إيتالو كالڤينو رائد التخييل الحكائي جدد الرواية العالمية
16-أيلول-2023
مارلين كنعان
تحتفل إيطاليا بالذكرى المئوية الأولى لولادة الأديب والروائي الإيطالي إيتالو كالڤينو (1923-1985). في هذه المناسبة يقام عدد من المعارض التي تستعيد محطات من حياته وأعماله التي تجاوز عددها الـ300 موزعة بين مقالات وروايات ونصوص وحكايات خيالية وأفلام مبنية على كتبه الأكثر مبيعاً، ورسائل غير منشورة أرسلها بين 1962 و1963 إلى زوجته المترجمة الأرجنتينية إستير جوديث سينجر المعروفة باسم تشيتشيتا. وقد بدأت صحف مثل "لا ريبوبليكا" بنشر بعض منها، كما أعلنت بعض دور النشر الإيطالية عن مسابقة لإعادة تصميم أغلفة جديدة لكتبه.
تقام هذه الاحتفالات في الأماكن التي عاش فيها كالڤينو والتي تسللت إلى صفحات رواياته. وها هي ذي مدينة كاستيغليوني ديلا بيسكايا الواقعة في مقاطعة غروسيتو التوسكانية تمنحه المواطنة الفخرية، وقد كانت المكان الأحب إليه، حتى إنه اختار أن يدفن فيها. وكان الروائي قد كشف مراراً وتكراراً في المقابلات التي أجريت معه أن غابة صنوبرها لطالما كانت مصدر إلهامه. وما زالت اللقاءات الشهرية التي بدأت هذا العام تعقد في المكتبة المخصصة له في المدينة بغية تقديم رواياته وحكاياته الإيطالية من خلال عروض مسرحية ومحاضرات وقراءات عديدة.
ولد إيتالو كالڤينو أحد أهم كتاب وروائيي القرن العشرين في كوبا في مدينة سانتياغو دو لاس فيغاس بالقرب من العاصمة هاڤانا عام 1923. كان والده الإيطالي يعمل مهندساً زراعياً ووالدته عالمة أحياء. وكان الزوجان هاجرا إلى كوبا بعد انهيار اقتصاد بلدهما في الحرب العالمية الأولى وظهور موسوليني مع جماعته من المحاربين القدامى الذين شكلوا حزباً جديداً في ميلانو باسم الحزب الفاشي، مستغلين أوضاع ما بعد الحرب من ضائقة اقتصادية وبطالة، لكن العائلة الصغيرة سرعان ما عادت إلى إيطاليا الموسولينية عام 1925 لينشأ ابنها في مدينة سان ريمو الواقعة في إقليم ليغوريا مسقط رأس الوالد، حيث تلقى تعليماً علمانياً مناهضاً للفاشية. عند اندلاع الحرب العالمية الثانية توقف الشاب عن دراسته في الهندسة الزراعية لينضم إلى أنصار ألوية غاريبالدي. وما هي إلا سنوات حتى وجد نفسه في تورينو مشاركاً في تحرير صحف عدة، منضماً إلى الحزب الشيوعي الإيطالي، ومهتماً بمتابعة دراساته الأدبية التي توجها بأطروحة تناولت روايات أكثر الكتاب تأثيراً في الحركة الحداثية في إنجلترا قبيل الحرب العالمية الأولى، عنيت الكاتب الإنجليزي ذا الأصول البولندية جوزيف كونراد (1857-1924). وقد شاءت الصدف أن يتعرف إيتالو كالڤينو إلى تشيزاري بافيزي (1908-1950) الشاعر والروائي والناقد الفني والمترجم الذي شجعه على الكتابة.
تجربة المقاومة
في العام 1947 نشر كالڤينو روايته الأولى المسماة "درب أعشاش العنكبوت". فيها استعاد تجربته كمقاتل في صفوف المقاومة الإيطالية. لاقت هذه الرواية حين صدورها بعض النجاح، وقد أتبعها عام 1949 برواية ثانية بعنوان "الغراب يحتل دوماً المرتبة الأخيرة". تميزت هاتان الروايتان بالواقعية الجديدة. غير أن كالڤينو بناءً على نصيحة ناشره تخلى عن أسلوبه الواقعي في الكتابة ليتحول إلى كتابة تهتم بالخيال التاريخي، تمزج ما بين الواقع والحكايا الأسطورية والقصص الشعبية الإيطالية في لغة جميلة وسرد روائي محكم، مما جعله يتربع على عرش الرواية الإيطالية والعالمية في القرن العشرين.
لم يكتف إيتالو كالڤينو بهذين الإصدارين، بل تابع نشر روايات وسرديات عديدة كرواية "الفيسكونت المشطور"، التي تشكل مع "البارون ساكن الأشجار" و"فارس بلا وجوه" الثلاثية الشهيرة "أسلافنا".
في "الفيسكونت المشطور" يروي كالڤينو قصة فارس انشطر بفعل قذيفة مدفع إبان الحرب ضد الأتراك إلى شطرين، واحد أيمن وآخر أيسر. يعود الشطر الأول إلى موطنه ليزرع الرعب في كل مكان، مقسماً الكائنات والأشياء، في حين يصلح الشطر الثاني قدر المستطاع ما أفسده الشطر الأول، لكن الشطر الخير يتبدى أكثر ضرراً من الشطر الأول حين يفصح على طريقته عن نفسه الشريرة. غير أن الشطرين المتقاتلين لا يقبلان بالبقاء منفصلين، وها هما ذان يعيدان لحمتهما الأصلية ليولدا من جديد بهيئة رجل عادي.
هذه الحبكة البسيطة التي تستعيد على طريقتها الأسطورة الأفلاطونية في محاورة "المأدبة"، ترصد مظاهر القتل والموت والمجاعات التي تقضي على مظاهر الحياة، حيث مشاهد الجثث المقطعة تحتل الصفحات، لتضعنا على لسان الراوي في قلب الحرب التي تغير البشر والتي تظهر إلى العلن أسوأ ما فيهم، قائلة لنا إن الشر يكمن في الازدواجية وإننا بالأصل أشرار، متسائلة عن معنى أن يكون المرء نصف إنسان غير قادر على أن يقيم جسراً من التواصل بينه وبين الآلام والجراح المنتشرة في كل مكان. وقد لجأ كالڤينو للتعبير عن أفكاره هذه إلى الأسطورة والفانتازيا بغية خلق عالم واقعي سحري يذكرنا بكتابات المكسيكي خوان رولفو، والكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، والبرتغالي خوسيه ساراماغو.
الهارب إلى الأشجار
أما روايته "البارون ساكن الأشجار" فتخبرنا عن كوزما هذا الأرستقراطي من القرن الثامن عشر الذي يجبر ذات يوم على أكل القواقع، فيهرب إلى الأشجار التي لم يعد ينزل منها طيلة حياته. ولعل هذا الهرب في قاموس كالڤينو يدل على فرادة البطل غير المنقطع عن العالم، ذلك أن كوزما المحلق عن قرب فوق العالم ما زال محتفظاً بكل فضوله وعاطفته ورغبته في السعادة. يعيش حياته المبتكرة وعلاقاته مع الناس من دون أن تمس قدماه الأرض متنقلاً من شجرة إلى شجرة، مكتسباً مهارات فكرية ومعرفية وجسدية مختلفة بمرور السنين، ناظراً إلى الأرض وما عليها نظرة واسعة، مشاركاً الآخرين أحوالهم وتغيراتهم.
بأسلوبه الكاريكاتيري، يصور إيتالو كالڤينو إذاً أسلوب حياة فريدة لرجل جذاب وسخيف في الوقت عينه، ينأى بنفسه عن العالم، حينما يختار العيش منفياً في أعالي الأشجار، متمرداً على التزمت وعلى عادات المجتمع وتقاليده وأحكامه الزائفة، في سرد سلس ينتقد ملامح الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر في مقابلة واضحة بين عالم الطبيعة وعالم البشر. ولعل هذه الرواية تستعيد على طريقتها أسطورة الإنسان الأول الحر، المتفلت من القيود والإنسان العائش في مجتمع مقيد لحريته، يلزمه عادات وأفكاراً لا يريدها. وفيها يتساءل كالڤينو عن إمكان قضاء الإنسان حياته ساكناً الأشجار، لا تطأ قدماه الأرض حتى لا يدنس نفسه بالسقوط في مغريات مجتمع يجعله يرتدي أفضل الثياب، ويسكن أفضل المنازل ويأكل أفضل الطعام، ولكن كعبد مختبئ داخل ملابسه، خاضع لهذا السيد الكبير الذي هو المجتمع.
أما روايته "البارون ساكن الأشجار" فتخبرنا عن كوزما هذا الأرستقراطي من القرن الثامن عشر الذي يجبر ذات يوم على أكل القواقع، فيهرب إلى الأشجار التي لم يعد ينزل منها طيلة حياته. ولعل هذا الهرب في قاموس كالڤينو يدل على فرادة البطل غير المنقطع عن العالم، ذلك أن كوزما المحلق عن قرب فوق العالم ما زال محتفظاً بكل فضوله وعاطفته ورغبته في السعادة. يعيش حياته المبتكرة وعلاقاته مع الناس من دون أن تمس قدماه الأرض متنقلاً من شجرة إلى شجرة، مكتسباً مهارات فكرية ومعرفية وجسدية مختلفة بمرور السنين، ناظراً إلى الأرض وما عليها نظرة واسعة، مشاركاً الآخرين أحوالهم وتغيراتهم.
بأسلوبه الكاريكاتيري، يصور إيتالو كالڤينو إذاً أسلوب حياة فريدة لرجل جذاب وسخيف في الوقت عينه، ينأى بنفسه عن العالم، حينما يختار العيش منفياً في أعالي الأشجار، متمرداً على التزمت وعلى عادات المجتمع وتقاليده وأحكامه الزائفة، في سرد سلس ينتقد ملامح الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر في مقابلة واضحة بين عالم الطبيعة وعالم البشر. ولعل هذه الرواية تستعيد على طريقتها أسطورة الإنسان الأول الحر، المتفلت من القيود والإنسان العائش في مجتمع مقيد لحريته، يلزمه عادات وأفكاراً لا يريدها. وفيها يتساءل كالڤينو عن إمكان قضاء الإنسان حياته ساكناً الأشجار، لا تطأ قدماه الأرض حتى لا يدنس نفسه بالسقوط في مغريات مجتمع يجعله يرتدي أفضل الثياب، ويسكن أفضل المنازل ويأكل أفضل الطعام، ولكن كعبد مختبئ داخل ملابسه، خاضع لهذا السيد الكبير الذي هو المجتمع.
هذه الفانتازيا الروائية عبارة عن رؤية مجازية للحالة الإنسانية الحديثة، فيها نوع من واقعية سحرية تجعل القارئ يدرك تواً أنها تعالج موضوعاً اجتماعياً وسياسياً من خلال اللغة والرؤية والخيال والجهد العقلي والترابط المنطقي للحقائق، ذلك أن الأدب في عرف إيتالو كالڤينو هو أرض صلبة قادرة على حمل كل النشاطات العملية لأي إنسان قادر على استيعاب الفوضى التي تعم هذا العالم. ولعل اهتمامه منذ الستينيات بالمدارس النقدية والفلسفية الجديدة في فرنسا عموماً، وبرولان بارت وجاك دريدا خصوصاً، أثر أيما تأثير في طبيعة أعماله الروائية ومنحها عمقاً فلسفياً مختلفاً عما هو سائد. فجميع أبطال روايات إيتالو كالڤينو هم بشكل أو بآخر في موقف ميتافيزيقي، يطرحون إشكاليات وجودية عميقة.
هذه الفانتازيا الروائية عبارة عن رؤية مجازية للحالة الإنسانية الحديثة، فيها نوع من واقعية سحرية تجعل القارئ يدرك تواً أنها تعالج موضوعاً اجتماعياً وسياسياً من خلال اللغة والرؤية والخيال والجهد العقلي والترابط المنطقي للحقائق، ذلك أن الأدب في عرف إيتالو كالڤينو هو أرض صلبة قادرة على حمل كل النشاطات العملية لأي إنسان قادر على استيعاب الفوضى التي تعم هذا العالم. ولعل اهتمامه منذ الستينيات بالمدارس النقدية والفلسفية الجديدة في فرنسا عموماً، وبرولان بارت وجاك دريدا خصوصاً، أثر أيما تأثير في طبيعة أعماله الروائية ومنحها عمقاً فلسفياً مختلفاً عما هو سائد. فجميع أبطال روايات إيتالو كالڤينو هم بشكل أو بآخر في موقف ميتافيزيقي، يطرحون إشكاليات وجودية عميقة.
صاحب الثلاثية
في "فارس بلا وجوه" وهي الجزء الثالث من ثلاثية "أسلافنا"، يروي الكاتب قصة بدلة فارس فارغة، لا يلبسها أحد، كما لو أن فارسها فقد وجهه أو هو عبارة عن هيئة فارس لا وجود فعلياً له. فيها يعالج مسألة غياب الجسد وإفراغه من جوهره، كما لو أنه يريد أن يقول إن الإنسان المعاصر يجد ذاته، على غرار الفارس، مكتفياً بهيئته وشكله ووظيفته، فلا يخرج من إطارها، بل يعيش بعداً واحداً من أبعاد الحياة كلها. وهو في فقدانه وجهه يفقد ما يحدد هوية ذاته وما يعبر عن فرادته وعن جوهره الإنساني الخاص. من خلال الوجه تتجلى كينونة الإنسان ووجوده. فكيف يعيش الفارس من دون وجه؟
في "فارس بلا وجوه" وهي الجزء الثالث من ثلاثية "أسلافنا"، يروي الكاتب قصة بدلة فارس فارغة، لا يلبسها أحد، كما لو أن فارسها فقد وجهه أو هو عبارة عن هيئة فارس لا وجود فعلياً له. فيها يعالج مسألة غياب الجسد وإفراغه من جوهره، كما لو أنه يريد أن يقول إن الإنسان المعاصر يجد ذاته، على غرار الفارس، مكتفياً بهيئته وشكله ووظيفته، فلا يخرج من إطارها، بل يعيش بعداً واحداً من أبعاد الحياة كلها. وهو في فقدانه وجهه يفقد ما يحدد هوية ذاته وما يعبر عن فرادته وعن جوهره الإنساني الخاص. من خلال الوجه تتجلى كينونة الإنسان ووجوده. فكيف يعيش الفارس من دون وجه؟
في مقابل هذا الفارس غير الموجود والأحادي الأبعاد، يقدم كالڤينو شخصية ثانية لها وجودها البيولوجي والفيزيولوجي، هي شخصية جوردولو، لكنها شخصية تفتقد الوعي بالوجود وتحقيق الذات، لذا نراها تتماثل مع كل المخلوقات.
غير أن الفارس البلا وجه يحاول استعادة جسده من خلال حكايات عديدة تتداخل في بنية سردية تحاول البحث عن الذات والهوية الضائعة وسط الأحداث المتشابكة، والتي تجمع في طياتها فكرة واحدة، ألا وهي السعي خلف الوجود ومحاولة تحديد مدلوله.
إلى جانب هذه الثلاثية نشر إيتالو كالڤينو عدداً كبيراً من الروايات، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، رواية "ماركوفالدو" و"مدن لا مرئية" و"السيد بالومار" و"لو أن مسافراً في ليلة شتاء" وغيرها من الحكايات والسرديات، ترجم بعضها إلى اللغة العربية. كل رواياته ونصوصه ترسم فصولاً من حياة البشرية وتاريخها بأسلوب أدبي مدعوم بتأمل فلسفي عميق في المعنى النهائي للوجود الإنساني. وهي في معالجتها لتاريخ أوروبا ومشكلات إيطاليا الحديثة لا تغفل عن تناول تفاصيل في غاية الدقة عن الأشجار والطيور والحيوانات والإنسان، في إطار حبكة حكائية تجعل من رواياته وسردياته موسوعة جميلة تقرأ بمتعة ما بعدها متعة.