(الحلقة السابعة عشرة)
د. شاكر الحاج مخلف
النهج الذي اختاره الصحابي " اباذر الغفاري " تمثل دائما بمقارعة الظلم والتشهير بالفساد وسرقة المال العام ، قاوم دون تردد النهج السلطوي الأموي الذي اقترب في الحالة العامة من الشكل والمضمون الارستقراطي ، لم يهاب الموت أو التعذيب والنفي وعاش حياة هي الأقرب إلى الفقر والعوز لذا أحس بالتوحد مع الفقراء والمساكين المستضعفين ، أختار في ديمومة نضاله السلبي النازع إلى التحريض وكشف عيوب الحاكم ونظام الحكم ، نشر خطابة السياسي التحريضي الأخلاقي كانت أدواته في تلك المواجهة التفكير والقول والإشارة ، يهدف بتلك الحالة التي أرتبطت بفكر الإسلام وقيادته الدعوة المطلقة لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الفقير والغني وتوزيع الثروات بشكل عادل ، معترضا وبقوة الحجة الدامغة على حالة الظلال التي باتت تتوسع دون ردع ، اعترض على الظلم منحازا لجموع الفقراء ، كان يعبر عن مواقفه بشجاعة نادرة ألهمت الجميع الحافز لمواجهة حالات الظلم في المدينة والأمصار ، يكشف عن جوهر قناعته وهو يقول :
- أمِرت بحبّ المساكين والدنو منهم، وأن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن لا أسأل أحدًا، وأن أقول الحقّ ولو كان مُرًّا".
تعريف سيرته يقود المتلقي إلى كفاح يقوده جسد ضعيف عامر بالإيمان لا يلين في مواجهة الباطل ، أين ما يكون ينشرالأفكار التي تنادي بالعقل والكفاح من أجل خير الناس ، عرفت حياته الأولى قبل دخوله الإسلام بالجسارة هو امتداد لممارسة عروة بن الورد زعيم الصعاليك لكن الاختلاف حصل عندما هذب سيرته الإسلام وأمده بقوة مضاعفة ، يوصف في كتب السيرة بأنه الأشهر تماما بين الصحابة في مجال رواية سيرة الرسول الأعظم ، كما طاف بين الناس مرددا أحاديثه والتذكير بالآيات البينات ، وبسبب سيرته النظيفة قال عنه النبي الكريم معلنا اعتزازه بسيرته وعمله ": "ما أظلّت الخضراء، ما أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذَر، شبيه عيسى بن مريم عليه السلام.." كان يتفقد وجوده إذا غاب ويبادره بالسؤال إذا حضر ..عُرض عليه بأن يكون أميرا في العراق، فرفض ذلك بقوله: "وما أصنع بأن أكون أميرًا؟ وأنا يكفيني كل يوم شربة ماء أو لبن، وفي الجمعة قفير تمر" ..إلّا أن هناك مصادر تذكر أن عمر بن الخطاب يرفض أن يوليه ولاية، معلنا أمامه "أنّ به ضعفًا، وأنّ الضعيف لا يُولّى، مهما ارتفع في سلم العقيدة درجات، فهذه ساحة، وتلك ساحة، إن اجتمعتا (واجتماعهما نادر) فهذا الكمال، وإن افترقتا (وغالبا ما تفترقان) فلكل ساحة رجالها، ولكل ميدان فرسانه ، فرجال السياسة أجْدر بالحكم ورجال العقيدة أحْفظ للعقيدة."...
موقف الخليفة الثاني لم يجعل أبا ذر يرتد أو يتوانى في مسيرته او يغير مبادئه ، ظل متمسكا بنهج العدل رغم شعوره بوجود مفارقة في التقييم الذي قاله الخليفة الثاني عنه ، تشبث بمباديء العدل منذ ان اتخذ قراره بقبول نهج الدين الجديد ، في مواقف كثيرة ذكرتها في فصول البحث المستمر هو الصحابي الذي حمل لواء الإسلام ونشر الأفكار الصحيحة ولفت إنتباه المسلمين إلى أهمية المواجهة من أجل الحق والعدل ، والتصدي لممارسات الحاكم الظالم وأعوانه كما حصل بينه وبين حاكم الشام " معاوية " رفض نهج إغناء الأغنياء وأفقار الفقراء ، حيث فضح الطبقة المستغلة التي تكدس الذهب والفضة وهناك طبقة فقيرة لاتجد وجبة طعام ،دعوته تلك تسببت بالاختلاف مع الخليفة الثالث عندما طلب منه تعميم حالة الزهد على الأغنياء وجعل المساواة تسود بين الرعية ، رد الخليفة بجفاء على تلك الدعوة وقال : " لا يُمكنه حَمْل الناس على التزهّد " لم تتوقف دعوته عند دار الخليفة بل جاهر بين الناس وفي المسجد قائلا : " يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء " ... تم التحريض المباشر والمتواري ضده لكن دعوته اخترقت الآفاق جمعت القبائل وتلك الأمصار التي سيطرت عليها القوى المسلمة ، وبعد النفي والموت أصبحت جذوة أفكاره متوقدة لدى القوى التي ناهضت حكم الخليفة الثالث ، كانت أفكاره ودعوته دليل تلك الثورة التي طافت كل الأمصارواندفعت نحو المدينة مسلحة بالسيوف والرماح وكلمات الغفاري ، كانت ثورة لها شرعيتها فهي جاءت لتثبيت قيم السماء وإزالة الظلم والباطل والفساد ، اقتنعت تلك القوى بالمشروع الذي اعتمده الخليفة الثاني الذي من سمات نظام حكمة إقامة الدولة القوية ومؤسساتها ونشر العدل والمحاسبة القاسية لولاة الأمصار ، وجدت تلك المجاميع الكثيرة من البشر ان الخليفة الثالث قد ابتعد عن نهج عمر بن الخطاب في إدارة الدولة بل بدل وغير واتخذ نهجا مختلفا وكان تواصل الحكم في الأمصار يخضع للولاة من بني أمية أقرباء الخليفة الثالث ، لهذا اشتدت المعارضة ثم تحولت إلى مقاومة مكشوفة تتحرك لاجتياح رموز الفساد ، رفض الغضب الجماهيري فكرة الخليفة وأتباعه في تقوية التسلط القبلي وبروز نهج الاستحواذ على المال العام ، أعاد الخليفة الثالث سطوة السادة في زمن الجاهلية لتظهر من جديد في زمن الإسلام ، نسف تقاليد الأخوة والتكافل وتغليب زمن العبودية ، في هذا المشهد الملتبس تصاعد العداء في المدينة والأمصار ونبذ الناس الأمراء والحكام وقلت الرغبة في القتال من أجل أولئك الذين استعبدوا الناس ولم يعد لمقولة عمربن الخطاب أية قيمة " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا " الإسلام منح الناس حياة جديدة وقوانين مختلفة وخلص الناس من العادات القديمة السيئة كما هي الحال في وئد البناة والتناحر والحروب بين القبائل واغتصاب النساء وغيرها الكثير ، الصراع الذي نشب هو بين قوى تملك وأخرى لا تملك وهنا بات شرعيا ان تكون قوى معارضة وأخرى متسلطة ، انبثق من تلك السيطرة صراع سياسي اقتصادي أخلاقي ، قوانين التعسف والظلم واجهت التذمر والنقمة وصولا إلى الثورة في زمن الخليفة الثالث وصار الشعار الذي تحرك من خلاله الغفاري مقولة النبي الكريم " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وتحت هذا الشعار قاد الغفاري حملته التي نضجت وها هو الرفض الجماهيري يدق باب دار الخليفة الثالث ....
توافد على المدينة في موسم الحج أصحاب الاعتراض على الحكام والولاة والذين يطالبون الخليــــفة بالتنحي ، احضر الخليفة مستشـــاره مروان بن الحكم وكذلك عمروبــــن العاص ، وولاة الأمصار وقال لهم موبخا :
- ويحكم ما هذه الشكاية ..؟! وماهذه الإذاعة ؟ والله لأخاف أن يصدق ما يقال عنكم ، وما يعصب هذا إلا بي ، وما يتحمله غيري ! ..ساد بين الولاة رد فعل واحد هو الاستنكار ورفض القول ، قالوا بصوت واحد :
- ألم يبعث الخليفة إليهم من يحقق في هذه الأقاويل ، فهل وجدوا مؤاخذة واحدة ..؟ " ثم أضافوا وهم يصفون أصحاب الشكاوى واللائمين " لا والله ما صدقوا القول ، ولا بروا ، ولا نعلم ياخليفة المسلمين لهذا الأمر أصلا ! "...
صدق الخليفة كلامهم ودفاعهم وظن أن الشاكين يتقولون على عماله وحكام الامصار الأقاويل ، فطلب استشارتهم بهذا الشأن قال الخليفة :
- أشيروا عليّ ، ان لكل أمير وزراء ونصحاء ، وإنكم وزرائي وأهل ثقتي ، وقد قال لي أقوام : أن ناسا من المسلمين أجتمعوا ونظروا في أعمالك ، فوجدوك قد الاتكبت أمورا عظاما ، فاتق الله لقد صنع الله ما قد رأيتم ، وطلبوا إلي ّ أن أعزل عمالي ،وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون ، فاجتهدوا رأيكم " نظروا إلى بعضهم البعض حتى أنبرى مروان وقال :
- أرى ياأمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ، ولا تكون همة أحدهم إلا في نفسه ، وما هو فيه من دبر دابته ، وقمل فروته ... أضاف سعيد بن العاص والخليفة يستمع بإهتمام :
- أحسم عند الداء فاقطع عنه الذي تخاف ، فإن لكل قوم قادة ، متى يهلك قادتهم تفرق الناس ، ولا يجتمع لهم أمر .." فقال الخليفة عثمان معجبا :
- هذا هو الرأي لولا مافيه ..! ، وقال معاوية :
- أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد ، فيكفي كل رجل منهم ما قبله وأكفك أنا أهل الشام ...وقال رابع المستشارين :
- ان الناس أهل مطمع من هذا المال ، تعطف عليك قلوبهم " ثم قال عمرو بن العاص :
- أرى أنك لنت للناس ، وتراخيت عنهم ، وزدتهم على ماكان يصنع عمر ،فأرى ان تلزم طريق صاحبيك أبي بكر وعمر ، فتشتد في مواضع الشدة وتلين في مواضع اللين .. وعاد سعيد بن العاص ليكرر القول وهو يوغر صدر الخليفة ، قال :
- أقتل هؤلاء الذين تخرج هذه الاقاويل من عندهم ..! " ، ولم يتأخر معاوية في تأييد كلام ابن العاص فقال :
- نعم اعمل السيف في الرقاب " ، لكن عثمان لم يندفع في تأييد قول بن العاص ولا مشورة معاوية ، وقال حاسما :
- لا زالله ، لا أكون أول من يخلف الرسول في مدينته بسفك الدماء .."أراد عمر بن العاص ان يخدع من يتسمع ويتنصت خارج المكان فغير خطابه وقال متصنعا الغضب والمعارضة للخليفة :
- يأمير المؤمنين أنك قد ركبت الناس بما يكرهون ، فوليت عليهم عمال سوء ، فزاغو ، وزغت ، فاعتدل أو أعتزل ، فإن أبيت فاعتزم عزما وأمض قدما .." غضب الخليفة عثمان من كلامه وقال له :
- قلت والله حقدك منذ ان عزلتك عن الولاية ... " سكت عمر بن العاص وأنتظر خروج الجميع من مجلس الخليفة وقال :
- والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم عليّ من ذلك ، ولكني علمت أن عند الباب من يبلغ الناس قول كل رجل منّا ، فأردت أن يبلغهم قولي ، فيثقوا بيّ ، فأقود إليك خيرا ،وأدفع عنك شرا .... وكان الخليفة قد عزل عمرو بن العاص عن الولاية لمصر بعد تكاثر الشكاوى ضده وولى مكانه أخاه من الرضاعة ابن أبي سرح ، لكن الخليفة ظل يجزل العطاء لعمر بن العاص كما ظل عمرو بن العاص يحلم أن يعود حاكما لمصر من جديد ..
تكاثرت الوفود المحتجة في المدينة وصارت تسد المنافذ والثغور وتطوق الدروب المؤدية إلى المسجد وإلى دار الخليفة ، كانت ذات المطالب تتكرر وكل يوم يضاف إليها مطالب جديدة ، كانت أنباء تلك الجموع المحتجة تصل إلى علي بن أبي طالب وبقية الصحابة ، جميعهم يحلمون بتغيير سياسة الخليفة والقبول بمطالب الجموع المحتجة ، علي بن أبي طالب والذين معه من صحابة الرسول الأخيار يدركون ان النار ستندلع وقد تلتهم كل شيء ، بينما الخليفة يجلس مطمئنا بين بطانته التي يعترض الناس على سوء عملها ، لم يعد الوقت فيه مجال للأنتظار والصمت مرفوض ، والحشود لن تغير مطالبها ، وهي تضيق الخناق على الخليفة ، كل رجل في تلك الحشود يهتف بكلمات " الغفاري " ، علي بن أبي طالب والذين معه بين نارين حماية الخليفة وإنصاف الناس وتحقيق مطالبهم ، من يستطيع ان يلجم تلك الثورة الأولى في تاريخ الإسلام العارمة ذات المطالب المشروعة ....؟!
" يتبع "