رافع – مولى الرسول " فيروي الحكاية المذهلة للعقول والعيون ، قال " خرجنا مع علي ابن أبي طالب حين بعثه الرسول حاملا رايته ومعنا أبا ذر في مقدمة الجند ، فلما دنا من الحصن الحصين خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علي " ع " بابا كان عند الحصن ، فترس به نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه ، وكان علبى رأس هذا الحصن أحد شجعان اليهود واسمه" مرحب " وهو الذي طرح الترس من يد علي وأنقض عليه وبارزه متحصنا بباب الحصن الثقيل ، طالت فترة المبارزة ، حتى أهوى علي " ع " بسيفه على وجه مرحب وسقط الحصن واستأذن من فيه وغنم منه المسلمون مغانم كثيرة من أجل ذلك تكرر الهتاف عاليا " لا فتى إلا علي " ...
الزاهد الكبير
كان الغفاري يتصدق بكل ما يصل إليه ولا يبقي في داره إلا مايكفي من الطعام والكساء ، الطعام الذي يقيم الأود ، والكساء الذي يكسي الجسد من ذاك الخشن الذي لا زخرف فيه ولا أبهة اتخذ قراره اخشوشن في حياته في سبيل الله ...
تعود الغفاري أن يأخذبيد الملهوف والمحتاج وابن السبيل ذاك التقليد الذي تعلمه من إمام المتقين" أحسن كما تحب أن يحسن إليك ، ومن ظن بك خيرا فصدق ظنه " من أفعاله إغاثة الملهوف والرفق بالضعيف والنجدة والعطف على المستعطف ثم الاكتفاء بما يسد الحاجة مهما تقبل الدنيا ، كل تلك الصفات كانت تنبع من شخصيته وأخلاقه ، كان يعيد الكثير من أقوال إمام المتقين على مسامع جموع المسلمين ، يقول لمن حوله " أعينوا الضعيف وأنصروا المظلوم وتعاونوا على البر والتقوى " ويردد في كل موقف يرى فيه سيف الظلم صار أقوى " البغي والزور يزريان بالمرء والفقر منقصة للدين داعية للمقت " كما يردد في المسجد والدروب والأسواق " من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب ...
أخلاق النبي وآل بيته
" كانت أغلب مواقفه تنبع من تلك الأخلاق والإيمان الواثق قد تورده موارد الحتوف والبغض ، في مواطن كثيرة مما يستقبله من الحوادث الجسيمة وتحدي الرجال ، كان رسول الله يعطف على أبا ذر الغفاري ، قال ذات مرة وهو يصف إمام المتقين الذي شغل عقله " له ما شئت من ضرس قاطع في العلم وكان له البسطة في العشيرة والقدم في الإسلام والصهر لرسول الله والفقه في المسألة والنجدة في الحرب والجود في الماعون " ...
لقد تعلم من قدوته الأول النبي الكريم ومن ابن عمه – علي بن أبي طالب – ان الإيمان فيه العبادات المفروضة ، وأما العمل الصالح فهو ما ينهض بإدائه وإتقانه كل إنسان في أية جماعة إنسانية من أعمال مشروعة تكفل له معاشه وتحقق المصلحة للأمة جميعا ...
العمل والعبادة
تيقن الغفاري ان من يسعى في طلب الرزق خير ممن ينقطع للعبادة ، ان طلب العلم فريضة وأن العمل شرف وإتقانه واجب شرعي ، ان الجهاد في سبيل الله والعمل لتعمير الأرض وتوفير الطعام لكل فم واسعاد الناس والجهد في تحقيق رقي الأمة ، تلك الأهداف من أهم ما يتقرب به العبد المؤمن إلى رب العباد ، وهي الأفعال التي أوصى بها الله والرسول ، كان الغفاري يدرك ان العبادة ليست مظهرا إنما هي ما يضيء به القلب ويخشع ، كان يقول لجموع المسلمين " ليست الصلاة قيامك وقعودك إنما الصلاة إخلاصك لله ولتحقيق الحق ومواجهة الظلم وصنع المساواة " ،ظهر عدد غير محدود من الصحابة يتبنى ما يشبه أفكار الغفاري بل كانوا أكثر تطرفا في الدعوة إلى الأشتراكية والعدل والمساواة أقرنوا القول بالفعل وفسروا آيات الله كما فسرها الغفاري لم يعارضهم أحد ولم يطالهم العداء والبغض والمطاردة والنفي....
مطاردة ورشوة مستمرة
حاول الحاكم في دمشق امتصاص دعوة الغفاري تارة بالإقناع وتارة بالتهديد والمطالبة بالكف عن نشر أفكاره ومطالبتهم الحاكم بالعدل والمساواة وتوزيع الثروة على الفقراء والمحرومين ، تكررت حالات ارسل فيها حاكم الشام وفودا لإقناعه بالعدول عن دعوته التي اعتقد فيها انه يحرض الناس للعصيان والثورة ، النتيجة كانت عدم تراجع الغفاري عن أفكاره ومواقفه المعلنة وإزدياد حالات المجاهرة في المساجد والأسواق والدروب ، كان يغلظ في القول لحاكم الشام " معاوية " الذي شكاه لعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة السابقون للإسلام قال معاوية لكل فرد كلفه بتلك المهمة " إنكم قد صحبتم كما صحب، ورأيتم كما رأى، فإن رأيتم أن تكلموه، ثم أرسل إلى أبي ذر فجاء؛ فكلموه " لم تفلح معه تلك الأساليب على أثر ذلك تم معه اتباع أسلوب المقاطعة والهجران والتجاهل إضافة إلى أسلوب التهديد والوعيد: بالفقر، والجوع، والقتل؛ فقد روى سفيان بن عيينة، من طريق أبي ذر، قال: " إن بني أمية تهددني بالفقر، والقتل، ولَبطن الأرض أحب إلي من ظهرها، ولَلْفقر أحب إلي من الغنى " في المسجد قال له رجل
-: يا أبا ذر، ما لك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟!
قال: إني أنهاهم عن الكنوز ...
في مواجهة الفعل السلطوي الغاشم
لكن الحقيقة ذاك فعل سلطوي قيامهم عنه إنما هو لنهي عثمان الناس عن مجالسته ، وكان القرار الذي أنتظر التنفيذ هو اتفاق "بنو أمية " على خطة بطيئة ترتكز على تهديده بالقتل والموت والجوع وفي أحسن الحالات طرده من الشام وقبر الفتنة التي اثارها في المدينة والشام ، كانوا خصومه الأشداء وبموافقة الخليفة الثالث هو لم يرتكب أي ذنب سوى المناداة بالمساواة بين المسلمين وقتل حالة الفقر والعوز ،ان حكام الشام آنذاك وبطانتهم اتهمهم التاريخ بتبذيرأموال الدولة في مشاريع ونتائج لا تخص الشريعة ولا تمثل جوهر الإسلام ، كانوا أولياء على المال العام للدولة يتقاسموه فيما بينهم دون عدل ، وقد وصفهم " يزيد بن قيس الأرحبي بقوله " يحدث، أحدهم في مجلسه بذيت وذيت، ويأخذ مال الله، ويقول: لا إثم علي فيه، كأنما أعطي تراثه من أبيه، كيف؟! إنما هو مال الله أفاءه الله علينا بأسيافنا وأرماحنا» استخدم الحاكم واتباعه كل الأفكار المتاحة لجعل الغفاري يتراجع عن موقفه ومناداته بتحقيق الكفاية والعدل واتاحة العيش الكريم للفقراء والمستضعفين ، لهذا تفتقت عقولهم عن قرار النبذ للغفاري وعزله اجتماعيا ووضع الحواجز أمامه وعدم تمكينه من الاتصال بالناس أو منعهم من الاقتراب منه ، يروي الأحنف بن قيس موقفا حصل للغفاري قال "
«كنت بالمدينة؛ فإذا أنا برجل يفر الناس منه حين يرونه.
قال: قلت: من أنت؟!
فأجاب .. استغربت من فعل الناس الذين يخافوا الوشاية بهم عند الخليفة الثالث ،ثم تعرض أبو ذر للنفي إلى الشام كأسلوب من أساليب الضغط عليه، علّه يستسلم، أو يمل، ولكن فألهم خاب، فقد زاده ذلك صلابة في دينه، وإيماناً بحقّية موقفه.. ثم جاءت محاولة استدراجه، ليقبل بعض المال، وليتسنى لهم التشهير به أمام الملاء، على اعتبار: أنه رجل لا ينسجم قوله مع فعله ، أن هذه السياسة بدأت قبل استفحال الأمر بينه وبين معاوية والهيئة الحاكمة، وقبل قطعهم عطاءه. قال ثلاثة من أبرز الذين دونوا تفاصيل تلك الحقبة وهم " ابن كثير، وابن الأثير، وأبو الهلال العسكري «وقد اختبره معاوية وهو عنده في الشام ، هل يوافق عمله قوله؛ فبعث إليه في جنح الليل بألف دينار، ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها، فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت، فهات الذهب، فقال: ويحك، إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به " وأضاف ابن الأثير، وأبو هلال العسكري، قولهما : فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله: كتب إلى عثمان : إن أبا ذر قد ضيق علي وصار يحرض أهل الشام ضد الخلافة " وعثمان نفسه، قد أرسل إلى أبي ذر «بصرة فيها نفقة على يد عبد له، وقال: إن قبلها فأنت حر. فأتاه بها، فلم يقبلها،
فقال العبد : اقبلها يرحمك الله؛ فإن فيها عتقي.
قال الغفاري : إن كان فيها عتقك، ففيها عبوديتي . وأبى أن يقبلها» ...
الفرار إلى الله
بعد عدة مواجهات أتخذ حكام الشام قرار قطع عطاء أبي ذر في محاولة منهم للضغط الإقتصادي عليه، علّه يستسلم ويلين. فلم تنجح المحاولة ولم يستسلم، بل صعَّد حملته ضد جشعهم واستئثارهم ؛ فكان لهم معه أسلوب آخرحيث عاودوا إغراءه بالمال، بعد أن ذاق مس الحاجة والجوع ، قال البلاذري، والمعتزلي: «وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار، فقال: إن كانت هذه من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها» فلما لم يفلح معاوية قام أحد أعوانه بمحاولة مماثلة، فأرسل إليه حبيب بن مسلمة بثلاثماءة دينار فرفضها أيضاً ، كما أنه لما صار أبو ذر الربذة «ذهب إليه حبيب بن مسلمة، وحاول أن يعطيه مالاً، فرفض أيضاً» ، وقيل له: ألا تتخذ ضيعة، كما اتخذ فلان وفلان؟! ، فقال: وما أصنع بأن أكون من الذين يغتصبون حقوق الناس ويستعبدونهم جورا ، وحبيب هذا هو الذي نبه معاوية إلى الخطر المحدق به من قبل أبي ذر، وأنه إن بقي في الشام أفسدها عليهم ، وعدا ذلك.. فإن معاوية وحبيب بن مسلمة ربما كانا يهدفان، من وراء هذه العطايا إلى أنه لا يخلو الأمر: أما أن يسكت أبو ذر، فهو المطلوب، وأما أن لا يسكت فيصير لهما ذريعة قوية للتشهير به، حتى لا يبقى لكلامه قيمة، ولا لمواقفهم الحادة منه أثر سلبي عليهم ، ولكن أبا ذر رفض كل ذلك.. وكيف لا يرفض، وهو الذي عندما سأله الأحنف عن هذا العطاء أجابه بقوله: خذه فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمناً لدينك فدعه " بل إن عثمان نفسه. بعد أن فعل بأبي ذر ما فعل ، كرر نفس المحاولة ، من أجل نفس ذلك الهدف.. فأرسل إلى أبي ذر مائتي دينار مع موليين له، فقال أبو ذر: «هل أعطى أحداً من المسلمين مثل ما أعطاني»؟! قالا: لا..فردّها، وقال لهما: أعلماه: إني لا حاجة لي فيها، ولا فيما عنده، حتى ألقى الله ربي، فيكون هو الحاكم فيما بيني وبينه.. ثم كانت إعادة أبي ذر من الشام إلى المدينة على أخشن مركب، وقد تسلخ لحم فخذيه ، وتلك حالة إنتقام اقترب من إلحاق الضرر به جسديا ونفسيا ، ولم يتوقف الأمر عند ذاك في المدينة التي وصل إليها حيث اتخذ الخليفة الثالث قراره وهو حظر على الناس: أن يقاعدوا أبا ذر ، أو يكلموه ، وهذا أسلوب آخر للضغط على الغفاري ، انتهى بالفشل الذريع أيضاً ، صعدوا ضده أساليب تتضمن التكذيب، والإهانة، والتحقير والإذلال وأخيرا القرار السيء النفي إلى الربذة، ذلك المكان الصعب، الذي كان يكرهه أبو ذر ،
موقف أبي ذر
_________
عمل أبو ذر بتنفيذ وصية النبي «صلى الله عليه وآله» له بان يصبر حتى يلقاه، فصبر على الشدائد، وكافح الصعوبات، وتحمل كل تلك الإهانات القاسية، ولم يتنازل عن مبدئه، ولم يساوم على دينه ولم يتزحزح قيد شعرة ، ولكنه لم يلجأ إلى حمل السيف والقتال؛ لأن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» قال: إن الصبر حتى يلقاه خير من ذلك.. لأنه «صلى الله عليه وآله» يعرف أن قتله لا يجدي، بل قد يفجر الأمور بنحو يوقع الناس في محنة أشد، وبلاء أعظم ، فالنبي «صلى الله عليه وآله» يؤيد موقف أبي ذر من الحكام، ولا يمانع أن يعلن رأيه في مخالفاتهم تلك.. ولكنه يرشد أبا ذر إلى أن هذا الإعلان يجب أن لا يتطور إلى القتال؛ لأن ذلك ربما يضر بهدف أبي ذر الأسمى، ومبدئه الأعلى.. أو على الأقل لن يكون له نفع يذكر فيه، الدين وأهله ، تحمل أبو ذر مشاق النفي إلى الربذة أبغض الأمكنة إليه ، وأشدها صعوبة عليه.. ولكنهم لم يتركوه، بل لحقوه إلا هناك، كما ظهر من فعل حبيب بن مسلمة، ومحاولة إغرائه بالمال ؛ ليتراجع عن أفكاره ، فآثر الجوع على المال ، لأنه لا يريد أن يصبح عبدا لغير الله ، حين نفوا أبا ذر إلى الربذة «أخرج معاوية إليه أهله؛ فخرجوا، ومعهم جراب مثقل يد الرجل، فقال :
- انظروا إلى هذا الذي يزهّد في الدنيا ما عنده!
فقالت امرأته:
- والله، ما هو دينار ولا درهم، ولكنها فلوس، كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوساً لحوائجنا..»
الظلم الذي تعرض له الغفاري ومحاولة قتل فكرته الاشتراكية وعدم تنفيذ مبدأ المساواة والعدل وتوزيع الثروة بشكل عادل وإنقاذ الفقراء من غائلة الجوع والعوز ، جعلت الدائرة تدور على رموز البغي وصارت الكلمة الشريفة أقوى من السيف ، وهاهو الخليفة الثالث وبنو أمية تحاصرهم الجموع الغاضبة في أول ثورة حصلت في تاريخ الإسلام ، دق الغفاري الناقوس ....!
( يتبع )