(الحلقة الحادية عشرة)
د. شاكر الحاج مخلف*
النصيحة
قبل ان ينتقل لملاقاة ربه قال الخليفة عمر بن الخطاب " رض " لعثمان بن عفان : " ياعثمان لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول الله وسنك وشرفك وسابقتك فيستخلفونك ، فإن وليت هذا الأمر فلا تحمل أحدا من بني أمية على رقاب الناس " وهكذا أوصى عمر بالشورى وانتقلت الخلافة إلى عثمان بن عفان ، وعندما ظفر بنو أمية بالخلافة وتفاخروا على الناس ، قال علي بن أبي طالب " أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة " لم يجف بعد تراب قبر الخليفة حتى اتخذ عثمان بن عفان خطوات ألحقت الضرر بالخلافة وأوصلته إلى مصيره المحتوم المحزون ، الأمر الذي دفع الكثير من المسلمين يتناولون بداية فترة حكمه بالملامة والنقد وعدم الرضا ، بل وصل الحد لدى أغلبهم اعراضهم عنه ونقد سيرته واعتبار وصوله إلى الخلافة بمثابة خطأ قاتل ، في كل مرة يتنادى المسلمين لدار علي بالشكوى من أفعال الخليفة لا يجد لديه وسيلة سوى الدفاع عن الخليفة وطلب الصبر على خطواته في الحكم والقيادة ، كان يذكرهم بمناقبه وسلوكه وكرمه من أجل الإسلام وأنه صهر النبي الكريم " ذو النورين " وبالمقابل كان يقابل الخليفة ويقدم له النصح والمشورة ويدعوه إلى الأخذ برأي الجماعة وهي الممارسة التي أوصلته إلى الحكم ...
" بنو أمية – والحكم "
لكن عثمان يطلق في وجه علي ما وصله من ردة مبطنة وغير معلنة ، حيث أهل الأمصار اختلفوا في قراءة القرآن وأيضا في تحديد الباطل من الحق في قضايا حياتهم وتعاملاتهم ، لهذا قرر جمع الصحابة وطلب مم تتوفر لديه نسخ من صحائف القرآن ارسالها له ، كما طلب الصحف التي جمعها في فترة حكم الخليفة الأول كل من " علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة " التي تم ايداعها فيما بعد لدى الخليفة عمر بن الخطاب ، جمع الصحابة الأوائل في الإسلام وطلب منهم نسخ تلك الصحائف وكتبت بلغة قريش وعندما صارت هناك نسخة مكتملة أمر بحرق ما عداها ، وتلك الخطوة على أهمية مقصدها ظهر بين المسلمين من ينتقص منها وعندما وصل القول لعلي بن أبي طالب زجر القائل وأثنى على فعل الخليفة عثمان وقال " لفو وليت منه ما وليه عثمان ما سلكت إلا سبيله " ، لكن كلامه لا يقلل من ضخامة التهم التي سجلت ضد أفعاله ، يرى البعض أنه أخطأ حيث أختلف معه كبار الصحابة من الذين عاصروا فترة وجود النبي محمد "ص " وتعلموا منه القول والقيادة ، عدد علي بن أبي طالب مناقب عثمان بن عفان امام من ألصق به التهم ، فقال : " عثمان الذي أسماه الملأ الأعلى ذو النورين ، وهو الذي جهز جيش العسرة من اصل ماله ، وهو الذي أشترى بئر رومة لما وجد صاحبها اليهودي يرفع سعر الماء وصار أهل المدينة يشربون الماء بدون ثمن ، وهو الذي وزع قافلته وماتحمله من طعام وكساء على أهل المدينة متصدقا ، وفي عام المجاعة بذل كل ما يملك من مال ،هو الذي وسع الحرم النبوي من ماله الخالص ، وهو الذي حرر مئات العبيد ، وهو القانت الساجد القائم يكاد ان يكون صائم الدهر ، يطعم المسلمين وغيرهم اللحم والسمن والعسل ، ويكتفي لنفسه بأكل خبز الشعير الحاف مغموسا بالزيت " ...
نفذ حكم الله
أتفق الناس مع علي بن أبي طالب على تلك المناقب التي عرف بها عثمان بن عفان ، لكن السؤال الأكبر ماذا حصل له وتغير هكذا ..؟، كان علي ومعه الصحابة ينظرون إلى تفاصيل ما يحص بشكل فاجع ، السؤال يستمر والجواب مفقود ، لقد قال فيه الرسول الأكرم قولته " ان نور عثمان يضيء لأهل السماء كما تضيء الشمس لأهل الأرض " وقال جمع من العلماء من الذين تصدوا لتفسير الذكر الحكيم ان سورة الزمر حملت إشارة تخص عثمان " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " وترد في بعض المصادر رواية عن النبي الكريم حيث قال " لكل نبي رفيق ، ورفيقي إلى الجنة عثمان بن عفان " كان شجاعا وقنوتا لم يدخر قوة أومال في سبيل الله ، أنه أول من مضى بأهله وفر بصحائف دينه مهاجرا إلى الله حيث الحبشة ، لكنه في فترة الاعتراض على حكمه وفراراته خفض من علو اكتافه للطامعين واختط نهجا رفع ضده شكوى الناس وضاعف غضبهم ضده ...
ولاة الأمصار
من خطواته في الحكم غير الصحيحة انه اتخذ القرار بعزل كبار الصحابة أهل التقوى والقدوة الحسنة والقدرة على خدمة الناس ومسيرة الإسلام اغلبهم لهم القدرة والخبرة في أمور الحكم والحياة ، عمد دون بصيرة لوضع أقربائه من بني أمية في مكانهم حيث ولي أبن عمه معاوية على كل أرض الشام ، بينما كان بن الخطاب قد ولاه على جزء صغير من أرضها ، ثم ولى أبن عمه الآخر " سعيد بن العاص على البصرة ، ولم يتوقف عند هذا الحد بل ولى مجموعة كبيرة من أقربائه على امصار أخرى مثل " مصر وخراسان والكوفة وغيرها من الأمصار البعيدة والقريبة " حاكم مصر أبن أبي سرح أخوه بالرضاعة ، وفي خراسان يحكم ابن خالته " عبد الله بن عامر " لم يتولى أحد شؤون المسلمين في تلك الأمصار إلا من أقرباء عثمان بن عفان ، أولئك الذين اتخذوا الحكم طريقا للفساد وإذلال الناس وفرض الضرائب الباهظة وفتح أبواب السجون والموت لمن ناهضهم من أجل الحق ، شيئا فشيئا ابتعدت مسيرتك عن التقوى والعدل الكلمة العليا للباطل وضاعت في زحمة الفساد مكارم الأخلاق ، وصار صلاح الدين أمر في غاية الصعوبة وعندما جاهر الغفاري بخطاب الحق وطلب العدل والمساواة للناس غاب بين أجنحة الموت بقرار من الخليفة ، رغم وجود الأخيار المتقين رفضت الجميع واخترت لك وزيرا هو " مروان بن الحكم " وأنت تعرف تورطه بالفساد وخطل تفكيره ، قالت عائشة " سمعت رسول الله يلعن مروان بن الحكم " تسلط أقربائك على رقاب المسلمين زاد الظلم والفساد وارتفعت صيحات الاحتجاج ، كان الخليفة تصله اخبارالظلم وتسلط الحكام وهو ينظر ويلتزم الصمت ، لم يتخذ القرار العادل ويبطش برموز الحكم الفاسد ، ولم يفكر برحمة المسلمين من هول ما أصابهم على أيدى حكام الأمصار من أقربائه ، لقد أثاروا النعرات والفوارق والعصبية الجاهلية وضخموا حجم الشك بعدالة دين الإسلام ، لعلك لا تتذكر تفاصيل يوم الفتح العظيم عندما وقف " أبو سفيان " مذهولا الناس أفواجا يدخلون في دين الله ويشكلون ذاك الجيش الكبير وقال لصديقه " العباس " :
- لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ... ، قال العباس
- أنها النبوة لا الملك ...
قل ياخليفة المسلمين لعمالك على الأمصار أنها الإمامة لا الملك ...
ثم ماهذه النعرة العصبية وسلوك الجاهلية هل كان " معاوية " أن يقول ماقال وهو يتفاخر بأبيه وعشيرته ،هل كان يستطيع ان يقول ذلك في زمن الخليفة الفاروق ..؟ ....
يتذكرون أيام الفاروق
، كان عمر شديدا مع الحكام ولاة الأمصاريزجرهم عند الخطأ ويعاقبهم اشد العقاب ، وكان أغلبهم من أصحاب الرسول فيهم الخير والتقوى وعدم الذهاب في درب الفساد ، وفي الحادثة التي دونها التاريخ عن تشاجر والي البصرة ط سعيد بن العاص " واتباعه مع أصحاب الاشتر فقام الأخير واتباعه فوطئوا سعيد واتباعه بأقدامهم وكاد يهلك تحت ضربات نعالهم ، ماذا ظل من هيبة الحكم ..؟ كان يفترض من تكرار جوادث المواجهة ان يعمد الخليفة غلى عزلهم ووضع البديل الصالح لإدارة شؤون الرعية ، كان العكس هو الذي يحصل حيث يؤلب وزيره " مروان " على ان يستعمل الشدة والحزم وعدم النظر في مظالمهم ، بدعوى ان تلك الممارسات تجلب الهيبة للحكم وتطرد طمع الرعية بالحكم ، لم يكن المسلمين في الأمصار عموما يهابون أبن الخطاب لشدته وبطشه بل لأنه العادل المنصف الباحث عن الحق بين العيون ، السوط الذي رفعه عمالك على تلك الأمصار المنكوبة يحمي الظلم لكنه يحفر في جدران الحكم حتى يسقط انت الذي رفعت صوتك الخاطيء بوجه من أشتكى من نار الظلم وطلب استبدال الحاكم الفاسد " أي شيء بقي لي من الأمراء إذا كنت كلما كرهتم أميرا عزلته ، وكلما رضيتم عن أمير وليته " كان مروان بن الحكم الشيطان الذي يوسوس في ذهن الخليفة ويعمل على نبذ الحق والعدل ، وفي الخفاء كان يستولي على الأموال والضياع بل هو المتحكم في الخليفة عندما يُعطي وعندما يتخذ القرار ...
أتسعت فتوحات جيوش المسلمين شرقا وغربا رغم حالة الإنغلاق في الحكم والتراجع في القيادة ورغم ضعف القرار الإداري ، صارت أموال الغنائم تتدفق بشكل كبير من المدن المفتوحة ، أموال من الذهب والنساء الحسان تحول الجنود إلى طبقة من الأثرياء وأصحاب الاقطاعيات وفي مقدمتهم أقرباء الخليفة – أصحاب الأمر والنهي ، من أكبر المغانم مشاركة الرجل في فتح مدينة أو حرب كبيرة ، ويذكر مؤرخوا تلك الفترة اسماء الذين صعدت املاكهم بشكل لافت من أمثال ( الزبير بن العوام –وطلحة وزيد بن حارثة الأنصاري – وغيرهم الكثير ) لكنهم كانوا يتصدقون بسخاء مم وهبهم الله ، ظهرت القصور المنيفة الفاخرة في أمصار كثيرة كان أغلبها لبنو أمية ، يختارون أجمل وأثمن الأراضي في مواقع على شواطيء البحار ، على ضفاف الأنهار على سفوح الجبال الخضراء ، عند مساقط مياه الشلالات ، من قصورهم التي اعتبرت أعجوبة البناء في مدن مثل "مصر – الاسكندرية – الشام – دمشق –بغداد – البصرة وفي إيران وأذر بيجان أو في غابات الريحان في بلاد ماوراء النهرين في آسيا الوسطى وتركيا ومدن في أفريقيا " لم يكن يفكر الخليفة أو عماله على الأمصار بالحرج من المسلمين حيث اكتناز الثروة والتصرف السيء بها " كأن أبي ذر لم يمر وصرخته لم تنفذ في العقول والضمائر " لم يصدر أي صوت ضد ما يجري من استلاب وسرقة لأموال الناس في تلك الأمصار إلا صوت علي بن أبي طالب ومعه نفر من الصحابة " لقد رأى ان الاستكثار من المال وإفقار الناس بحجة الفتح والحكم وتوسعت حدود الدولة مذموم مرفوض ويتعارض مع قيم الإسلام _ بل أندفع مجاهرا ان تلك الأموال حرام " تذكر الناس أباذر وصاروا يتحدثون عن دعوته لتوزيع الثروة بشكل عادل حيث لا فقير ولا محروم ، كان علي بن أبي طالب يرى ان تلك الأمصار البعيدة ذات الأطراف المترامية يعيش فيها الكثير من الناس من المسلمين وأهل الذمة وهم في الغالب لا يجدون ما يسد الرمق من الطعام إضافة إلى جلدهم لإتفه الأسباب من قبل حاكم مستبد لا يحكم بما أنزل الله من بيان " ذكر الخليفة وأعوانه بالقول الشريف "لايؤمن بالله ورسوله من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم ذلك علم اليقين " كان علي بن أبي طالب إضافة إلى شجاعته وحكمته فهو نبراس الحقيقة وعلم العدل وأول من حمل مكارم الأخلاق بعد النبي الكريم ، اشتملت فيه كل الصفات التي افتقدها البعض في تلك الفترة المضطربة العصيبة ، كان يحج إلى داره رغم انه ليس صاحب القرار المظلوم والباحث عن الفتوى وطالب العون حتى قال " لا بأس بالغنى والتمتع بزينة الحياة التي أخرجها الله لعباده والطيبات من الرزق التي أحلها الله لا بأس بهذا كله ، لابأس بالغنى لمن أتقى ومن حرم ما أحل الله فهو أثم كما أحل ما حرمه الله " هو يفتي من آيات القرآن وكان شاهدا على ما حصل فيما بعد من أحداث كانت تلوح في الأفق وتدفع الناس إليها .....
( يتبع )