عامر بدر حسون
طلب مني احد حضور محاضرتي امس في "كاليري مجيد" ان اضمّن حديثي شيئا عن اغنية فرانك سيناترا الشهيرة "غرباء في الليل"!
وهو طلب في غاية الغرابة والطرافة لكنه يشير الى ان الصديق تذكر منشورا سابقا لي عن تلك الاغنية ولعل المنشور او الاغنية لامسا في حياته اشياء لطيفة فاراد الاستزادة.
لكن الاكثر غرابة كان وجودي بين جمع كريم ممن حضروا المحاضرة، لا اعرف اكثر من تسعين بالمئة منه.. ولهذا تخليت عن الورقة التي كتبت فيها رؤوس اقلام من اجل تسلسل الافكار، وبدأت ارتجل واجرب كل ما يمكن ان ينشيء علاقة وتواصل مع الجمهور.
وقد ذكرت للجمهور المثل اللبناني القائل "ما في اكذب من مهاجر" ذلك ان المهاجرين اللبنانيين الاوائل في بدايات القرن العشرين الى الارجنتين والبرازيل كانوا يعودون لأهاليهم بقصص وبطولات لا شاهد عليها سوى حديثهم ولذلك لا يمكن التأكد من صحتها.
وطلبت من الجمهور ان لا يصدق بما سأقوله او يقوله غيري من العائدين لأننا قد نتحدث بطريقة المهاجر اللبناني!
وبناء على هذا قلت انني لن اتحدث عن نفسي وعن "بطولاتي" ما دمت مجهولا لأغلب الحضور، وانما سأتحدث كشاهد عيان على تجارب غيري.. وعلى هذا شرّقت وغرّبت في الحديث في قضايا سياسية وثقافية و"فكرية" لقرابة الساعة.
وهو حديث يشبه حديث العراقيين مع ابنائهم العائدين من الخارج، بعد الحرية التي عصفت بهم فور سقوط النظام فجعلتهم سكارى وما هم بسكارى لكن تلاطم الافكار بينهم وبهم شديد.
وقبل اعوام شاهدت فلما قديما ينصح فيه قس كبير في السن قسا شابا عن متى ينبغي له ان يختم موعظته، وركز على ان صوت تحرك الكراسي او قيام احد او اكثر بالسعال والنحنحة هي اشارات واضحة على ان الجمهور اصابه الملل وعليه ان يتوقف مهما كانت اهمية خطبته وهو ما حاولت دائما اتباعه..
ولفرط كرم جمهور كاليري مجيد وفضولهم لم اسمع كرسيا يتحرك ولم يسعل احد رغم ان غالبية الحضور كان يستطيع السعال بصوت عال بحكم الاعمار المتقدمة.
لكن هذا الكرم قابله شيء من اللؤم من قبلي اذ انني اخبرتهم انني مريض مثلهم ومثل مجتمعنا وان لا جدوى من اي فعل ان لم نعترف بمرضنا المتمثل في العيش بنمط تفكير منغلق على نفسه وعلى اللون الابيض والاسود فقط في حين ان الحياة تعج بالألوان الزاهية واللانهائية.
وزاد لؤمي عندما اخبرتهم ان العراق كما يبدو لن يبدا في عيش التغيير الحقيقي الا برحيل المتحدث ومن في القاعة وممن هم في اعمار متقدمة!
واستعنت بهذا الفأل السيء بابن خلدون الذي حدد مضي جيل على التغيير قبل ان يشهد المجتمع تغييرا (والجيل عنده يساوي 33 عاما).
وشكرا لكل من حضر "احتفالي" بمضي نصف قرن بالتمام والكمال على نشري اول مقال لي والذي صادف يوم امس.. وشكرا لكاليري مجيد والسيدة التي تديره بكرم وكفاءة.
ويا لسعادة، وحزن، من امتد به العمر فصار حكواتي ذكريات، "والذكريات صدى السنين الحاكي" كما قال احمد شوقي في جارة الوادي.