في أوقات عدم اليقين يلجأ الناس إلى المقارنات التاريخية، فبعد أحداث الـ 11 من سبتمبر (أيلول) استخدم مسؤولو إدارة جورج دبليو بوش الهجوم على "بيرل هاربر" كمثال مرجعي لتحليل الفشل الاستخباراتي الذي أدى إلى تلك الأحداث، واستذكر وزير الخارجية كولن باول الهجوم الذي شنته الإمبراطورية اليابانية ليجادل بأن واشنطن يجب أن توجه إنذاراً نهائياً لـ "طالبان" قائلاً إن "الدول المتحضرة لا تشن هجمات مفاجئة"، وعندما حاول المسؤولون في غرفة العمليات تقييم التقدم في أفغانستان، ولاحقاً في العراق، برز تشبيه آخر مرات عدة وهو اعتماد الرئيس الأميركي ليندون جونسون الكارثي على إحصاء عدد ضحايا الخصم في حرب فيتنام [لقياس ما إذا كانت الولايات للمتحدة تفوز في الحرب]، وعلى رغم أن التاريخ لا يكرر نفسه إلا أن أوجه التشابه ممكنة في بعض الأحيان.
واليوم التشبيه المفضل هو الحرب الباردة، فمع تولي الصين حالياً دور الاتحاد السوفياتي تواجه الولايات المتحدة مرة أخرى خصماً يتمتع بنفوذ عالمي وأطماع نهمة، وبالطبع هذا التشبيه جذاب بخاصة لأن الولايات المتحدة وحلفاءها انتصروا في الحرب الباردة، ولكن الفترة الحالية ليست تكراراً للحرب الباردة بل هي أكثر خطورة، فالصين ليست الاتحاد السوفياتي.
في الواقع كان الاتحاد السوفياتي منعزلاً على نفسه مفضلاً الاكتفاء الذاتي على الاندماج، في حين أن الصين أنهت عزلتها في أواخر السبعينيات من القرن الـ 20، والاختلاف الثاني بين الاتحاد السوفياتي والصين هو دور الأيديولوجية، فبموجب "مبدأ بريجنيف" الذي حكم أوروبا الشرقية، كان على الحليف أن يكون نسخة طبق الأصل عن الشيوعية السوفياتية، أما الصين فعلى النقيض من ذلك فهي لا تهتم كثيراً بالشؤون والأنظمة الداخلية الخاصة بالدول الأخرى، فهي تدافع بشدة عن أسبقية الحزب الشيوعي الصيني وتفوقه، لكنها لا تصر على أن يعتمد الآخرون نظاماً مطابقاً، على رغم استعدادها لدعم الدول الاستبدادية من خلال تصدير تقنيات المراقبة وخدمات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها، وإذا لم تكن المنافسة الحالية نسخة ثانية من الحرب الباردة فما هي إذاً؟
انصياعاً للرغبة في إيجاد مراجع تاريخية، وإن لم تكن تشابهات، قد يجد المرء مزيداً من الأفكار المفيدة في الإمبريالية في أواخر القرن الـ 19 والاقتصادات ذات المحصلة الصفرية [الاقتصادات التي تقوم على انتصار طرف وخسارة الآخر] في فترة ما بين الحربين العالميتين، والآن، كما في تلك الأزمنة، تكتسب القوى التعديلية أراض بالقوة والنظام الدولي يتفكك، لكن ربما التشابه الأبرز والأكثر إثارة للقلق هو أن الولايات المتحدة تميل إلى الانطواء على نفسها مثلما حصل خلال الفترات السابقة.
تجدد المنافسات الجيوسياسية
في حين أن العصور السابقة من المنافسة كانت تتسم بالصراعات بين القوى العظمى، فخلال الحرب الباردة خيضت النزاعات الإقليمية بصورة رئيسة عبر حروب بالوكالة مثلما حدث في أنغولا ونيكاراغوا، وقد حصرت موسكو استخدامها للقوة العسكرية في الغالب في مجال نفوذها في أوروبا الشرقية، على غرار ما حدث عندما قمعت الانتفاضات في المجر (1956) وتشيكوسلوفاكيا (1968)، واعتُبر الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979 تصعيداً كبيراً غير مسبوق، لكن هذه الخطوة لم تهدد المصالح الأميركية بصورة أساس، وتحول الصراع في نهاية المطاف إلى حرب بالوكالة، أما في الأماكن التي حضرت فيها القوات السوفياتية والأميركية بصورة مباشرة عبر حدود ألمانيا المنقسمة، فقد أدى الخطر الشديد الذي فرضته أزمتا برلين في النهاية إلى وضع مستقر ولكن مشوب بالتوتر بفضل الردع النووي.
إن المشهد الأمني اليوم يشمل خطر الصراع العسكري المباشر بين القوى العظمى، فالمطالبات الإقليمية للصين تشكل تحدياً لحلفاء الولايات المتحدة بما في ذلك اليابان والفيليبين وغيرهما من شركاء واشنطن في المنطقة مثل الهند وفيتنام، وإضافة إلى ذلك فإن المصالح الأميركية الراسخة منذ زمن طويل، مثل حرية الملاحة، تصطدم بصورة مباشرة مع الطموحات البحرية الصينية، ثم هناك قضية تايوان.