استعادة الشاعر العراقي خالد الأمين الذي مات في سجن البعث
7-كانون الثاني-2023
شريف الشافعي
هذا شاعر محاط بالقلوب، قال لصديقه ذات يوم "أنت دولاب أثواب روحي، وصندوق تعبي"، طالباً منه أن "يحافظ على الأمانة". هي عبارات كتبها الشاعر العراقي خالد الأمين (1945-1972) في رسالة لصديقه المسرحي العراقي الرائد عزيز عبدالصاحب (1937-2007). ويجوز لنا اليوم أن نقتطع هذه العبارات من سياقها ودلالاتها المقصودة منها في ذلك الوقت، كتعبير عن المودة بين "أخوين عزيزين" يتحابان ويتعاتبان برفق، لنجعلها حدساً لكل ما كان يرجوه خالد الأمين من أصدقائه المخلصين. وهو ما قد تحقق بالفعل على أفضل وجه وأكمله وأنبله، ليس فقط بحفاظهم على الأمانة، وإنما باتفاق هؤلاء الأصدقاء جميعاً في ما بينهم على أن خالد الأمين سيبقى حياً، بشعره وكفاحه وإنسانيته، بتراثه الأدبي وسيرته الحياتية كلها، ولن ينطفئ وجهه ووهجه بسبب اغتيال غادر في لحظة رديئة.
تحت هذه المظلة من الإيمان بقوة الكلمة الإبداعية، الحيوية والنضالية، وعلى مدار أكثر من 20 عاماً، انشغل الشاعر والفنان التشكيلي العراقي المقيم في هولندا علي البزاز بجمع أرشيف خالد الأمين والتدقيق فيه وتوثيقه، اعتماداً على أصدقاء الراحل وخلصائه، وعلى كل ما اختطه وورد عنه من أثر في الكتب والمجلات والصحف والمواقع الإلكترونية وغيرها، لتكون الحصيلة هذا الكتاب المهم الذي صدر حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت، بعنوان "لبعض السفر أحتاجك - قصائد خالد الأمين وشهادات عنه".
حماسة القلم والقلب
يأتي الكتاب في 236 صفحة، متضمناً كل ما أتيح من قصائد خالد الأمين، ضمن مجموعتين شعريتين. وقد ذهب علي البزاز إلى اعتبار المقدمات الإبداعية التي كتبها الأمين لأعمال الشعراء الفرنسيين (سان جون بيرس، بول إيلوار، هنري ميشو، جول سوبرفييل، بيير ريفيردي، إيف بونفوا، وغيرهم) هي بمثابة مجموعة شعرية مستقلة بعنوان "سهل وخطر كبصمة إبهام". أما المجموعة الشعرية الثانية لخالد الأمين فهي بعنوان "من أجل ضوء كثير الدماء"، وتحتوي قصائد بخط يده أتاحها صديقه الأديب عبدالرزاق رشيد الناصري، وقصيدتين أخريين منشورتين.
ويشتمل الكتاب على بعض مسودات لكتابات الأمين، وصور فوتوغرافية له في مناسبات متنوعة، إلى جانب شهادات ودراسات عنه، بأقلام كل من: أحمد الباقري، عزيز عبدالصاحب، عبدالرحمن طهمازي، عبدالحسين الهنداوي، سناء عبدالقادر مصطفى، عبدالرزاق رشيد الناصري، فاضل عباس هادي، عقيل حبش.
وفي كل ما ينطوي عليه الكتاب من قصائد ومواد، فإنه يصب في إحياء خالد الأمين من جديد، وتسليط الضوء على تجربته الإبداعية ومسيرته الحياتية، وفي كل منهما إشراقات طليعية تجريبية، وتجليات ثورية حماسية. وقد ولد خالد الأمين في مدينة الناصرية، لعائلة كردية، وانتمى مبكراً إلى تنظيم "القيادة المركزية"، المنشق عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وهو الذي قاد وقتذاك حركة "الكفاح المسلح" ضد حكم البعث العراقي في أهوار الناصرية. وعندما فشلت الحركة، اعتقل الأمن العراقي خالد الأمين، وسجنه في معتقل "قصر النهاية"، إلى أن مات قتيلاً تحت وطأة التعذيب في ظروف غامضة.
ومثلما اقترن خالد الأمين، سياسياً وحياتياً، بالأفكار والممارسات التحررية النابعة من العباءة اليسارية (التنظيمات الطلابية، اللقاءات السرية، الانحياز للطبقة العاملة وخبز الفقراء، الكفاح المسلح ضد البطش البعثي والتنكيل الدموي بالمعارضين والمختلفين)، فإنه على مستوى الكتابة ارتبط بالأقلام الشعرية والإبداعية الحرة، الداخلية والخارجية، خصوصاً في فرنسا (رامبو، بودلير، مالارميه، أراغون، أندريه بريتون، وغيرهم)، منفتحاً على الرمزية والوجودية والسوريالية والتيارات الجديدة.
وقد تزامنت بواكير قصائد خالد الأمين مع ميلاد "قصيدة النثر" في العراق، فكان أحد روادها من الوجهة التاريخية، وإن لم يحفظ له التاريخ شعراً كثيراً. وتقود أدواته المكتملة في كتابة قصيدة النثر على نحو ناضج أصيل إلى إمكانية اعتباره من الأسماء المهمة التي لا يمكن إغفالها في مجال التبشير بالحداثة الجديدة في العراق والعالم العربي :"تعلمت كيف تصير الشهقة في القلب أفيالاً، بدل أن تكون خطاً من الحمام/ تعلمت كيف يضمحل الصهيل الحار ضحكة في المحابر، وكيف في القلب تخبز الحسرة/ معك يا وجهي الحقلي، حتى آخر قرى النسوة معك/ مع الغدر الذي ينهشني كالجرب، مع انكسارات العالم كلها، ومع معطفي المفعم بالانحناء".
رحلات اكتشافية
يأتي عنوان كتاب "لبعض السفر أحتاجك" دالاً إلى حد بعيد، فلا تكاد تنطلق قصائد خالد الأمين أبداً من سكون، فهي رحلات استكشافية، ومساحات غير مستقرة للجنون، والخلخلة، والخطر، والاجتراء. وفي قصائده التي كتبها متقاطعاً مع شعراء فرنسا النابهين، يتناول في مقدمته لأعمال سان جون بيرس "السفر الطويل الاكتشافي"، الذي "يستأهل صداعنا". وفي صحبة بول إيلوار، يتسع نطاق الرحلة الأسطورية للكشف عن واقع مغاير أو "فراديس مستطاعة الوصول". ومع بيير ريفيردي، تتشكل "رحلة السر الأليف لجيل التخبط الثوري الرنان". وحينما يصل الرحالة إلى أندريه بريتون، فإنه "يأخذ نفساً ليستريح قليلاً"، ثم يعود "ليستكشف من دون زمن"!
وفي مجموعة قصائد "من أجل ضوء كثير الدماء"، ينطلق خالد الأمين إلى فضاءات أكثر رحابة وتحرراً، مع انغماس أكثر في الهم اليومي، والتمارين الاعتيادية القريبة، التي لا تخلو من حس وطني. كما أنه يخرج نسبياً من الذهنيات والأفكار المجردة، ليلتحم أكثر بمرارات الحياة وانكساراتها، إيماناً منه بأن الحياة القاسية يجب أن تعاش كما هي، وينبغي أن يتبقى منها في الحواس رحيق يشبهها ويشبهنا "الآن علينا أن نتذوق الوداعات حافة حافة/ الآن صار لكل شيء أن يذكر".
وفي هذه المعالجات اللانمطية في وقتها، فإن الهجرة قد تكون للأصابع، والموت قد يكون "رمياً بالانتظار"، وبالقنابل "المسيلة للذكريات". وتظل الارتحالات المتكررة تحتمل آلاماً إنسانية متواصلة، وخسارات جزئية متتالية "أهذا كل عمري، أيها المسافر الحزين؟". وقد تزهر من بعد الجفاف السائد ورود وأقمار في عالم الحقيقة، أو في عالم الحلم "أحلم أن تثب من أعمق آلامنا بلدان مزركشة"، أو في عالم ما بعد الغياب "على رغم أن الأصابع هاجرت، وعلى رغم أن الأرصفة صارت وطن المفاتحة الطليقة، ظلت مناديل الوداع: وردة قمرية، شهقة تحاصر السنين بحنين الكلام".
ويبقى من أبرز ملامح تجربة خالد الأمين كذلك، حرصه على التقديس الواعي لمعنى الفرادة في الكتابة وفي الحياة، على السواء. فالشاعر، والإنسان الحقيقي الفاعل عموماً، هو ذلك الذي "لا يشيع بين المرايا وجهه". أما الانتحار الشاعري، فإنه الافتقار إلى الدهشة، واللجوء إلى الإقناع التقليدي، الذي لا يعدو أن يكون مجرد "لباقة في الاحتيال"!