إنجازات التراكم الخبروي
5-تشرين الثاني-2022
علي حسين عبيد
البناء، أي بناء كما هو متعارَف، يبدأ من الصفر، أو من الأساس، آجرّة فوق أخرى، فيعلو البناء، ويستمر بالعلو طالما هناك من يضع آجرّةً جديدة على البناء الذي سبقه، لكن إذا توقّف رصف الآجرّ (الطابوق) فوق بعضه، يتوقف صعود البناء، أما إذا جاء من يهدّم هذا البناء، فإننا سوف نعود إلى الصفر أو الأساس وكأننا لم نضع آجرّة واحدة، علما في حالة التهديم نكون قد ضيّعنا جميع الخبرات التي اكتسبناها أثناء البناء.
هذا الوصف كأنه ينطبق على العراق، في عملية البناء والهدم، فمنذ عقود طويلة بل قرون، لم يستمر التراكم في البناء، لاسيما السياسي، فجميع الحكومات التي أعقبت بعضها البعض، قبل وبعد 2003 كانت توقف بناء السابقين ثم تباشر بهدمه تماما، وتبدأ في بناء جديد سوف يهدّمه من يأتي بعدهم.
ولهذا تفتقر دولتنا العراقية لتطبيق القانون التراكمي في المجالات المفيدة كافة، وهذا عيب خطير جعل مفاصل الدولة تُصاب بالضعف والضآلة، وتدخل في دوّامة الفوضى، وتعيش تحت رحمة النمو العشوائي، إذا كان هناك نمو في مجال ما، لأننا في واقع الحال نعاني من غياب النمو في المجالات كافة بسبب إهمالنا أو تهرّبنا من تطبيق قانون التراكم، وهو ما اعتاد عليه العراقيون، سواء القادة، أو الوزراء أو المدراء العامّون، وحتى الموظفون الصغار لا يسعون لتحصيل خبران من سبقهم.
حكومات ليست شرعية
لكنّ التراكم في العراق حاليا، يحدث في مجالات أخرى وهي في الأعمّ الأغلب غير المفيدة، فمثلا لو أننا أجرينا مسحا لحالات الاختلاس في القطاع الإداري العام، لوجدنا نموّا كبيرا في طرق الاختلاس كمّا ونوعا، حيث يتفنن المختلسون بكيفية سرقة أموال الدولة عبر صفقات مشبوهة سواء بالتزوير أو الرشا أو التخادم المتبادَل غير المشروع، وهناك تمسّك شديد في هذا المجال غير المفيد بقانون التراكم وحرص على توظيفه لصالح أفراد أو فئات لا علاقة لها بتطور الدولة ولا المجتمع، ولا يدخل البناء ضمن تطلعاتهم.
هذه الأعمال التراكمية الخبروية يمكن أن نعثر عليها في كل ما هو غير مفيد للدولة، ولا يُسهم في تطويرها، بل على العكس من ذلك يشلّ قدراتها، ويبعثر ثرواتها، ويدمّر جميع فرص التقدم التي تتوفر لها في هذا المجال أو ذاك، وهذه الحقيقة المؤسفة ليست وليدة اليوم، ولا هي وليدة ما بعد 2003، بل بدأت باعتقادنا منذ زوال الملكية في العراق، حين بدأت الحكومات العسكرية أو مرحلة الانقلابات غير الشرعية.
فبعد إطاحة النظام الملكي بدأت مرحلة الانقلابات، وتعاقبت على العراق حكومات عسكرية تسلقت للسلطة باستخدام القوة الغاشمة، ومع كل حكومة جديدة يتم تهديم ما بنته الحكومة التي سبقتها، مع نسف كامل لكل المنجز التراكمي، وقد أدى ذلك إلى تقويض أي فرصة للتطور في معظم مرافق الحياة العراقية، ولم يتوقف الضرر عند هذا الحد، بل تعدّاه إلى ترسيخ مبدأ نسف الفعل التراكمي ليصبح ظاهرة عراقية تناقلتها الحكومات ووزاراتها ومؤسساتها، فأصبح تهديم التراكم نظام عمل راسخ ومقبول ومعمول به دونما حرج.
ثقافة تراكمية الأعمال
هكذا سادت ثقافة التهديم لكل ما هو قائم من بناء، والشروع بتأسيس لا يقوم على الخبرات القديمة، فيضيع كل ما حصل عليه السابقون من تجارب وخبرات، وهذا يعني نسف جميع المهارات والتجارب السابقة، ومعنى هذا تحطيم مسيرة البناء في الدولة، والإتيان بتجارب بناء لا تكمل ما سبق، وفي الغالب يكون البناء الجديد ضعيفا هشًّا وركيكا لأنه لا يستند إلى أسس قوية سبقته بالخبرة والتجربة.
في المشهد الحكومي الراهن لدولة العراق، لم يتم تصحيح هذا الخطأ المدمِّر، بل ازداد أضعافا عمّا كان عليه، لدرجة أن كل وزير جديد يصل إلى وزارة معينة، يقوم على الفور باستبدال الفريق الوظيفي القديم في الوزارة، ويدمّر جميع الخبرات التي تراكمت عند الموظفين، ويأتي بفريق جديد يبدأ من الصفر دونما خبرة ولا معرفة ولا أساسيات، وليس هناك من حساب أو عقاب على الخطأ.
من المؤسف حقا أن ظاهرة ضمور الفعل التراكمي لم تقتصر على مفاصل الدولة وحدها، بل انتقل ذلك إلى المؤسسات والمنظمات بمختلف أنواعها، الحكومية والمدنية، والأخطر يكمن في اختراق هذا الخلل الكبير للمجتمع، فصار إهمال التراكم الخبروي أمر مقبول، ولا مشكلة أو حرج من ذلك، وتم تعزيز ثقافة التهديم التام لما سبق، والشروع في بناء جديد سرعان ما يقوم القادم الجديد بنسفه تماما.
هذا الغياب المنظّم للفعل التراكمي الخبروي، أدى إلى تراجع الدولة العراقية بشكل خطير في إطار معايير التقدم والتطور المتصاعد للدول والمجتمعات، لذلك من المهم بل من أهم الخطوات الاستراتيجية هي التنبّه إلى ظاهرة إهمال التراكم في مفاصل ومؤسسات الدولة والمجتمع، ويجب التركيز على نقيض الإهمال، والتمسك بنظام تراكمية الأفعال والأعمال والخبرات وجعلها ثقافة اجتماعية سياسية اقتصادية تنهض بدولة العراق.