أعمال مجهولة تعيد الكاتب الإشكالي سيلين إلى الواجهة
28-آذار-2023
مارلين كنعان
بعد مرور 62 عاماً على وفاة مؤلف "رحلة إلى أعماق الليل"، لا يزال اسم الأديب والروائي الفرنسي لويس فرديناند #سيلين (1894-1961) يشغل الأوساط الثقافية الفرنسية، بأدبه وقضاياه الإشكالية ومواقفه السياسية. وتم العثور حديثاً على #مخطوطات روايات له غير منشورة، وهي كانت قد اختفت سنة 1944 في ظروف غامضة وسط الإرباكات التي رافقت نهاية الحرب العالمية الثانية، واستعجال الكاتب في إخلاء شقته في شارع جيراردون الباريسي هرباً من ملاحقة المتعاونين مع النازية، بعد نجاح الحلفاء في تحرير باريس. وقد عادت للظهور بأعجوبة بعد 77 عاماً من اختفائها. وأمكن التعرف عليها من مشابك الغسيل التي كان سيلين يجفف بواسطتها أوراقه عبر تعليقها على حبل غسيل.
تتألف هذه المخطوطات من ستة آلاف ورقة، يعد اكتشافها حدثاً لا مثيل له في التاريخ الأدبي. أولها رواية من 600 صفحة بعنوان "حرب" تحدثت عن أهوال الحرب العالمية الأولى، مكملة الثلاثية المؤلفة من "رحلة إلى أعماق الليل" و"الموت بالتقسيط"، أشهر روايات الطبيب الذي دخل عالم الأدب متأخراً. وثانيها رواية غير منشورة، تتناول إقامة سيلين في لندن عام 1915، فضلاً عن المخطوطة الكاملة لرواية "الموت بالتقسيط"، ورسائل تبادلها الأديب مع عديد من معاصريه، وغيرها من النصوص.
أعلن عن اكتشاف هذه المخطوطات في أغسطس (آب) عام 2021. ومنذ هذا التاريخ وعالم النشر الفرنسي والمتخصصون بأدب سيلين في حال من الاضطراب. وبغض النظر عن مضمون هذه الأوراق، فإن مسار هذه المسألة جدير بأن يروى، فقد كشف الصحافي والناقد السابق في صحيفة "ليبراسيون" جان-بيار تيبودا، وهو ليس من المهتمين بأدب سيلين، أنه حافظ على هذه المخطوطات، منذ أن عهدت إليه قبل 15 عاماً من أشخاص تربطهم بالذين سرقوا هذه الثروة الأدبية سنة 1944، صلة قربى. أثار هذا الإعلان غضب ورثة سيلين الشرعيين، وفتحت معركة قانونية حول هذه الأوراق التي تقدر قيمتها بملايين اليوروهات. وقد أعلن تيبودا أنه اعتنى بنسخ هذا الإرث الأدبي وفرزه وحفظه باهتمام كبير.
"حرب" السيرة الذاتية
صدرت رواية "حرب" التي كتبها سيلين سنة 1934 أي بعد عامين من نشر سيلين "رحلة إلى أعماق الليل"، لدى دار غاليمار في الخامس من مايو (أيار) سنة 2022 تحت إشراف باسكال فوشيه، الذي بذل جهداً كبيراً لإخراجها والتدقيق بمفرداتها، بخاصة أن سيلين كان يكثر من تشطيباته وإضافاته، ويعمد إلى اختصار كلماته المتأرجحة بين الفصحى والعامية على طريقة كتابة الوصفات الطبية. طبع من الرواية المؤلفة من 192 صفحة 80 ألف نسخة، وهي تعبر في مضمونها عن آثار الحرب المدمرة على الإنسان، نفسياً وجسدياً، وعكست نظرة الراوي المتشائمة للحياة. قدم لها المحامي المقرب من أرملة سيلين فرانسوا جيبو، وقد سعى في نصه إلى تبرئة المؤلف من تهمة معاداة السامية.
تتأرجح هذه الرواية غير المكتملة بين السيرة الذاتية والخيال. فيها يكتب سيلين قصة نقاهة العميد فرديناند باردامو، الذي أصيب بجروح خطرة على جبهة الفلاندر في خضم الحرب العظمى بعد أن استعاد وعيه، كاشفاً عن اختبار أساسي في حياته، تناول آثار الحرب البشعة على جسد الإنسان ونفسيته، ثم نشرت الدار العريقة عينها في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2022 الرواية الثانية غير المنشورة "لندن" التي تشكل تتمة الرواية الأولى.
أعادت الأحداث التي رافقت اكتشاف هاتين الروايتين وغيرهما من مؤلفات سيلين، التي تشبه الأفلام البوليسية، الاهتمام بسيرة هذا الطبيب الروائي وأدبه. فمن سيلين المعروف بمعاداته السامية ودعمه ألمانيا النازية وتردده على قادة حكومة فيشي أثناء الحرب العالمية الثانية؟
ولد لوي-فرديناند سيلين وهو الاسم المستعار للويس-فرديناند أوغست ديتوش عام 1894 في كوربوفوا إحدى ضواحي باريس، لعائلة متواضعة. ولعل شهرته تعود إلى رواية مؤلفة من 632 صفحة، لا تشبه في مبناها ومعناها، أي رواية أخرى، نشرها بين الحربين العالميتين. أحدثت هذه الرواية "رحلة إلى أعماق الليل"، التي لا تنضوي تحت لواء المدارس الأدبية الأكاديمية المعروفة بالأناقة والوضوح والدقة، ثورة في الأوساط الثقافية. فهي مغايرة في أسلوبها وفكرتها وسردها المتدفق، عما تواضع السائد عليه من قواعد روائية، لكن في خروجها عن المألوف في الأدب، وتوسلها لغة أقرب إلى اللغة المحكية، قلبت هذه الرواية الأدب الفرنسي رأساً على عقب.
كان والد سيلين الحاصل على إجازة في الآداب، الذي اعتبر أن الأدب لا جدوى منه، يعمل موظفاً بسيطاً في شركة تأمين. أما والدته فكانت تدير متجراً صغيراً لبيع الدانتيلا يقع بالقرب من منزل العائلة في باريس. وغالباً ما كانت هذه الأم تصطحب ابنها في فصل الصيف إلى شواطئ القنال الإنجليزي لبيع بضاعتها للمصطافين. لم يعكر صفو هذه الحياة الرتيبة سوى رحلة قام بها الشاب الصغير إلى إنجلترا لتعلم اللغة الإنجليزية. وقد روى سيلين في ما بعد تفاصيل هذه الرحلة والطفولة والمراهقة في "الموت بالتقسيط". في هذه الرواية أيضاً أخبر الكاتب عن تجربته المضنية في إيجاد أعمال بسيطة مارسها في فترة المراهقة. عند حصوله على البكالوريا - قسم أول سنة 1912، تطوع الشاب في الجيش الفرنسي. غير أن الحرب التي اندلعت بعيد ذلك، جعلت منه بطلاً لقيامه بمهمة محفوفة بالمخاطر، أصيب من جرائها بإصابة خطرة في الرأس، نال على أثرها وسام الحرب وميدالية عسكرية. وقد روى في "رحلة إلى أعماق الليل" أحداث الحرب القذرة مظهراً بشاعتها ووحشيتها.
بعد إصابته، نقل الجندي إلى إنجلترا للخدمة في مصنع أسلحة، وأرسل في مهمة إلى الكاميرون قبل أن يعود مجدداً إلى العاصمة الإنجليزية. هناك تابع سيلين دراسته على نفسه للحصول على شهادة البكالوريا التي اجتازها بنجاح. فانتقل إلى مدينة رين حيث بدأ بدراسة الطب سنة 1918، وقد استمرت الدراسة لفترة تجاوزت الست سنوات. في هذه المرحلة من حياته، تعرف سيلين بفضل شغفه بالرقص والموسيقى، على زوجته، إديث فوللي ابنة مدير كلية الطب التي أنجب منها ابنته الوحيدة كوليت ديتوش عام 1920. يذكر أن الأطروحة التي قدمها لنيل شهادة الدكتوراه حظيت باهتمام اللجنة الفاحصة بفضل مهاراته الكتابية. وقبل أن يغادر إلى جنيف حيث تم تعيينه طبيباً من لدن عصبة الأمم، سافر الشاب كما أشرنا في بعثات طبية إلى أفريقيا حيث تعرف على مآسيها، وسافر أيضاً إلى الولايات المتحدة الأميركية. عندما عاد إلى فرنسا، مارس سيلين الطب في ضواحي باريس إلى أن نشر روايته الأولى "رحلة إلى أعماق الليل" سنة 1932، ثم أتبعها بنشر رواية "الموت بالتقسيط" سنة 1936. بين الأعوام 1944 و1951، عاش سيلين في المنفى، وتحديداً في ألمانيا والدنمارك، ثم ما لبث أن عاد إلى فرنسا ليستقر في مودون، حيث انكب على كتابة روايات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر "من قصر إلى آخر"، "شمال"، "ريغودون" وغيرها، فضلاً عن استمراره في ممارسة الطب وعلاج الفقراء.
وفي عودة إلى صفحات المخطوطات غير المنشورة، يقع الباحث إلى جانب الروايات التي أشرنا إليها، على قصة مستلهمة من العصور الوسطى وهي بعنوان "مشيئة الملك كروغولد".
بين الأعوام 1944 و1951، عاش سيلين في المنفى، وتحديداً في ألمانيا والدنمارك، ثم ما لبث أن عاد إلى فرنسا ليستقر في مودون، حيث انكب على كتابة روايات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر "من قصر إلى آخر"، "شمال"، "ريغودون" وغيرها، فضلاً عن استمراره في ممارسة الطب وعلاج الفقراء.
وفي عودة إلى صفحات المخطوطات غير المنشورة، يقع الباحث إلى جانب الروايات التي أشرنا إليها، على قصة مستلهمة من العصور الوسطى وهي بعنوان "مشيئة الملك كروغولد".
رافق صدور هاتين الروايتين تغطية إعلامية كبرى وتناولت عديد من المقالات التي نشرت في الصحافة الأدبية الفرنسية والعالمية، هذين الإصدارين بكثير من المديح والثناء، وصل إلى حد اعتبارهما تحفة أدبية. غير أن مقالة أنطوان بيرو المنشورة على منصة "ميديابارت" كانت أكثر انتقاداً، إذ نظرت إلى رواية "حرب" بوصفها مسودة غير مكتملة، وتحدثت عن ضعف مقدمة فرنسوا جيبو وخيبة أمل الصحافي من دار النشر التي استعجلت في إصدار المسودتين.