ابن سينا يعالج شؤون الحياة اليومية في «كتاب السياسة»
6-شباط-2023
إبراهيم العريس
منذ أزمنة سحيقة كان العالم يعتبر ابن سينا فيلسوفاً وحكيماً كبيراً لكنه بالكاد كان يفرد له مكاناً في حياة الناس اليومية. ومن هنا لم يكن مؤرخ فلسفة العصور الوسطى بعيداً من الصواب حين كتب عن ابن سينا: "كان اسم ابن سينا مألوفاً لدى جميع الفلاسفة المسيحيين منذ القرن الثالث عشر، ولئن عدّوه خصماً، فهو كان بالنسبة إليهم، خصماً جديراً بالاحترام لقوته بالذات، ولا بد من أن يحسب له حسابه، وفي الواقع إنه واحد من أكبر الأسماء في الفلسفة". هذا الكلام عن ابن سينا كتبه في القرن العشرين إتيان جيلسون، المؤرخ الفرنسي لفلسفة العصور الوسطى التي تشتمل خاصة فلسفة الحكم والسياسة والتدبير، علماً بأن ابن سينا كان يبدو من البعد وحتى في نص جيلسون هذا، إلى حد أن "التدبير والحياة اليومية" لم يكونا من اختصاصه. ومع هذا كان ابن سينا مجلياً في هذه المجالات، أو هذا ما سيقوله لنا لاحقاً الكاتب الفرنسي من أصل مصري جيلبير سينويه في روايته البديعة "الطريق إلى أصفهان" التي حولت ما هو جامد وبالغ الجدية في أي حديث عن ابن سينا إلى عمل تخييلي رائع.
من ابن سينا إلى ابن رشد
والحقيقة أن رواية سينويه كانت من النجاح بحيث أنه عاد وألحقها بعد سنوات برواية مشابهة عن حياة ابن رشد لكنها لن تلق النجاح نفسه. مهما يكن، نعرف الآن من خلال جيلسون كما من خلال سينويه أن ابن سينا لم يكن بالبعد الذي نعتقد بل كان من خائضي الحياة اليومية على غرار الفارابي، ذلك المفكر المسلم الآخر الذي ارتبط اسمه به دائماً. ومهما كان من شأن هذا كله، فإن ابن سينا ترك لنا الكثير من الآراء السياسية، المباشرة أو غير المباشرة ذات العلاقة بالحياة اليومية غالباً، موزّعة في كل كتبه تقريباً، ولا سيما في "الشفاء" و"النجاة"، ولكنه خص السياسة العملية أو الحكمة العملية، أو "السياسة" في كل اختصار بكتابين هما: "كتاب العهد" و"كتاب علم الأخلاق". أما الكتاب الأساس في هذا المجال، فهو الكتاب الذي وضعه في "السياسة المنزلية" وسمّاه "كتاب السياسة"، ذلك أن ابن سينا كان يرى، مبكراً، أن السياسة الكبرى لا تصنع إلا انطلاقاً من السياسة الصغرى. ومن هنا نراه يهتم كل هذا الاهتمام بالجانب الأولي من السياسة الجانب العملي المرتبط بالمواطن مباشرة. وانطلاقاً من "كتاب السياسة" هذا، وفي التفات إلى الكثير من الشذرات والكتب العملية الأخرى التي تركها ابن سينا، يلخص الباحثون ومن بينهم الأب يوحنا قمير آراء ابن سينا في فروع العلوم السياسية بحسب تصنيفه وهي: الأخلاقية والمنزلية والمدنية على الشكل الآتي: السياسة الأخلاقية التي ترتبط بسعي الإنسان للوصول إلى الكمال في اكتساب العلم والفضيلة، حيث أن أصول الفضائل أربعة: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة... وتتفرع من هذه الأصول فضائل عدة أخرى - السياسة المنزلية، حيث أن الإنسان يحتاج إلى قوت يبقي به شخصه، ومنزل يخزن فيه ما يقتنيه، وزوج تحرس وتدبر، و"بالزواج يكون الولد، وتكون الحاجة إلى الخدم"، ومن ثم تكون سياسة الرجل مرتبطة بنفسه وماله وزوجه وولده وخدمه – وهي الأمور التي لا شك أن جيلبير سنويه في "الطريق إلى أصفهان"، قد ارتكز عليها لتصوير شخصية ابن سينا وحياته اليومية.
تفاوت بين الناس
وفي هذا الإطار يسهب ابن سينا قائلاً: "إن الله خلق الناس متفاضلين في عقولهم وآرائهم، متفاوتين في أملاكهم ورتبهم وذلك لئلا يفنيهم التنافس والتحاسد، وكي يبقى سبيل للخدمة والترافد". ويفسر الباحثون هذا بقولهم إن المذهب السياسي السينوي يقوم "على التفاوت الطبيعي بين الناس، وهو تفاوت يرده ابن سينا إلى موضوعة نزوع الكل نحو الوجود: لو كان الناس كلهم ملوكاً أغنياء لتفانوا عن آخرهم، نظراً للتنافس والتحاسد، ولو كانوا كلهم "سوقة" أو استووا في الفقر، لماتوا ضراً وهلكوا بؤساً. ولذا كان على كل منهم أن يقنع بما هو عليه: على الغني أن يعرف أن ثروته تعوِّض، إلى حد ما، عن العقل الذي عدمه" وذو الأدب المعدم، إذا تفقد حال الثري الجاهل، لم يشك في أن فضِّل عليه وقُدِّم دونه، حيث يقول ابن سينا: "ذو الصناعة، التي تعود عليه بما يمسك رمقه، لا يضبط ذا السلطان العريض، ولا ذا الملك المديد".
تقسيم مبكر للعمل
وفي هذا الإطار يرى ابن سينا أن أمور المجتمع تسير على النحو المطلوب بفضل تقسيم العمل بين المدبّرين الحكام والحفظة الجند - الحراس، بالمعنى الأفلاطوني للكلمة - والصنّاع. وبنية المجتمع يجب أن تكون هرمية، يحتل قاعدتها العبيد وهنا يستند ابن سينا، إلى دور العامل الجغرافي. فهو يعلن الترك والزنج وأمثالهم "عبيداً بالطبع". والعمل النافع للمجتمع يكون حقاً على كل مواطن. أما الأشخاص غير القادرين على العمل، أو الذين لا يشتغلون بصنعة كالحفظة فتؤمن لهم الدولة معيشتهم، وذلك من أموال الخزينة، التي تردها في صورة ضرائب على الأملاك والمداخيل، أو غرامات مفروضة على أصحاب الجنايات، كاللصوص ولاعبي القمار، أو غنائم.
وفي هذا الإطار يرى ابن سينا أن أمور المجتمع تسير على النحو المطلوب بفضل تقسيم العمل بين المدبّرين الحكام والحفظة الجند - الحراس، بالمعنى الأفلاطوني للكلمة - والصنّاع. وبنية المجتمع يجب أن تكون هرمية، يحتل قاعدتها العبيد وهنا يستند ابن سينا، إلى دور العامل الجغرافي. فهو يعلن الترك والزنج وأمثالهم "عبيداً بالطبع". والعمل النافع للمجتمع يكون حقاً على كل مواطن. أما الأشخاص غير القادرين على العمل، أو الذين لا يشتغلون بصنعة كالحفظة فتؤمن لهم الدولة معيشتهم، وذلك من أموال الخزينة، التي تردها في صورة ضرائب على الأملاك والمداخيل، أو غرامات مفروضة على أصحاب الجنايات، كاللصوص ولاعبي القمار، أو غنائم.
مكانة الزواج والأسرة: ولنلاحظ هنا كيف أن ابن سينا يولي الزواج والحياة المنزلية أهمية اجتماعية خاصة، حيث يؤكد لنا أن السّان (الذي يسن القوانين) المشترع، أو النبي، عليه أن يدعو إلى التزاوج لأن فيه بقاء النسل، ويحرّم الزنى لأنه قد يغني عن الزواج، ويجب أن يقع الزواج وقوعاً ظاهراً كي يسلم النسب من الريب والمواريث من الخلل. ثم "يجب أن يكون الزواج ثابتاً، فلا يشتت شمل الأولاد والوالدين". وعليه "لا تعطى المرأة حق الفرقة، بل تعطى حق اللجوء إلى الحكام ليقرروها، ويفرض على الرجل، إن أراد الفرقة، غرامة". ويعرف ابن سينا، هنا "سياسة الرجل لنفسه" بأنها تقوم على مبدأ أن "على الإنسان أن يعرف مساوئه، مستعيناً بأخ لبيب مرادٍ، مستهدياً بما يخبره من أخلاق الغير، معاقباً نفسه على المعصية، مثيباً على الطاعة". ويؤكد ابن سينا هنا أن "أحوج الناس إلى معرفة عيوبهم الرؤساء، لاسترسالهم في الأهواء، ولأن العدو يرهب تعبيرهم، والصديق نصيحتهم والمداهن يغدق عليهم الثناء الكاذب". وإذ يقول ابن سينا أن "السانّ يأمر الأهل بتربية الأولاد والأولاد بخدمة الأهل وإكبارهم"، يؤكد أن "خليفة السانّ عليه معرفة الشريعة، وعليه أن يجمع بين العقل والأخلاق وحسن السياسة" وعليه "أن يدعو إلى ممارسة الفضائل ويقاتل أعداء السنّة ويفرض الأعياد. وهو أيضاً يفرض العدالة في المعاملات ويعاقب المخالفين، وعليه أن يعتدل في المزاج، ولا يتشدد ولا يتساهل".
فلسفة للحياة اليومية
ومن الواضح هنا أن اهتمام ابن سينا بالسياسة والتدبير وبالحكمة العملية، لم يأت لديه من خلال تأمل فكري بحت، أو غوص في النزوع الفلسفي، بل من خلال تجربة معاشة، جعلته، لمراحل متفرقة من حياته يعيش في خضم اللعبة السياسية. فابن سينا، وكما يروي لنا جيلبير سينويه في روايته التي ذكرناها أعلاه، ولد العام 980 م. (370 هـ.) ليرحل في العام 1036 (428 هـ.) ولد في بيت علم وجاه، ما جعله في احتكاك بشؤون الحكم والتدبير باكراً لينعكس ذلك في نصوصه الأقل شهرة وبالتالي الأقل علاقة بالحياة اليومية. ثم ازداد هذا الاحتكاك حين قيض له، إذ مرض نوح بن منصور، حاكم بخارى، أن يعالجه ويشفيه، ليجد نفسه داخل البلاط، محيطاً بالحاكم. ثم لما مات أبوه وهو في الثامنة عشرة، رحل عن بخارى و"جدّ يبحث عن أمير يقدره"، وهذا البحث هو في الحقيقة ما يشكل العمود الفقري في رواية "الطريق إلى أصفهان لينزل بسيرة ابن سينا من أعلى ذرى الفلسفة العليا بتقنياتها وصعوباتها، إلى أرض الواقع. حيث ينتهي المطاف، بـ"فيلسوف النفس والحكمة الكبير"، وبعد مساع طويلة، إلى بلاط شمس الدولة، أمير همدان. وأصبح وزيره بعدما شفاه هو الآخر من مرض عسير. وصار "في ظله يقوم بأعباء الوزارة نهاراً، ويقبل على العلم والشراب ليلاً". وحين مات شمس الدولة، انتقل ابن سينا ليضع نفسه في خدمة علاء الدولة أمير أصفهان. وهو ظل هناك حتى مات، وفيها وضع أهم كتبه، ولا سيما ما يتعلق منها بالسياسة، لكن الأمور وبحسب الرواية لم تكن على تلك البساطة بالطبع.