أزمة التشاخص في مسرحية العبادي «أدب سيز»
26-كانون الأول-2023

صباح الأنباري
(أدب سيز) عنوان المجموعة المسرحية الجديدة للكاتب المسرحي علي العبادي التي هيمن على خلفية غلافها -بصفحتيه الأولى والثانية - اللون الأحمر تقدمته صورة امرأتين منغمستين في حوار ما، وقد بدت إحداهما أكثر سيطرة من الأخرى بحسب وضع جسمها المنفتح على جمهور النظارة وهي الأقرب إليه من الأخرى فضلاً عن جلوسها بين منضدتين منحها سطوة على المكان أكثر من زميلتها التي كان جسمها بوضع جانبي تقريباً وهي تجلس خارج إطار المنضدتين وكأنها تجلس على هامش صورتهما. الصورة توحي بالغموض المقصود الذي عكس حقيقتهما السالبة (Negative). الاثنتان ترتديان الحجاب كدلالة على الطهر والحياء.
في العنوان التوضيحي الثانوي (نصوص مسرحية) ثمة إيحاء أن موضوعاته المركزية تدور حول هاتين المرأتين وان خلفيتهما تشي بلون الليالي الملاح (اللون الأحمر) التي مرت بها إحداهما أو كلتاهما وهو ذو دلالة سيمائية جنسية. وهكذا يبدو أن الغلاف رسم بإتقان من أجل هاتين المرأتين فقط ولم يهتم الكاتب والرسام أو المصمم إلا بموضوعاتهما.
الغلاف إذن لا يمثل المجموعة كلّها (أربع مسرحيات) لأنه اقتصر تحديداً على موضوعة واحدة لمسرحية واحدة ربما اعتبرها الكاتب أكثر أهمية، وأقدر من بقية النصوص على لفت انتباه القارئ مع أن عنوان المجموعة وحده كاف للفت انتباه أي قارئ بسبب وقاحته غير المألوفة في عالم الفن والأدب، وهو كعنوان لا ينفرد بهذه الصفة لدى الكاتب العبادي فقد سبقته بضعة عناوين وردت على السياق نفسه مثل: مسرحية حذائي، ومسرحية قيء، ومسرحية مرحاض، ومسرحية تفو. وما يبرر هذا الاستخدام هو رفض وتمرد العبادي على وساخة العالم وقذاراته التي أحاطت وأفسدت كلّ شيء جميل في حياتنا اليومية، معوّلاً على ما تحدثه هذه العناوين من صدمة استباقية للمتلقي، وربما تجترح لها في نهاية الأمر منهجية في كتابات العبادي المسرحية.
ونختم رؤيتنا للغلاف بالقول إن أهمية هذه المسرحية -على وفق اختيارات الكاتب- تبرز من خلال التقاطه جزءاً من حوار الشعصيتين داخل متن المسرحية ليكون بمثابة الدليل الأول أو البوابة الأولى للدخول الى عالم العبادي ونصوصه المسرحية.
المقتطف على الغلاف دفعنا الى قراءة مسرحية الغلاف (أدب سيز) وكما أشار بعض الأخوة فان هذه الكلمة المأخوذة عن الأصل التركي تعني عدم وجود أدب، والأدب هنا تعني- من منظور شعبي اجتماعي- الخلق الرفيع لذا استخدمت هذه المفردة الدخيلة ضد كل من يسيء الاحترام، ويتجاوز الحياء، واللياقة والخلق، ومن يستخدم لغة الشوارع وألفاظه المستهجنة، وهي لهذا وذاك عدّت كلمة توبيخ لتصرف مستقبح اجتماعياً. وهذا ينطبق على شخصية المسرحية الرئيسة (المرأة الأولى) فخلفيتها تؤكد نزوعها الى ممارسة البغاء وانحدارها اجتماعياً الى مرتبة متدنية على وفق العرف الاجتماعي السائد الذي يصفها بصفة (الأدب سيز) إنها شخصية عامة تقليدية ليس فيها ما هو مختلف عن غيرها وهذا يعني أنها شخصية رتيبة، ولكن ذكاء العبادي هو من خلصها من هذه الرتابة بابتكار مشروع غريب لها كفل له صنع مزيج من الرتابة والغرابة نصياً في آن واحد. المشروع قائم على فكرة تأسيس معهد للعاهرات هدفه المركزي هو مكافحة العهر والدعارة. وحقيقة الأمر أن مشروعاً كهذا يؤجج، منذ البدء، نفوراً منه لأنه خارج السياقات التربوية، والسلوكية، والتعليمية التقليدية.
إذن بهذا الابتكار الجديد جعل العبادي مسرحيته تنعطف انعطافاً هائلاً عن مسارها الأول محدثاً صدمة قوية للمتلقي الذي لم يتوقع جلية ما يحدث بين المرأتين اللتين بدا الحوار بينهما طبيعياً مشحوناً باستفهامات ليس لها حد معين نظراً لخلفيتهما التي لم تتكشف للقارئ بعد. وعلى الرغم من برقية أو تلغرافية الحوار إلا أنه بدا أفقياً غير قابل للصعود الى ذروة النص المسرحي. ولكن ما أنقذ المسرحية هو اجتراح العبادي فكرة الوصول إلى تلك الذروة قبل انتهاء المشهد الأول بذكاء يحسب له ومناورة فنية أجادها بالتأكيد.
في المشهد الأول ومن الجملة الأولى بيّن العبادي حقيقة الظرف المحيط (الوضع) واصفاً إياه على لسان المرأة الأولى بانه لا يطاق، وعندما تهوّنه الثانية تقول مستفهمة ومستغربة: (كيف! ألا ترين ما يحصل) وربطا بين هاتين الجملتين يكون الوضع كارثياً وهذا استنتاج أولي بطبيعة الحال فنحن لا نزال عند العتبة الأولى بعد دخولنا الى معترك النص. ومن كثرة ما يطرح من الأسئلة الاستفهامية نصل الى حكم استباقي غير دقيق عن كنه الشخصيتين وهذا هو ما أوهمنا به العبادي عن قصد مدروس كي لا يخسر قوة ما ستحدثه الذروة التي خطط لها حتى قبل أن تبدأ المسرحية واضعاً إياها ضمن استراتيجية الكتابة. فعندما تسترسل في قراءة الحوار تجد انه لم يخرج عن رتابة الحياة اليومية لكلا الشخصيتين ولم يعكس حقيقتهما المؤجلة فثمة أسئلة وأجوبة وضحك، واسترسال في الأحاديث الودية، ومحاولة للوصول الى جوهر القضية التي اجتمعتا من أجل طرحها ومناقشتها والوصول الى تنفيذها بشكل نهائي. المرأة الأولى خططت لكل شيء وتروم إقناع الثانية لتكون ضمن من ينفذ المشروع. واعتقد أن امرأة كهذه دبرت كل الأمور بدهاء تنظر الى الأرض لترى مخطوطة مشروعها مرمية بالصدفة على الأرض. هذه الصدفة لا تتوافق مع دهاء الشخصية وألاعيبها المتقنة يقول العبادي واصفا بين قوسين:
(تنظر المرأة الأولى إلى الأرض فتجد عن طريق الصدفة مخطوطة مشروعها ساقطة على الأرض، ترفعها من الأرض، فتبتسم وهي فرحة)
ولكي يدهشنا العبادي بماهية هذا المشروع فانه يعمد الى الاشتغال على بعض الجمل الممهدة ليقرر بعد ذلك اللحظة الانفجارية عند ذروة المسرحية جاعلاً منها أداة الانتقال نزولاً الى نهاية النص، عملاً بقاعدة المسرح وقانونه شبه الثابت بإجماع النقاد والباحثين. ومن خلال المناقشة المحتدمة بين المرأتين يطلعنا العبادي على واقع عرفناه وخبرناه ذلك الواقع المتعلق بحالة إنشاء وتأسيس المعاهد التي كثرت ضمن الوضع القائم في الظرف الجحيمي نفسه:
المرأة الأولى: الجحيم يحيط بنا.
المرأة الثانية: وأحيانا نحن نحيط به.
وهذه دلالة واضحة لا تحتاج الى ذهن عبقري لمعرفتها، وعلى السياق نفسه تقول المرأة الثانية:
أذن ما رأيكُ أن تسَميهُ معهدَ الجحيم، وتكتبينَ عليه من شعارات
هذه الأيام، جحيمُنا ليسَ الوحيدَ، لكنه الأفضل؟
وهنا إشارة وتلميح آخر على تدهور الوضع المعاش الذي أغرقوه بلجة الشعارات الرنانة والطنانة، فالعبادي لا يترك فرصة إلا واغتنمها للإشارة الى ظرفية الوضع (الواقع المحيط بالشخصيتين) وهو نفس الواقع الذي نعيش تفاصيله المريرة.
كلّ هذا كان متوقعاً وهو ما توقعته الشخصية الثانية أيضاً والتي ستتفاجأ مثلنا أن المعهد المراد تأسيسه مختص بالنساء العاهرات فقط. إذن العبادي صار يجيد اللعبة الفنية ويتحكم بطريقة اللعب بالقارئ والمشاهد على حد سواء، هذا من جهة ومن جهة أخرى صار يعرّي الواقع الفاسد والظرف المتهالك والأخلاقية المنهارة. ولم يصرح عن ذلك بشكل واضح، ولكنه وهو المتمكن من لعبة المسرح قاله بشكل إيحائي خبأ حقائقه خلف السطور ولا اشك في قدرة العراقي على اكتشاف حقيقة هذه الإشارات السيمائية والتلميحات الرمزية حتى من القراءة الأولى لنص المسرحية. وسيزيد حجم المفاجأة عندما يعلمنا أن الهدف المركزي لهذا المشروع هو مكافحة العهر والدعارة، ومن الغريب أن يأتي الطهر من العهر على يدي شخصيتين أحالت الأولى نفسها على التقاعد وخططت لمشروع عمرها بطريقة جهنمية، وكادت الثانية أن تكون مروجة وداعمة له من وجهة نظر الأولى.
وفي سياق مناقشتهما لأمر المعهد والاستفسار عن كيفية الانتماء إليه تقول المرأة الثانية أن الانتماء للمعهد مجانيا فتجيبها الثانية: بجملة إيحائية إذ تقول: (كل الأشياء أصبحت مجانية)
وهذه حقيقة أخرى يطرحها العبادي ليشير من خلالها الى الواقع الذي لم يعد فيه لأي شيء ثمناً، وبهذه المناسبة نسأل عن زمن هذه الأحداث فالمؤلف لم يحدد للمسرحية زمناً مثلما حدد لها مكانا في أول صفحة من مسرحيته ذاكرا أن بيئة مسرحيته هي: (صالة في بيت فيها طاولة طعام تجلس فيها امرأتان تتحدثان فيما بينهما) وجاء تحديده للزمان من خلال الحوار الآتي:
المرأة الثانية: طيب أنا لدي فكرة أخرى لنشر الملصقات.
المرأة الأولى: ما هي؟
المرأة الثانية: ما رأيك أن ننشرها في مواقع التواصل الاجتماعي
والكل يعرف أن هذه المواقع دخلت إلينا مؤخراً عن طريق الشبكة العنكبوتية، وهذا دليل واضح على أن زمن الأحداث هو الزمن الراهن ضمن الواقع الذي نعيش تفاصيله ودماره الآن.
في المشهد الثاني تنتقل الشخصيتان الى مكان جديد (احدى قاعات المعهد) وعند الدخول تتوقف الأستاذة وتسأل (هل هذا واضح الآن) وبهذه الجملة تجنب العبادي الحوار الطويل الذي دار افتراضيا بين الأستاذة (المرأة الأولى) وبين المتدربة الوحيدة داخل القاعة (المرأة الثانية) قبل بداية المشهد بوقت سابق قصير على ما يبدو وفيه تعرية لحقيقة كل منهما فالأولى عاهرة راسخة في العهر والدعارة والثانية حاولت معها الأولى زجها في أتون مهنة استنكرتها ورفضتها بقوة محافظة على طهرها المزعوم ومن هنا يبدأ الخلاف واضحاً وعميقاً ومشيراً الى صراع متجدد، وخلاف شديد، وتناقض في الآراء، ومضاربة في الأفكار ينتهي بخروجهما من المعهد.
في الشهد الثالث ثمة عودة للمكان الأول لكن المرأة الأولى تجلس هذه المرة تحت الطاولة وتجلس الثانية فوقها وهذا التبدل أراد منه الكاتب أن يكون إشارة لتغير مواقع كلاً منهما بعد الصراع الذي احتد بينهما في المشهد السابق. وكما في المشهد السابق تقول المرأة الأولى جملة تكميلية استنتاجية هي:
المرأة الأولى: هذا ما حصلَ بالضبط.
وكأنها كانت تروي ما حدث في المشهدين السابقين ثم تؤكد على انه هو ما دار بينهما بالضبط. ومع كل التأكيدات الأخرى نكتشف أنها مصابة بمرض الزهايمر وان ذاكرتها لم تعد فعالة مثل أيامها الخوالي أيام العهر والدعارة، والانغماس في محترف البغاء. وبهذا يكون العبادي قد لعب على أكثر من طريقة فنية لتأويل أفكار المسرحية، وصناعة ما يمنحها مقبولية عالية، وانتقالات مبررة حسّنت جودة الأداء وارتقت به الى مصاف الإبداع المسرحي.
وأخيراً نستنتج من السياق العام، ودراستنا لكلا الشخصيتين مدى التشاخص (التفاوت) الفكري والدرامي بينهما (بين المرأة الأولى والمرأة الثانية) سواء من خلال تلقي الأولى حكم التوبيخ، وبراءة الثانية منه، أو من خلال امتهان الأولى البغاء، ورفض الثانية له والوقاية منه، أو من خلال سعي الأولى للإيقاع بالثانية في مستنقع الدعارة، وانفلات الثانية منه بالابتعاد عن حافة الهاوية إلى آخر ما سيستنتجه القارئ مما ورد في سياق تناولنا لمسرحية العبادي (أدب سيز)

النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech