(الحلقة الحادية و العشرون)
د. شاكر الحاج مخلف
أحاطت الجموع بشخص نائب الخليفة " علي بن أبي طالب " الذي يحمل تفويضا من الخليفة ، نظر الى الوجوه الغاضبة والأيدي التي تمسك بالسيوف ، وقال :
- ايها الناس إنكم إنما طلبتم الحق ، فقد أعطيتموه ، إن عثمان بن عفان خليفة المسلمين قد زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره ن وراجع عن جميع ما تكرهون ، فأقبلوا منه .. " كل كلمة يقولها " علي " بمثابة وثيقة لا تقبل الجدل فهو الوريث الشرعي للنبي في الصدق والأخلاق ، هو القائد الذي غيبته ظروف يعرفها الجميع كما غيب الموت " الغفاري " قسرا ، ألتقت العيون وهبط الآمان على القلوب بعدة كلمات نطق بها " علي بن أبي طالب - يعسوب الإسلام وراية الحق وناشر مواقف التحدي ضد الباطل ، بصوت واحد صدحت الحناجر قالوا :
- قبلنا ، استوثق منه لنا ، فإنا والله لا نرضى بقول دون فعل ... " رد علي بن أبي طالب فقال :
- ذلك لكم .... " ثم غاب في جوف الدار راجعا إلى مكان جلوس الخليفة ، دخل مرفوع الرأس على وجهه بشائر الخير ، قال للخليفة بما صدر عن الجموع المحتجة ، رد الخليفة :
- اضرب بيني وبينهم أجلا يكون لي فيه مهلة فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد ..! " رد علي فقال :
- ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه ، ، وما غاب فأجله وصول أمرك ... رد الخليفة فقال :
نعم ولكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام ... " اشترط على على الخليفة " عثمان " ألا يطاول الناس أكثر من ثلاثة أيام ، ينبغي قبل مرور أيام ثلاثة أن يصدر الخليفة أوامره ، بما وعد به من تغيير وإصلاح ... ثم كتب عليا كتابا شرط فيه على الخليفة رد كل مظلمة ، وعزل كل ظالم كرهته الرعية ، ، وعقاب مروان بن الحكم ، اشهد علي بعض كبار الصحابة على هذا الميثاق ، ثم خرج علي فأعلم الناس المحتجة بما جرى ، ودعاهم أن يكفوا عن الخليفة ويمهلوه ثلاثة أيام ، أخيرا أنصرفت الجموع المحتجة راضية ومطمئنة الى تغيير موقف الخليفة واستعداده للجم رموز الفساد من أتباعه ، بينما كان مروان بن الحكم يدبر بقية تفاصيل المؤامرة حيث اعد الجند واستعد لتنفيذ ما تبقى من مخطط ، الخليفة بين نارين التراجع ومواجهة رموز التآمر او مواجهة الجموع التي تحيط بالمدينة واسلحتها مشرعة تلمع تحت خيوط الشمس ، مرّ يوم بعد يوم والجموع تنتظر تفاصيل التغيير حتى حل اليوم الثالث ، أتى زعماء الاحتجاج إلى دار علي بن أبي طالب يريدون معرفة ماذا حصل من وعد الخليفة ، شعر بحرج شديد فما عساه يقول للناس ، أدرك أنه يواجه موقفا ضنكا ما واجه مثله غي سنوات الرسالة وحكم الخليفة الأول والثاني ، شعر بخجل حقيقي من مواجهة الناس ، هو الذي ضمن أمامهم عهد الخليفة الذي ادرك أنه يخذله في عدم تنفيذ تعهداته ، وهو ملتزم بمنع الناس من التطاول على هيبة الخليفة أو إلحاق الضرر به ، لكن الناس يتحدثون بالسوء عن الخليفة وعادوا يهددون ويتوعدون ، كل رجل منهم يرى الحل والخلاص في قتل الخليفة ، الذي سلم مقاليد الخلافة الى مجموعة من الشرار ورموز الفساد وجعل أصحاب الرسول وعلي بن أبي طالب في موقف محرج جدا ، الأمر والنهي بيد الفئة التي استأثرت بالمال والقرار وسرقة بيت مال المسلمين ونشرت الظلم البشع بين الناس ، ابن عم الرسول وحامل لواءه يرى ما يحدث من منكر ويحاول مع نفر من اصحاب الرسول تغيير دفة القيادة نحو الأصلح لم يعد لديهم للصبر منزع ، الأمور تندفع نحو المواجهة القاسية ، هناك قوى خفية تدفع الأمور نحو حافة الإنهيار ، لها مطامع تبحث عنها في مستنقع الدم ، علي بن أبي طالب والذين معه رفضوا السكوت عن المنكر ، وهو يدرك كما أدرك الغفاري من قبل ان الموقف الصحيح يتطلب تغيير المنكر وإنقاذ الجميع من حالة الاحتراب ، خرج من حالة الصمت وسعى لدى الخليفة لتبصيره بعواقب ما سيحدث وحصل على وعد قاطع لكن الأمور تدحرجت من جديد إلى حالة التلاشي والبداية ، لم يوافق على فكرة الناس الذين تنادوا للثورة على الخليفة وتغيير الواقع بحد السيف وقتل الخليفة ، أتباع الخليفة حملوا عليا والذين معه المسؤولية عن الثورة التي تلوح في الأفق ، الخليفة بوضوح حمل عليا مسئولية الثورة على الخلافة ، بل ذهب إلى أكثر من ذلك عندما طالبه بالعمل على صرف الثائرين واخراجهم من المدينة ، وكان يدرك ان عليا هو الوحيد القادر على ذلك ، كما يدرك علي بن أبي طالب والذين معه ان مروان بن الحكم وبني أمية يقفون خلف تصاعد الخلاف بين الناس والخليفة ، اطلق مروان أمره إلى صاحب الشرطة بالاستعداد للقتال ، وصلت الأمور إلى حالة الإنفجار ،" علي " يرى الفعل الشيطاني ماثلا ولا يستطيع ان يقابله وهو الذي تصف الكتب والأخبار شجاعته وحكمته لتغير الفعل السيء والالتزام بالحق والعمل من أجله ، تقوى ابن أبي طالب تأبى عليه ان يرضى بالذل للخليفة وانتكاس راية الرسالة ، لم يسكت ويتهاون مع المنكر من الفعل ، وجد نفسه مسئولا عن حفظ دماء الرعية وصيانة حياة الخليفة واستمرار دفاعه عنه ، بين نارين تماما لا يستطيع تعنيف الخليفة وهو يرى خطل سياسته بفعل اتباع السوء الذين احاطوا به ، ولا يستطيع أن يقف ضد المطالب المشروعة في نبذ الظلم والدفاع عن مصالح أهل الأمصار ضد ولاة يعملون بنهج شاع فيه الظلم والتعسف ، محنة علي بن أبي طالب كانت كبيرة ، بينما هو يقدم النصح للخليفة اتباع الخليفة يتهمونه بقيادة الثورة والاحتجاج ضد الخليفة ، كم من مرة طالبه بصرف القوى الثائرة على حكمه ، وهو يعلم ان كلمة علي ابن أبي طالب مسموعة عند الناس الذين يحيطون بداره من كل جانب والموت منه قاب قوسين أو أدنى ، هو وحده القادر على فك ذاك الاشتباك الصعب ، كما يحمل الرعية مسئولية علي بن أبي طالب على استمرار حكم الظلم والخروج على دين محمدا ، أمام سماحة خلقه الباحث عن الحل وعدم إراقة الدماء يقف أعتى عتاة بن أمية " مروان بن الحكم " أصدر أمره لصاحب الشرطة أن يتأهب للقتال ، لم يبق في القوس منزع ، بعد وقت صلاة عصر اليوم الثالث المقرر لسماع قرار الخليفة ، وقبل رفع أذان المغرب ، أنتهى الآجل المحدد لقرار الخليفة بالتغيير ، تعالت صيحات الثوار حول دار الخليفة ، وقال من يقودهم لم يبق أمام الخليفة إلا بضعة حلول يختار أحدها لحقن الدماء ، يعتزل ويترك أمر الخلافة لمن هو أقدر منه وأصلح ، وكانت الجموع المحتشدة تطالب علي بن أبي طالب بتولي الخلافة كما على الخليفة تسليم الثائرين المتآمر " مروان بن الحكم " لانزال القصاص العادل به ، والطلب الأهم لدى الثائرين هو عزل الولاة الأمويين واسترجاع الأموال التي نهبوها من بيت مال المسلمين ،وإقرار العدالة والمساواة دون تفرقة ،وإطلاق سراح السجناء المظلومين الذين سجنوا قسرا من قبل صاحب الشرطة وأعوانه ، ويقتص من الذين تجاوزوا على كبار الصحابة ويعتذر عن نفي " الغفاري وموته " ، إذا لم يتم تحقيق تلك المطالب العادلة سيقتلوه ، وسط اشتداد الهياج والصخب لم يكن أمام علي بن أبي طالب سوى تهدئة الخواطر وتأجيل اندفاعهم ضد الخليفة ، طلب منهم مرة أخرى إعطاء الخليفة مهلة أخرى آمدها ساعة واحدة ليكلمه بعد صلاة المغرب ، لكن الجموع الثائرة أبت ذلك ، شكلوا وفدا من بينهم دخل إلى دار الخليفة في محاولة أخيرة يطلبون منه عزل رموز الفساد وإخضاعهم للحساب والعقاب ورد المظالم كما وعد وتعهد لعلي بن أبي طالب ، الخليفة بعم من أعوانه وبمشورة " مروان بن الحكم " ردهم خائبين عندما قال لهم :
-إن كنت أستعمل من أردتم وأعزل من كرهتم فلست في شيء من الأمر .. " سيطر اليأس عليهم واشتعل فتيل الغضب وتأججت الثورة وتوحد الهتاف بينهم ليس من بد إلا قتل الخليفة " عثمان بن عفان " ، كان علي يجادلهم ويثني عزمهم ويحاول تبصيرهم بخطأ ذاك القرار ، أتى عبد الله بن عباس عليا يحمل إليه أمرا بأن يبرح المدينة ، وأن يلزم ماء له بينبع ، شعر عليا بالأسى مما يحصل وكيف صار الخليفة يتخبط بقراراته رغم اشتداد الأزمة والفوضى واستفحال الخطر ، دقق في الأمر وجد فيه كيد " مروان بن الحكم " ، قال لحامل الأمر :
-يابن عباس ، مايريد عثمان إلا أن يجعلني جملا أقبل وأدبر ، بعث إليّ أن أخرج ، والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما " ... بين لوعة الآسى والخوف على مصير الخليفة والتأكد من حجم تآمر بني أمية يشعر بالأشفاق على ذو النورين يجلل مشاعره الحزن والخوف على دماء بريئة ستهرق ، لكنه ركن إلى قرار نفسه بأنه سيتجنب الخليفة وأتباعه مع ان ذلك الموقف فيه حرج كبير ، تلقى أمر عثمان وهو شبيه بذاك الذي صدر ضد الغفاري ، هو أيضا حالة نفي حددت إقامته وفق شروط الخليفة ، صلى صلاته الأخيرة في داره ودعا الله ان يجنب الأمة شروع القتال ويجمع شمل المسلمين حول راية الحق ، خرج حيث أبعده الخليفة منفذا رغبته ، قبل ان يبرح المدينة جمع كبار صحابة الرسول وطلب منهم ان يكفوا الناس الغاضبين عن الخليفة ، وأن يميلوا إليه القلوب ما استطاعوا ، وعندما سمع الزبير بن العوام بخبر نفي علي بن أبي طالب سارع هو الآخر فغادر المدينة إلى مكان أبعد من أن يحرجه فيه الخليفة واتباعه ، ذاك المكان يجعله لا يرى او يعرف ماذا يدور في المدينة من أحداث ،بينما الصحابي " طلحة " اعتكف في داره واغلقها عليه وانقطع عن التواصل مع الناس والخليفة ، بينما أتخذ بقية صحابة الرسول موقفا آخر حيث رفضوا ان يصرفوا الناس المتجمعون حول دار الخليفة ، أو يميلوا إليه قلوب الناس ، ولكنهم التزموا ألا يؤلبوا عليه أحد ، لما خرج عليا منفيا إلى ينبع من المدينة اشتد الحصار والطعن على الخليفة " عثمان " فحصبوه في المسجد وهو على المنبر يخطب الجمعة حتى غشي عليه ، ثم منعوه من الخروج حتى للصلاة ، اشرف عليهم وقال لهم :
- يا أهل المدينة ! استودعكم الله ، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي .. وأنشدكم بالله أتعلمون أن لي سابقة خيرأوجب الله على كل من جاء بعدي لأن يعرفوا لي فضلها !؟ لا تقتلوني فإنه لا يحل لكم إلا قتل ثلاثة : رجل زنى بعد إحصائه ، ووالله ما فعلتها في جاهلية أو في إسلام ، أو كفربعد إيمانه ، أو قتل نفسا بغير حق ، فإنكم أن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ، ثم لا يرفع الله عنكم الاختلافأبدا ... قالوا :
- أنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة ، من بغي ومن سعى في الأرض فسادا ومن حال دون شيء من الحق ومنعه ، وأنت بغيت ومنعت الحق وحلت دونه ، وكابرت عليه ولم تقتص من نفسكلمن ظلمته ، وتمسكت بالأمارةعلينا ...
دخل الخليفة عثمان إلى داره وهم على أبوابه يشددون الحصار ، وخرج طلحة من حالة عزلته ، كان المحاصرون ألفا من أهل الكوفة ، وعدة مئات من أهل مصر ، ومئات من أهل البصرة وأهل المدينة ، والصحابي " طلحة " يروح ويجيء بينهم ، قال للرجال من قادة الحصار :
- ان عثمان لا يبالي ما حصرتموه، وهو يدخل إليه الطعام والشراب ، فامنعوا الماء أن يدخل إليه ......
" يتبع "