سامر محمد اسماعيل
كسر فيلم "أيام الرصاص" أعوام العزلة الطويلة عن إنتاجات المؤسسة العامة للسينما، فمنذ الثامن من أغسطس (آب) الماضي، نجحت مؤسسة "رواد ميديا للترويج" بإطلاق عروض الشريط الروائي الطويل كأول فيلم يعرض في تاريخ السينما السورية داخل صالات السعودية. الفيلم الذي أخرجه وكتبه الفنان أيمن زيدان بالتعاون مع السيناريست أحمد عدرا، تدور أحداثه حول شخصية محقق يحال إلى التقاعد بعد أن ترفض السلطات طلبه بتمديد خدماته، مما يترك أثراً لا يمحى في نفسه، ويدفعه إلى التعويض عن ذلك بالادعاء بقتل كل من ابنته الصغرى سلوى (دلع نادر) وعشيقها المفترض أحمد السعيد (عبدالفتاح مزين). ومع أننا نعرف فيما بعد أنه ليس هو القاتل، إلا أن أبا جمال (أيمن زيدان) يفضل أن يتحمل وزر جريمة الشرف التي يدعي أنه غسل بها عاراً لحق به بعد هرب ابنته من عريسها (يامن سليمان) في ليلة زفافهما.
لا يؤخر الفيلم الحادثة الرئيسة، بل ينطلق منها على الفور عبر مشهد افتتاحي عريض وباذخ بصرياً. رجل في العقد السادس من العمر يرمي مقذوف طلقات مسدسه الحربي نحو مياه بحيرة مترامية الأطراف، ثم يهم بركوب سيارته مغادراً المكان. بعدها تبدأ استادات عدة لخيوط القصة عبر لعبة مونتاجية لافتة (علي المؤذن). لعبة ستكشف قُدماً وتوضح العلاقات الموجودة بين شخصيات الفيلم، بدءاً مما هو مرئي من وقائع تطفو على السطح، وانتهاءً بكل ما هو مخفي من أحداث في العمق.
يقدم الشريط عائلتين تعيشان في قرية على طرفي نقيض. السلطة والثروة. الأولى هي عائلة أبي جمال المحقق المتقاعد الذي أشرنا إليه، وهو أب لأربع بنات يعولهم ويعول معهم زوجة ابنه الأرملة (كريس الأحمر) وطفلها الصغير جواد (الطفل ألكسندر سلوم). ونعلم من تقدم أحداث الفيلم أن الابن الوحيد للمحقق هو الضابط الذي قضى في تفجير إرهابي. العائلة الثانية هي عائلة التاجر أو رجل الأعمال أحمد السعيد الذي يعيش هو الآخر خيبة أمل جسيمة بعدما أوكل لابنه المستهتر مؤيد (حازم زيدان) إدارة شؤون عقاراته وثروته الطائلة. يعيش كل من الأب وابنه صراعاً خفياً يتبادلان فيه أدوار الضحية والجلاد، فيما تقف الطبيبة (لمى بدور) موقف الحائرة بين أبيها وأخيها الأهوج. فالأب المدمن على سماع أسطوانات الموسيقى الكلاسيكية في بيته الريفي المعزول، يلقى مصيراً مأسوياً هو الآخر على يد ابنه بعد إغراق زعيم عصابة من المافيا (جود سعيد) للشاب الغِر في أجواء القصف واللهو والإدمان على الكحول وتناول المهدئات، مما يقود الفتى الطائش في نهاية المطاف إلى إطلاق النار على والده والعروس الهاربة التي التجأت إليه تحت تأثير جرعة زائدة من المخدرات.
ولعل قصة العائلتين تذكر بأشهر مسرحيتين للكاتب فيديريكو غاراثيا لوركا (1898- 1936)، وهما مسرحيتا "بيت برناردا ألبا" و"عرس الدم"، إذ تحضر إلى الذهن شخصيات الفيلم وكأنها مقتبسة بتصرف من تراجيديات الريف الإسباني. وهذه إشارة ربما أرادها المخرج عن أجواء القمع التي تسود منزل الأب المحقق، وهو هنا المعادل لشخصية الأم المتسلطة (برناردا) في النص الإسباني. فما وصلت إليه بنات المحقق وزوجة ابنه المتوفى من صراع مع رغباتهن الدفينة في إقاماتهن الجبرية، كان بسبب تعاليمه الصارمة، والتقاليد التي تحبس عليهن أنفاسهن، وتمنعهن من تقرير مصيرهن، والاقتران بمن يحببن. تماماً كما هي الحال مع شخصية العروس الهاربة بطلة مسرحية "عرس الدم". إذ تنتهي هي الأُخرى إلى مصير أكثر عنفاً بعد أن يقضي حبيبها ليوناردو في خلاف مع عريسها الذي هربت منه ليلة العرس، على خلفية صراع على ملكية أرض بين عائلتين في الريف الأندلسي.
وإن كان التشابه وارداً بين مآسي الريفين الإسباني والسوري، إلا أن مخرج "أيام الرصاص" ابتعد عن مطابقة تامة لأحداث فيلمه مع أحداث مسرحيتي لوركا، عبر توظيف مدهش لفن المونتاج. فتمكن من خلال تقنية التناقض المعروفة إبراز مفارقات عدة، كما هي الحال مع مشهد العرس الذي جعله يتصادم مع مشهد اعتقال شحود (حسام سلامة)، أو عبر أسلوب المونتاج المتوازي في دمجه بين مشهدين لحدثين متداخلين يجريان في الوقت نفسه، من مثل مشهد الحفلة الغنائية في مسرح المركز الثقافي الذي تزامن مع مشهد قتل شحود لوليد مدير العمال (قصي قدسية) في مستودع المسرح المهجور، وذلك بعد أن يكتشف الشاب البهلول أن حبيبته سلمى (سالي أحمد) حامل سِفاحاً من مدير الصيانة الذي تملص من وعده لها بالزواج بعدما قضى وطره منها.
لجأ أيمن زيدان أيضاً إلى إبراز أسلوب التشابه المونتاجي، إذ يمكن للمتلقي أن يستخلص منه صوراً ذهنية، وهي صور تتأتى من تداعي المَشاهد وتناوبها، كما في مشهد الحمّام وتحضير نسوة القرية لجسد العروس الشابة لليلة الدخلة، وغسل جسدها العاري وفركه بخشونة في برميل معدني متسخ وفاحم السواد. جاء ذلك كما يبدو دلالة على التعامل الفج مع جسد المرأة في المجتمعات الشرقية، واعتبارها موضوعاً جنسياً للرجل. يمكن ملاحظة أسلوب اللازمة المونتاجية أيضاً في ما قام به زيدان من تكرار لمشهد ذهاب وإياب المحقق العجوز وصعوده وهبوطه مرات عدة لأدراج فرع التحقيق. لتأكيد فكرة عدم قدرة الشخصية على مغادرة مكان عملها الأثير إلى قلبها، المكان الذي يوجه فيه الشتائم والصفعات. إذ شكلت اللقطة الطويلة في "أيام الرصاص" وحدة بناء أساسية لفنان المونتاج، وأسهمت أساليب التحرير على المواد الخام المصوّرة في بناء سياق الحدث ودعم عملية سرد الحكاية، لا في تحوير دلالاتها وحسب، بل بإعادة إنتاج الواقع سينمائياً. بدا ذلك في اختيار موقع الكاميرا، وطريقة بناء المشهد والتكوين البصري له، إذ كانت كل لقطة من الفيلم عبارة عن خلية حية من خلايا عملية بناء المشهد ورسمه بدقة.
الواضح أن زيدان لم يتجه في "أيام الرصاص" إلى بنية مألوفة في سرد حكاية فيلمه، بل كان تركيزه على حركة الكاميرا وتصميم الأجواء الدرامية المشحونة بالعتمة والظلال وكشّافات الضوء، واستخدام عدسة ذات بُعد بؤري واسع، جعلت الصورة في المشهد الواحد واضحة من خلال ما يسمى بـ"عمق الحقل". أسلوب كرسه بطل مسلسل "يوميات مدير عام" في إدارته الإخراجية، مما حقق بعداً ثالثاً للصورة، ومكّنَهُ من استخدام لقطات عدة في بناء مشهدية سينمائية خاصة، ومن تطوير أحداث درامية داخل الكادر من طريق تكثيف التوتر بين شخصيات الفيلم من جهة وجماليات المكان الريفي من جهة ثانية.
إن رسم بنية مبتكرة بهذه الصورة عقّدت الصلة بين أحداث عدة في حاضر قصة الفيلم وماضيها المُستعاد، فتم علاج أحداث حكاية "أيام الرصاص" من وجهات نظر عدة مختلفة. ولهذا كانت كل شخصية تروي ما حدث لها سواء في غرف التحقيق، أو في البيوت أو في عمق الغابة وقرب البحيرات، كل كما يعتقد وحسب رؤيته الشخصية للأحداث. ولقد سعى المخرج من خلال توضيح أبعاد الصورة وتشويشها في المشهد الواحد إلى التركيز على الشخصية التي تقوم برواية الحدث من وجهة نظرها، فمن خلال استمرارية الزمن في اللقطة الواحدة، وعبر تصوير مشاهد طويلة نسبياً لم تخلُ من اعترافات مؤلمة، كان المحققان الجديدان (سعد مينة- غابرييل المالكي) ينتزعان الاعترافات على اختلاف رتبتهما الأمنية.