أقنعة نابليون في رواية نشأت المصري «بونابرته»
30-كانون الأول-2023

صباح الأنباري
من التاريخ ومن دراستنا لصفحاته الحمراء الدامية عرفنا وحفظنا اسم نابليون بونابرت ولم نعرف حينها أن اسمه الأصلي هو (نابليوني دي بونابرته) وباسمه وسمت الرواية الجديدة للكاتب العربي القدير نشأت المصري (بونابرته) وهنا يطرح السؤال نفسه لماذا بونابرته تحديداً؟
وفي رأينا أن هذه الشخصية الإشكالية تثير كماً هائلاً من الاستفسارات الملحّة نظراً لشيوع صيتها، وهيمنتها على خارطة العالم، وتبوؤها مكانة عظيمة في الحياة السياسية والعسكرية، وتحقيقها انتصارات كبيرة وكثيرة، وهي لم تناهز الثلاثين بعد.
أما لماذا استخدم الكاتب اسم بونابرته بدلا من اسمه الشائع المعروف بونابرت فذلك ليضع أمام القارئ مباشرة شخصية موغلة في التزييف، والتلاعب الحر بمصائر الشعوب، وقدرتها على إخفاء الحقائق، والرقص البارع على حبال الديماغوغيا وارتداء الأقنعة.
وما يهمنا في رواية المصري نشأت هو انشغال هذه الشخصية بغزو مصر الذي اعتبر من أولويات السيطرة الكلية أو الجزئية على الشرق الأدنى. ومن خلال هذا الغزو اتضحت لنا معالم وميزات هذه الشخصية المدعمة بالوثائق التاريخية وان اشتغل المصري على وضعها ضمن إطار أدبي أتاح له حرية اللعب على مساحة الرواية، وحرية التخييل المبني على تلك الوثائق. ومع إقرارنا بهذه الصفات التي تميزت بها هذه الشخصية لا ننكر ما تمتعت به من ذكاء مفرط، وخبث هائل. فقد درست التاريخ وأنارت عقلها بما قدمه العلماء من علوم للبشرية فلم تقدم على غزو إلا وقد درست كل جوانبه السلبية والإيجابية، ومعرفة الإجابة الشافية الوافية لما سيؤول عليه وضعها في حالتي النصر والهزيمة.
تقول هذه الشخصية القيادية لبرتييه وهو واحد من ضباطها:
(ــ اسمعني جيدًا، لنتذكر معًا ما قرأناه في التاريخ، وفي تقارير جواسيسنا، وما سطره مائة عالم فرنسي في وصف مصر؛ أن مصر ثلاث فئات؛ الأولى المماليك، ومعظمهم ليسوا من المصريين، وهم يملكون القوة والسلاح، أمامنا أمران، أن نستقطب الخائن منهم؛ فينضم إلينا، ثم نقتل الآخرين، ثانيًا الشعب، وهم عبيد يمجدون أسيادهم. ثالثًا المشايخ والفاهمون، وهم قلة ثورية يجب أن نتخلص منهم أولًا بأول أو نستخدم المنافقين منهم لتخدير الشعب. واليوم نرسل إلى حاكم المدينة رسولًا بخطاب مخادع منا، وفي الوقت نفسه، ننزل قواتنا في منطقة العجمي، سنبدأ من هنا، وعليك أن تلتقي قنصل فرنسا.)
في هذه الفقرة وضعت متعمداً ثلاث عبارات بالبونط ((Font العريض ليركّز القارئ عليها كأساس مهمين من أسس السياسة الكولونيالية التي اتبعتها شخصية بونابرت بشكل خاص وأترابه من المستعمرين بشكل عام. حتى وصل به الأمر الى حد إعلان إسلامه المزيف الذي سيكون وقعه على المسلمين طربياً وتأـثيره على أذهانهم مباشراً وبعد انتصاره في غزوته تلك قال لولا أن الإسلام حرم الخمر والنساء لأصبحت أول من يعلن إسلامه على الملأ.
نابليون إذن ارتدى قناع الإسلام قبل انتصاره، وخلعه بعد انتصاره وهو العارف أن الشعب المسلم الذي يغزوه في حقيقته ليس إلا شعباً من العبيد الذين يستمرئون تمجيد أسيادهم وما اسهل نقل العبودية في حالة كهذه من سيد الى آخر (من المماليك الى الفرنسيين) ولعل اكبر الأقنعة التي ارتدتها هذه الشخصية الإشكالية قناع الديماغوجيا، وقد وضح لنا هذا من خلال المنشور السياسي الذي كتبه بونابرته وأمر بتوزيعه على الشعب المصري وابتدأ فيه بالبسملة -على طريقة المسلمين- والتوحيد لله دون شريك وضمنه بالقول: (إنني أكثر من المماليك اعبده سبحانه وتعالى واحترم نبيه والقرآن العظيم) لقد فعل كل ما عليه فعله ليتم الغزوة بشكل سلس ودون أن تكلفه المزيد من القوات التي يروم الاحتفاظ بها لغزوات مقبلة. فهو لا يفعل شيئا إلا بعد دراسته يقول في الرواية: (لا أفعل شيئًا دون دراسةٍ لكلّ خطوة كما يقول العلم، وأعرف أننا ننتصر بالعلم قبل القوة العسكرية) ولا بد لي أن أشير الى دور المصري ككاتب حر يوجه نقدا بنّاءً للمصريين والعرب على حد سواء في جملة هي في ظاهرها مدح لبونابرت وفي باطنها توعية عميقة للعرب الذين لا يعملون حتى الساعة بطريقة علمية تضمن لهم النصر في معاركهم وفي الحياة. وعلى الجانب الآخر ارتدى نابليون قناع البطل المحرر (المخلص) كما جاء في الرواية: (جئنا لنحميهم من ظلم الخليفة العثماني، وسطوة المماليك) وما أشبه الأقنعة بين الفرنسيين والإنكليز الذين ادعوا أنهم جاءوا (محررين لا فاتحين) فالمبدأ واحد وإن اختلفت العبارة. وفي رسالة نابليون لأهل مصر جاء فيها ما أكد ادعاءنا حين أمر أهل مصر - في منشوره_ أن يقولوا: (للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضًا لهم إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط) هل شهد التاريخ قبل بونابرت خداعاً أكثر من هذا، وكذباً أقوى منه، وتزييفاً بلا حدود؟ وأقنعة رياء أعتم من هذه الأقنعة؟!
إذن هذه هي شخصية نابليون بما لها وما عليها فما ميزة الشخصية التي تقف على الطرف النقيض، واشتغلت الرواية على زجها في الصراع المدمر؟
إنها شخصية المواطن المصري الذي لا حول له ولا قوة بعد أن كبّلته سلطة المماليك وسطوتهم بقيود النهب والسلب. ولعل أبرز تلك الشخصيات شخصية محمد كريم الذي قرأ منشور نابليون بونابرت وأعلن عن انتهاء المقابلة بينه وبين مبعوثي نابليون، ثم طلب دعماً عسكرياً مشكوكاً به من المقاتلين المماليك وتأخر الدعم منهم وهو أمر لم يكن خارج المتوقع من قادة الحكومة وجلّهم من الغزاة المماليك. يقول محمد كريم لمصطفى الخادم بشكل واقعي:
(أنت أقرب الناس إلى عقلي، وطريقنا واحد، ودانات نابليون تدق قلبي، وأرواح الناس معلقة بنا، المدد الذي أرسلته القاهرة لا يكفي، سلاحنا متخلف عن سلاحهم، وأنا لا أثق في دفاع المماليك عن مصر)
وهذا كلام منطقي وان كان يحط من قدر المعنويات. والسؤال الآن لماذا هذا التباين الرهيب بين القوتين أو الشخصيتين؟ والجواب هو الاحتلال طبعاً فالثروات مسروقة لصالح الغزاة وهم لا يأبهون بتقوية الدفاعات المصرية وهي أصلا لا تهمهم لا من قريب ولا من بعيد، ولكل هذه العوامل سيتقدم جيش نابليون محققاً النصر تلو النصر، وسيلحق الهزيمة بالمصريين هزيمة تلو أخرى أمام جيشه الجرار، وهو الذي يعرف حق المعرفة علة العرب وإدمانهم على حب التفرق يقول واصفاً: (هؤلاء المصريون الرعاع لا يتعلمون، فلو أن أهل هذا الشارع، والشارع المجاور احتشدوا في وقت واحد، أمامنا، لقتلنا الفزع قبل أن نضغط على الزناد، لكنهم يدمنون التفرق، هنيئا لنا بكم، أيها الجهلة)
شخصية المصري (محمد كريم) لم يتم التعامل معها في الرواية بحسب انتمائها المحلي، بل برمزيتها التي تتجاوز المحلية الى الوطنية (الوطن العربي) لتكون بديلاً للعرب في محنتهم العامة هي كما شخصية عمر المختار على سبيل المثال لا الحصر، وكلاهما كانا على قدر عال من الوعي الثوري والأصالة والعراقة. ولنقرأ كيف تم تقييمه من جانب الأعداء في الحوار الآتي:
(- لقد تحدثنا طويلًا عن طبائع المصريين يا قائدنا الأعلى، المصريون قابلون للترويض، كالحمير تمامًا، ونستثني العلماء والمتعلمين إلا إذا تمت رشوتهم)
- ــ وماذا عن محمد كريم؟
ــ من المستحيل أن نرشوه رغم أنه كان قبانيًا فقيرًا، ولهذا يجب ألا يغيب عن عيون جواسيسنا.
ــ نعم، سألاعبه على المكشوف، المهم أن نقبض عليه أولًا. لنتفرغ لغزو القاهرة خلال أيام)
وتستمر الحملة الشرسة ويستمر معها مسلسل القتل والدمار وإراقة الدماء الزكية. ومن خلال عبارات مقتضبة وعميقة في آن واحد استطاع نشأت المصري من تعرية الجانب المصري ليس بالحديث على لسان المصريين، بل على لسان الأعداء البونابرتيين ولنفحص بعض ما جاء فيها:
1. مسكين هذا الشعب الذي سلم أمره لحاكم غير مصري أو خائن يحكمهم بالنار.
2. دولة لا تطور سلاحها لا تستحق الحياة.
3. ما أسهل السيطرة على الناس بالترغيب أو بالتخويف.
4. قل للناس أننا سلميون، وأنني دخلت الإسلام، وأننا سننقل لهم العلوم، وسنخلصهم من المماليك.
5. أكثروا من توزيع منشور السلام والمحبة، فهناك من الأغبياء من يصدقون تلك الأكاذيب.
إن كلّ جملة من هذه الجمل الخمس تشي بنوع مختلف من الأقنعة البونابرتية. وهي تتراوح بين ادعاء الرحمة والأسف على ما جرى للمصريين على أيدي حكامهم الخونة، وعلى عدم تطوير القدرات التسليحية للشعب المسكين - على حد وصف العدو- وعلى مبدأ الترغيب والترهيب كأداة للسيطرة والنفوذ، وادعاء ما يحب المسلم أن يسمعه من المحتل الغاشم لتطيب به نفسه المضطربة. وفي رأيي أن هذه هي أفضل ما أبدعه الكاتب المصري في جعل قارئه يستلهم العبر من أزمانه الغابرة، ومن ذاكرته الجمعية الحاضرة مما جاء على لسان عدوه الغاشم، فالعدو يتحدث عن الأفعال لا الأقوال وهذا هو المهم لحركات التحرر العربية في الماضي والحاضر. تأمل في هذه الجملة التي وردت على لسان برتييه إذ قال: لقد قتلوا واحدا من عساكرنا فرد عليه نابليون ببرود قائلاً: ونحن قتلنا تاريخهم كلّه. وفي هذا إشارة واضحة لِكُنْهِ الاستعمار الجديد (الاستعمار الثقافي) الذي يستهدف محو تاريخ الشعوب، وتصدير الثقافة الكولنيالية (Colonialis) الى المستعمرات الجديدة أملاً في أن يحكموا تلك المستعمرات آلاف السنين أو الى أن تنفد ثرواتها. وعودة سريعة الى القناع الديني الذي أكد عليه الأستاذ نشأت المصري مراراً في روايته نقتطف ما قاله نابليون تحديدا: (سيكون الإسلام مطيتي إليكم. ستسعدون بنابليون فرعونكم القادم). وفي موضوع البطولة قال قولا حكيماً:
(لو أن من أبناء مصر مائة شخص مثل كريم لرحلنا عن مصر خلال يوم واحد) واستدرك قائلاً (لا يكفي أن يكون الحاكم بطلاً، المهم أن يكون الشعب هو البطل) وهكذا لن يترك نابليون صغيرة وكبيرة لإنجاح حملته إلا وقام بها أنه الأنموذج المتطور للمستعمر الجديد الذي عرف كيف يوقع بين أبناء الشعب الواحد وكيف يفرق بين المسلمين وبينهم وبين المسيحيين وبالمختصر المفيد كان أفضل من طبق القاعدة الاستعمارية المثلى (فرق تسد).
هذه هي أقنعه نابليون المختلفة وهي تغطي وراءها وجها دموياً امتهن الحرب، وعشق اغتصاب النساء، وجن جنونه بانتصاراته المتلاحقة حتى صارت الحرب له لعبة يلعبها متى ما طلب تلهية أو ترفيهاً أو مشاهدة جالبة للمتعة واللذة.
رواية المصري نشأت (بونابرته) كانت قصيرة كقصر نابليون نفسه، لكنها في المقابل كانت طويلة كطول نهر الدم المصري المراق في ذلك الزمان، بل في كل الأزمنة الغابرة، وهو نفس الدم العربي الذي - يا للأسف الشديد- لا يزال ينزف حتى يومنا هذا. وهو نقطة الاتصال التكميلية بين ما حدث ويحدث، وهمزة الوصل بين أحداث الرواية الدامية، وبين راهننا الفاجع.

النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech