أندريا بوتشيلي يكتب سيرته بنور صوته البديع
6-آذار-2023
أنطوان أبو زيد
نادرة هي السيَر الذاتية التي كتبها الفنانون، ولا سيما المغنّون العالميون الذين نالوا شهرة واسعة، ما دامت سيَرهم على كل شفة ولسان، وما دام الكتّاب الآخرون يعدّون سيَرهم، ويتقصّون خباياها، ويؤرّخون لمراحلها، ويرسمون خطّ الذروة والانحدار لأبطالها والبطلات.
ومع ذلك، فإنّ الرواية السيرة الذاتية للمغنّي الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلّي، بعنوان "موسيقى الصمت"، والصادرة حديثاً عن دار المدى، مترجمة إلى العربية بقلم دلال نصرالله ، قد تؤشّر على مسار جديد يسلكه الفنانون ومنهم المغنّون في التعبير عن أنفسهم، وفي وعي ذواتهم وسرد وقائع حياتهم على النحو الذي يرتاحون إليه. وقد يكون هذا السرد السير ذاتيّ أدباً. ولمَ لا؟ والمهمّ في ذلك أنّ الفنّان، حالما يتحوّل إلى كاتب، يعمل على اختيار التفاصيل التي تجلي ملامح أسطورة ذاته الأثيرة، على حساب الواقع الحقيقي والسيرة الكاملة غير الانتقائية.
الجديد في الرواية السير ذاتية التي كتبها المغنّي والمنشد الإيطالي أندريا بوتشيلّي، والذي نال شهرة عالمية لم يحظَ بها مغنّ أوبرالي قبله، مما سوف يأتي تفصيله بمتن العمل الروائي، أنّ الكاتب قصد إلى تنبيه القارئ من مداورته الأسلوبية الطفيفة؛ إذ جعل الراوي العليم يحلّ بديلاً عن الراوي الحقيقي، أي الكاتب والمغنّي نفسه بوتشيلّي، وقد أردف هذا التبديل بآخر، حين جعل له اسماً آخر، آموس باردي، واستتبع ذلك تعديل بأسماء كلّ من كانت له صلة بمحور الأحداث الوحيد، عنيتُ آموس، من الوالدين والأقارب وأساتذة الغناء، والفتيات اللواتي عرفهنّ في فتوّته وشبابه، والمرأة التي تزوّج بها، وأنجب منها ولدين، غمرا حياته بالفرح والأمل.
ولئن وجد القارئ، العارف بتاريخ الشخصية الحقيقي أي بوتشيلّي المغنّي ذي الشهرة العالمية، العديد من نقاط التشابه بين شخصية آموس المبتكرة وشخصية أندريا الحقيقية، فإنّ الوقائع المسرودة في السيرة الذاتية هذه، تكاد تختصر كثيراً تجارب الفنان الغرامية الحقيقية، وتقتصرها على مرحلة الفتوة والشباب الأولى، في حين أنّ زيجات الفنّان الثلاث التي لا تخفى أخبارها عن وسائل الإعلام، وما رافقها وتلاها، تدلّ على رغبة بوتشيلّي في صوغ أسطورة لذاته منقولة جزئياً عن حياته الحقيقية. بالتالي، يصير من اللازم اعتبار هذه الرواية السير ذاتية متخيّلة جزئياً، ودالّة جزئياً على الفنّان.
إذاً، تحكي الرواية، بفصولها السبعة والثلاثين مراحل من حياة الفنّان، بدءاً من طفولته الأولى، وهو المولود في مدينة لاجاتيكو من مقاطعة توسكانا عام 1958، وكيف أنّ آموس كان شغوفاً بالموسيقى منذ أن كان طفلاً بعمر السادسة، عازفاً على البيانو، ثمّ على الناي، والساكسوفون، وغيرها. وليس هذا فحسب، بل تفرّد آموس عن سائر مجايليه وإخوته، بأن كان له صوتٌ رخيم، بل ساحر، يؤدّي به العديد من الأغاني الإيطالية التراثية، والدينية على السواء، حتّى ذاع صيته بين الناس ولم يبلغ بعد السابعة.
ولكنّ تفصيلاً صغيراً، حقيقياً في كلتا الصيغتين، عنيتُ اعتلال آموس في عينيه، ومن ثمّ عماه شبه الكلّي المبكر، سوف يرسمان للطفل مصيراً مختلفاً عن سائر إخوته وأقرانه؛ وها هو يرسله أبواه إلى مدرسة داخلية خاصة بالمكفوفين، عام 1963، من أجل أن يتعلّم مبادئ الكتابة على طريقة برايل، وهي السبيل الوحيد المتبقي له ليتقن القراءة والكتابة ويتابع تعليمه. وبالطبع لم يكن هذا الأمر ليحدث من دون شعور الأهل بغصّة الافتراق عن ولدهم، وشعور الابن بالانسلاخ عن رباطه العاطفي الوحيد في الدنيا. ولكنّ سوء أحوال المدرسة الداخلية حملت الأهل على إخراجه منها، وتكليف الآنسة غامبريني، المكفوفة بدورها، بتدريسه والعناية به، في مدرستها المنفتحة على النشاطات والرحلات في الطبيعة، وتعلّم مبادئ الحساب والجغرافيا وغيرها. والواقع أنّ هذا النوع من التعليم النشط، المستوحى من نظريات مونتسوري، ومرغريت ميد، وغيرهما كان كفيلاً بالكشف عن ملَكات الصغار المكفوفين، ومنهم آموس، الذي سطعت موهبة الغناء عنده لدى تكليفه إنشاد الترانيم المخصصة بمريم العذراء.
ويتابع الراوي العليم حكاية أيام طفولته وفتوّته، وكيف أنّ آموس صار المغنّي الصغير، في عيون الأهل والمقرّبين، من دون أن تخفّ شقاوته، وتهدأ مغامراته، سواء أكان راكباً على الفرس القزمة ستيلا أو متنزّهاً في الطبيعة، مع صحبه الصغار من جيرانه والأقارب.
مسار حياة
لم تنقضِ أيام المدارس الداخلية للفتى آموس، إلاّ وقد بلغ العاشرة، يتابع في إحداها تحصيله العلمي، إلى جانب تمايزه في الغناء، ورسوخه فيه إلى درجة بات غناؤه مستحسناً ومطلوباً في الأعراس والمناسبات الاحتفالية. وكان يجري ذلك كلّه على حساب تحصيله العلمي. ولكنّ عودة آموس إلى حضن أهليه، ومغادرته المدارس الداخلية على محاسنها، حفّزتاه من جديد على المضيّ في مغامرة الغناء، واكتساب المزيد من المهارات مثل السباحة والركض، ولعب كرة القدم وتعلّم الجغرافيا. إلاّ أنّ حادثاً بسيطاً، أعني تلقي آموس ضربة الكرة على عينه اليمنى، كان كفيلاً بإلحاق الضرر بالعين حتّى انطفائها؛ فتحوّل بذلك من فاقد للبصر جزئياً إلى كفيف على نحو تامّ. ومن ثمّ يواصل الراوي العليم – وهو أندريا بوتشيلّي نفسه- إخبارنا، نحن القرّاء، كيف أمكنه أن يتجاوز النكسة الوجدانية والنفسية التي ألمّت به حال فقدانه الكلّي للبصر، وكيف انضمّ إلى الكونسرفاتوار الإيطالي للطلبة المكفوفين، وكيف توالى تحدّيه حال العمى، وتحقيقه الانتصارات، ونيله الجوائز، ولا سيما جائزة مارغريتا الذهبية، وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره. وقد ظلّ على هذا النحو من تحدّي الذات والتمرّس بالغناء الأوبرالي والحرّ إلى جانب تقدّمه العلمي، وصولاً إلى نيله الدكتوراه في الحقوق الكنسية، في أواخر العشرينيات من عمره.
ولا تكاد تكتمل السيرة إلاّ بإلقاء الضوء على مغامرات الفتى، ثم الشاب آموس العاطفية؛ فعلى مدار الفصول العشرين الباقية (17-37) يتناوب على الظهور محوران؛ مغامراته الغرامية وزواجه من إلينا، وولادة ابنيهما وانجذابه إلى شابة تدعى فانيسا وزواجه (الثاني) منها إلى حين كتابته السيرة. أما المحور الثاني فسعيه الحثيث إلى تجويد غنائه، جوهرته الفريدة، وصعود نجمه الغنائي وصولاً إلى ذروة أدائه من خلال مشاركته الغناء مع التينور العالمي بافاروتي، وحيازته أرقى جائزة في إيطاليا للغناء المنفرد، وانتهاء بتحقيق شهرة عالمية، من آثاره مبيع أسطواناته بالملايين، وملاحقة الإعلاميين له.
ربما لا تكاد سيرة أندريا بوتشيلّي، أو أموس باردي كما أرادها كاتبها، تختلف كثيراً عن سابقاتها لدى سائر الكتّاب، مفكّرين كانوا أو أدباء أو فنّانين أو غيرهم. إلاّ في شرط البصر، أو انعدامه، والذي يتيح للمرء استغلال مرئياته، وذكرياته، وهذه الأخيرة كانت عامرة وسيّالة لدى بوتشيلّي، وانتقائية في الآن نفسه. ومع ذلك، يعتبر أندريا بوتشيلّي عبقرية غنائية فذّة، زاوج بين الأوبرا وموسيقى البوب، وأسهم في تقريب الموسيقى الكلاسيكية من العامة، ورفع الذائقة الفنية إلى مستويات غير مسبوقة، وسط موجات الغناء الهابط في العالم.
للمغنّي بوتشيلّي الكثير من الأغاني التي يسمو فيها أداءً وألحاناً حتى لتخلب الألباب، ويتواتر المغنون على محاكاتها في أقطار العالم. ومن تلك الأعمال ألبومات مصوّرة له: البحر الهادئ، وبوتشيلّي، وفيردي، ومشاعر، وحب، وميلادي أنا، وسينما، وصدّقني. كما أنّ له العديد من التسجيلات لأوبرات كان فيها المغنّي الأبرز، من مثل: البوهيمية، وتوسكا، وأندريا شينيه، ومانون ليسكو، وعايدا.ومن الألبومات المصوّرة بالفيديو له: الأوبرا، ونوطة من توسكانا، والأرض المقدّسة، وسماء توسكانا، وفيفيري، وغيرها.