أضواء جديدة على هيباتيا ضحية الفلسفة في الإسكندرية
23-أيلول-2023
أنطوان أبو زيد
يعيد كتاب "هيباتيا، حياة فيلسوفة قديمة وأسطورتها" للمؤرخ والكاتب إدوارد ج. واتس (دار كلمة للنشر، ترجمة صابر الحباشة 2023) إحياء النقاش حول فيلسوفة مصرية تدعى "هيباتيا" (355-415م)، ملأت أخبارها سجلات الفلسفة والكنيسة والمؤرخين للقرن الرابع الميلادي، وللأزمنة الوسيطة وصولاً إلى عصر الأنوار والحديث والمعاصر.
ولدت هيباتيا حوالى عام 355م، في مدينة الإسكندرية المصرية، إبان الحكم الروماني وفي ذروة تمدد إمبراطوريته الممتدة من وسط آسيا الصغرى، وإلى أوروبا عبر حوض البحر الأبيض المتوسط وبلدان الشرق المتاخمة لها. علماً أن مدينة الإسكندرية، على ما وصفه الكاتب واتس، كانت بمقام أثينا وروما توازيهما أهمية ونفوذاً وإشعاعاً ثقافياً. وكان والد هيباتيا فيلسوفاً بدوره يدعى ثيون، وكان يدرس العلوم المتاحة في زمنه، وأهمها؛ الرياضيات والفلك والفلسفة، ولا سيما الأفلاطونية منها. وكان أن تمثلت هيباتيا، منذ فتوتها، مكانة والدها، ودوره، وعزمت على أن ترسم سبيله في تعليم الرياضيات والفلسفة، حتى فاقته براعة في تعليم الشبان مبادئ الفلسفة الأفلاطونية والرياضيات المتقدمة. ولم تكتف بذلك، بل أنجزت أبحاثاً وتعليقات على "علم الحساب" لعالم الرياضيات ديوفانتوس الإسكندري، وعلى مصنف "المقاطع المخروطية" لأبلونيوس البرغاوي، وغيرهما، مما يوازي حصولها على الدرجة الأكاديمية العليا (الدكتوراه)، ولكن جل أبحاثها ضاعت بنسختها الحقيقية.
وبالاعتماد على آثار ثيون، والد هيباتيا، يتبين للباحث إدوارد واتس، أن الأخيرة كانت قد أسهمت في إعداد عشرة كتب من أصل ثلاثة عشر كتاباً في شرح كتاب "المجسطي" لبطليموس الإسكندري (100-168م) عالم الفلك والرياضيات والجغرافيا الشهير. وما يوازي علمها وبراعتها الفائقة في إقناع جمهور طلابها -وفي غالبيتهم ذكور-بصواب منطقها وعمق علمها، كان شخصيتها العصامية وحضورها الباهر اللذين خولاها أن تحظى بثقة مجتمع النخبة الحاكمة وعامة الناس المكونة من طوائف غير متجانسة أصلاً (اليهود، والمسيحيين، والوثنيين)، من دون أن تنحاز إلى جماعتها، الوثنية، أو توسل لها نفسها الانحراف إلى هذه الضعة.
وظيفتها ودورها
ولكن، رب سائل عن الصلة التي يمكن أن تجمع الفيلسوفة بالحاكم، بل الحكام المتعاقبين على سدة الملك في مدينة الإسكندرية؟ يجيب الكاتب واتس، بما مفاده أنه كان قد أُعطيَ الفلاسفة، في زمن "ثيون" والد هيباتيا، نوعاً من الوظائف الإدارية التي احتاجت إليها الإمبراطورية أو السلطة المدنية في كل مدينة، بعد تعاظم بنيتها الديموغرافية، ونزوح أعداد كبيرة من سكان الأرياف إلى الإسكندرية، للعمل في مرفئها الكبير، وبعد ازدحام المدينة بفئات متنافرة إيمانياً، مثل اليهود، والمسيحيين، والوثنيين، وطبقات ذات مصالح متضاربة. ولعل أهم عمل يقوم به هؤلاء الفلاسفة هو الإصغاء إلى مطالب الفئات المتنوعة المشار إليها أعلاه، ونقلها إلى الحكام باعتبارهم خير الوسطاء في المدينة بغية العمل على دوام الانتظام العام ونشر الأمان في صفوف الناس. إلى جانب النخب المكونة من زعماء الكنيسة والضباط العسكريين وأعضاء مجلس المدينة وغيرهم من الوجهاء فيها. ومنْ غير هيباتيا، المتفاعلة مع طلابها من الفئات كلها، أقدر على تولي هذه المهمة؟ وفي حين دأبت الإمبراطورية على اتباع سياسة التهديد والمكافأة حيال رعاياها بغية ضبطهم وحكمهم. إذاً، كان لهيباتيا وظيفة أساسية وهي تعليم الفلسفة والرياضيات، ومواصلة البحث والكتابة في فلسفة أفلاطون، وفي علم الفلك وغيرهما، وقد نالت من الأولى ما يعينها على العيش بكرامة. أما الوظيفة الثانية والرديفة، والتي تولتها طوعاً ومجاناً، فكانت إسداء المشورة للحاكم أوريستيس، في عز تضارب المصالح واضطراب حبل الأمن في البلاد، واشتداد التنافس بين أبناء المدينة، وأبناء الطائفة الواحدة، والمعتقد نفسه.
الجريمة والإشكال
ويروي الكتاب، الذي أعده إدوارد واتس نقلاً عن مصادر ومراجع كثيرة (230 مرجعاً)، الظروف التي أحاطت بمقتل الفيلسوفة هيباتيا، عام 415م؛ ومفادها أن تنافساً حاداً حصل بين مرشحين لمنصب رئيس كهنة (أسقف) لدى المسيحيين في الإسكندرية، وهما كيرلس وثيموثي، ونشب صراع عنيف بين الجماعتين انتهى بفوز كيرلس، مترافقاً مع اتهامات لهيباتيا بوقوفها إلى جانب الحاكم أوريستيس، وتحريضها الطرف المنافس (ثيموثي) على مواصلة النزاع والتسبب بالانقسام في الكنيسة. وفي هذه الأجواء، حدث أن انطلقت جماعة هائجة، بقيادة الراهب بطرس، قاصدة التعرض لهيباتيا، التي صودف وجودها في إحدى الساحات العامة، تعلم وتخاطب الناس. فما كان من الجموع إلا أن جردوها من ثيابها، ثم عمدوا إلى تقطيعها، ورمي أطرافها بالنار، عملاً بالعقاب الذي كان يناله السحرة والمشعوذون!
بالطبع، أثارت الجريمة المقززة استنكاراً واسعاً من قبل الكنيسة، في الإسكندرية وفي القسطنطينية، لكونها مست شخصية لطالما أثرت عنها الحكمة والرزانة، والعفاف، على رغم كونها وثنية، وكانت وسيطاً صالحاً لمختلف الفئات الدينية والاجتماعية في المدينة، ولكونها أيضاً خالفت إحدى أخطر الوصايا الأخلاقية في الكنيسة، وهي وجوب عدم القتل.
أياً يكن من أمر التضحية الكبرى التي ارتضته هيباتيا، فقد صارت "رمزاً لمجموعة من القضايا العادلة"(ص23)، وفيلسوفة موهوبة، وعنواناً لكل نضال تقوم به المرأة في العالم، وتحرز فيه اختراقاً للمحظور والتقاليد، والأعراف الظالمة، والمصالح القهارة، في عالمنا اليوم، وربما في الأزمنة الآتية. ويلحظ الكاتب، في هذا الشأن، أن هيباتيا التي أطبقت شهرتها الآفاق، في العالمين الشرقي والغربي، غطت على شهرة كيرلس باعتباره أحد اللاهوتيين البارزين في الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية والأقباط. وأحسب أنها لا تزال تمثل هذا التوق المديني إلى صوغ هذا التناغم البناء بين أبناء المدينة الكوزموبوليتية الواحدة، بعيداً عن التنافرات وحزازات الهويات القاتلة.
تنشئة هيباتيا المتسامحة
يحيط الكتاب الموسوعي لإدوارد واتس، بالكثير من الجوانب التي صنعت فرادة شخصية الفيلسوفة هيباتيا؛ ومنها طفولتها وتربيتها وتعليمها. إذ ينقل عن مؤرخين وباحثين أن ولادة هيباتيا من زواج فيلسوف يدعي ثيون، وزوجة لا تقل عنه مقاماً، كان أول خطوة في تربيتها لتكون فرداً فاعلاً في مجتمع النخبة. وعليه، تلقت الفتاة كل العلوم المتوافرة، في حينه، ولا سيما الفلسفة الأفلاطونية والرياضيات، والجغرافية والفلك، بدرجة أقل. وثابرت هيباتيا على تعلمها واكتسابها المعارف والكفايات حتى بلغت ما يوازي درجة الدكتوراه اليوم، بإعدادها رسائل بحثية في الفلسفة الأفلاطونية وفي شروحات كتاب المجسطي لبطليموس.
وفي هذا الشأن، كان للكاتب إطلالة على المكتبات الكبرى في الإسكندرية، حيث عشرات آلاف المخطوطات والكتب، وحيث أتيح لهيباتيا أن تتثقف وتزداد علماً وتبحراً من فلسفة أفلاطون، وأفلوطين وفرفوريوس وكتب الرياضيات المتقدمة وغيرها.
مثلما انطوى الكتاب على تفنيد ادعاء البعض بتعصب هيباتيا لوثنيتها، إذ دحض الكاتب هذا الزعم بإيراده أسماء الكثير من طلابها المسيحيين، أمثال الأرستقراطي سينيسيوس، وشقيقيه أوتروبيوس والإسكندر، والسفسطائي أثناسيوس، وأوليمبوس، وغيرهم ممن لا يتنافى معتقدهم، المفعم بالطوباوية، مع فلسفة أفلاطونية، تقوم على أشكال مجردة منبثقة من مثالات. وكان العديد من آباء الكنيسة قد وجدوا نقاطَ تلاقٍ عدة بين الأفلاطونية والمسيحية، لا سيما وأن كلتيهما تقوم على مثُل أو قيمٍ سامية مجردة. وكان من المعلوم أن الإسكندرية غدت، منذ عام 380م مدينة ذات غالبية مسيحية، إلى جانب أقلية يهودية فاعلة. ومع هذا ظلت الفلسفة، "جزءاً حيوياً من الميراث الثقافي" (ص83)، في الإسكندرية، مع بقاء الفلاسفة أكثر النخب تفكراً في واقع المدينة (إسكندرية)، وأقدرهم على توفير التواصل الفعال بين جميع فئات المدينة، تضمن عيشها بسلام، وتؤمن ازدهارها، وتعمل على نماء أفرادها بالمادة والروح. ولعل هذا ما أدركته الفيلسوفة هيباتيا، وحرصت على أن تجعل نفسها تقدمة كاملة لمدينتها الإسكندرية، فآثرت أن تبقى عزباء، بل عفيفة الجانب، حتى استشهادها، صوناً لنفسها من الرغائب والميول، عدوة الحكمة.
وههنا تجدر الإشارة إلى أن نشأة هيباتيا حصلت في خلال فترة أطلق عليها "السلام الصغير للمعابد" منتصف ثمانينيات القرن الرابع، حين فتحت المعابد الوثنية، طبعاً إلى جانب الكنائس المسيحية، والمعابد اليهودية. "وكانت فترة مواتية لتطور فلسفة غير طائفية تقدم طريقاً تأملياً للاتحاد مع الإله، من دون تحديد صريح للطابع المسيحي أو غير المسيحي لتلك القوة الإلهية". (ص99)
أسطورة هيباتيا
لم يندثر ذكر هيباتيا من سجلات التاريخ، بل تعداها إلى سجلات الأدب، والفنون، والجدالات الفكرية والفلسفية، وصولاً إلى القرن العشرين، وربما بعده. ففي القرن السابع عشر، وضع المفكر الإيرلندي جون تولاند (1670-1722) رسالة عن هيباتيا، في مقالات أربع تسمى تتراديموس (وعنوانها "قتل هيباتيا من قبل القيادة المسيحية"). وكذلك فعل الأديب الفرنسي فولتير (1694-1778)، إذ أشار إليها في معجمه الفلسفي عام 1722، مقارناً مقتلها، بمقتل السيدة داسييه - لو حصل- وقد انتهت لتوها من ترجمة الإلياذة عام 1699، لسبب بسيط هو تفضيل عملها على ترجمة بيت شعري لأحد الرهبان.
ولم يكد القرن التاسع عشر يهل حتى أقبل الكاتب الإنجليزي شارلز كينغسلي (1819-1875) يعد رواية عن هيباتيا تحقق مبيعات طيبة، زمن صدورها. وأخيراً، وليس آخراً، قيام صانع الأفلام أليخاندرو آمينابار بإخراج فيلم "أغورا" عام 2009، وهو مخصص بكامله لإيفاء فيلسوفة الإسكندرية الشهيدة حقها. ولئن ألمح الكاتب إلى أن الجدال حول حيثيات مقتل هيباتيا، والمسبب الرئيسي له، لا يزال مستمراً، وشديد الحمأة، بسبب يقظة العصبيات، وغلبتها على المشاعر العلمانية البانية فكرة الدولة والمدينة، فإن لموت هيباتيا أبعاداً رمزية تتخطى زمنيتها إلى آفاق تصنعها الكلمة الحرة من حرية الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، ومن كرامته المطلقة، وعلمه.