حسن فحص
ثابتتان سيطرتا على الموقف الإيراني خلال الأسابيع الماضية وتحديداً منذ عملية اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في طهران، والموقف الذي أعلنته "حماس" بموافقتها خلال الثاني من يوليو (تموز) على مبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن لوقف الحرب على قطاع غزة.
الثابتة الأولى تلخصت في تأكيد النظام الإيراني بجميع مستوياته السياسية والأمنية والعسكرية وفي مقدمه رأس النظام المرشد الأعلى بأن الضربة التي تعرضت لها السيادة الإيرانية وانتهاك الأمن القومي نتيجة عملية الاغتيال لن تمر من دون عقاب للفاعل الذي هو الإسرائيلي، وأن النظام لن يتخلى عن الثأر لمقتل الضيف الفلسطيني على أراضيه. أما الثابتة الثانية كانت بتأكيد طهران على المستوى السياسي أنها تقف خلف القرار الذي تتخذه "حماس" في ما يتعلق بالعملية التفاوضية حول وقف إطلاق النار وحل الأزمة في غزة. من غير أن يعني ذلك تخلي النظام ومؤسسته العسكرية عما تعده حقاً قانونياً بالرد لاستعادة قدرتها على الردع أمام الاعتداء الإسرائيلي على سيادتها وأمنها القومي.
هذه التبادلية بين الميدان وشروطه والدبلوماسية وضروراتها استغلتها طهران لترتيب أوراقها الداخلية، فهي على مشارف النهايات من وضع اللمسات الأخيرة على تشكيلة الحكومة التي ستشكل فريق عمل الرئيس الجديد، مما يسمح لها بتفعيل نشاطها الدبلوماسي في ظل وجود وزير أصيل على رغم أن الوزير الوكيل مارس دوراً دبلوماسياً فعالاً في التواصل مع الدول المعنية بالمفاوضات حول غزة، إضافة إلى حرصه على إبقاء قنوات التواصل وتبادل الرسائل مع واشنطن قائمة ومفتوحة مما يشكل تمهيداً عملياً للوزير الجديد في الدخول السهل على المشهد الإقليمي والدولي بكل تشعباته. وفي المقابل، تركت ردها العسكري معلقاً في إطار استراتيجية تصفها بأنها "حرب نفسية" ضد الإسرائيليين وتركهم في حال انتظار، إضافة إلى أن هذه السياسة سمحت لها بترك هامش كبير للجهود الدولية والعربية من أجل التوصل إلى تفاهم أو اتفاق مع الإدارة الأميركية والقيادة الإسرائيلية حول وقف الحرب في غزة، بالتالي استطاعت اختيار الهرب من تحمل المسؤولية المباشرة مع حلفائها عن إفشال هذه المفاوضات لاعتقادها بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيتولى هذه المهمة انطلاقاً من رفضه لأية تسوية لوقف إطلاق دائم. لا شك أن النظام خلال الأسابيع الماضية استعرض كل ما يملكه من ترسانة عسكرية إضافة إلى أنواع جديدة ومتطورة واستراتيجية حصل عليها من حليفه الروسي، قد يستخدمها في عملية استهداف العمق الإسرائيلي أو في الدفاع بمواجهة أي رد على الرد، قد تقوم به تل أبيب. إلى جانب وضع آليات للتعامل مع ما يمكن أن تستخدمه القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة وبحارها في حال تجاوزت الأمور الخطوط الحمراء وتعرض وجود إسرائيل ودورها الإقليمي لخطر حقيقي. استعراض القدرات العسكرية والتمسك بخيار الرد على تل أبيب لا يعني أن طهران أسقطت من حساباتها إمكانية إعطاء الحلول السياسية والتفاوضية فرصة للتوصل إلى صيغة تضمن لها تحقيق إنجاز يعفيها أو يفتح الطريق أمامها للتخلي عن الخيار العسكري، وما فيه من محاذير وما قد ينتج منه من تداعيات لا ترغب فيها.
لذلك، فإن الإنجاز الذي راهنت طهران والمحور الذي تقوده على تحقيقه يقوم على توظيف الضغوط الأميركية والعربية من أجل تنفيذ هذه المبادرة، بحيث يضمن لها نصراً سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً في حال أعلن وقف إطلاق نار دائم وانسحاب تام من أراضي قطاع غزة وفتح المعابر وإدخال المساعدات الإنسانية وإطلاق عملية إعادة الإعمار.
وانطلاقاً من هذه الحيثيات ومع بداية الأسبوع المقبل أي بعد التصويت على الثقة في الحكومة الجديدة، وأيضاً الانتهاء من الانشغال بالتظاهرات الشعبية المرافقة لإحياء ذكرى أربعين الإمام الحسين في كربلاء العراق، ستكون القيادة الإيرانية مطالبة بتوضيح موقفها من الأحداث والتطورات الإقليمية، وبخاصة في ظل التعنت الذي يمارسه رئيس الوزراء الإسرائيلي الرافض لتقديم أية تنازلات في أزمة الحرب على غزة وإسقاط مبادرة الرئيس بايدن من التداول. على رغم اصطدام المسار الدبلوماسي والتفاوضي بحائط رفض الطرف الإسرائيلي وبالتالي تقدم خيار التصعيد أمام خيار التسوية فإن الجانب الإيراني لن يذهب إلى الرد أو الخيار العسكري ضمن جهود استعادة قوة الردع بالسرعة التي يأملها رئيس الوزراء الإسرائيلي. وهذا كان واضحاً في كلام المتحدث باسم قوات حرس الثورة المعني الأول بعملية الرد العسكري والذي أكد تمسك إيران بهذا الحق، إلا أن التوقيت المفتوح والذي قد لا يكون في القريب العاجل وضعا هذا التأخير في إطار استراتيجية استنزاف الخصم نفسياً وعسكرياً. استمرار الحراك الدبلوماسي الإيراني قد يكون مطروحاً أو مسوغاً خلال المرحلة المقبلة إلا أنه لا يجب إسقاط أن هذه الدبلوماسية تشكل أحد الأطراف التي ترسم الاستراتيجيات والخطوات العملانية والتنفيذية في النظام الإيراني، بالتالي فإن الهامش الذي تتحرك به هذه الدبلوماسية محدود ومحكوم بموقف منظومة القرار والسلطة والقيادة العليا. وإن ما حصل من فشل الجهود لإعادة بناء الثقة بين طهران والعواصم الغربية في أزمة الاتفاق النووي قد لا يكون صادقاً في الموضوع الإقليمي، الذي يشكل رأس الاهتمام للترسانة الدبلوماسية الإيرانية خلال المرحلة المقبلة من خلال الجهود التي تبذلها لإعادة ترميم العلاقات وإعادة تعريف إطار المصالح الأمنية الإقليمية، التي تسمح بالتعاون مع دول المنطقة وتكون قادرة على إدارة التدخلات الدولية. وإن النجاح في هذه المهمة أو الاستراتيجية قد يسحب يد المؤسسة العسكرية عن زناد تفجير مواجهة لا أحد بإمكانه تقدير كيف ستكون والنتائج التي ستسفر عنها، إذا ما ذهبت إلى خيار الرد العسكري الذي يريده نتنياهو.