كارين إي يونغ
أدت الحرب المستمرة منذ تسعة أشهر بين إسرائيل وحركة "حماس" في قطاع غزة إلى تدمير الاقتصاد الفلسطيني. ووفق البنك الدولي، كان الناتج المحلي الإجمالي لغزة في الربع الأخير من عام 2023 – الذي يعكس فقط الأضرار التي أحدثتها بداية الحرب – يقل بنسبة 86 في المئة عما كان عليه في الربع الأخير من عام 2022، ويؤثر انعدام الأمن الغذائي الآن في 95 في المئة من سكان القطاع. وفي الضفة الغربية، ارتفعت نسبة البطالة من 13 في المئة في الربع الثالث من عام 2023 إلى 32 في المئة بحلول نهاية ذلك العام، وهو أعلى معدل مسجل. وتُدفع السلطة الفلسطينية الحاكمة إلى حافة الانهيار المالي التام، وخلص تحليل أجرته "مجموعة الأزمات الدولية" في يونيو (حزيران) الماضي إلى أن ديون السلطة للمصارف التجارية ومتأخراتها لصندوقها المخصص للمعاشات التقاعدية ارتفعت إلى ما يصل إلى 11 مليار دولار.
عندما بدأت الحرب، توقع بعض المحللين لهذه الآثار الاقتصادية السلبية أن تمتد في أنحاء المنطقة كلها، وتؤدي إلى زيادات حادة في أسعار الطاقة وانخفاضات في عوائد السياحة. لكن هذا لم يحدث. لم تؤدِّ الحرب بعد إلى خلل خطير في أسواق الطاقة، المقياس المعتاد لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط. كذلك لم تتدهور قدرة اقتصادات المنطقة على الاستدانة الواسعة النطاق: بلغت إصدارات السندات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 73 مليار دولار في النصف الأول من عام 2024، بزيادة قدرها 59 في المئة عن الفترة نفسها من 2023. وليس من المستغرب أن تستقطب السعودية 49 في المئة من عوائد تلك السندات، تليها الإمارات العربية المتحدة بنسبة 29 في المئة ودولة قطر بنسبة 10 في المئة.
ما كان ينبغي لهذا الاستقرار أن يشكل مفاجأة. والسبب في ذلك هو أن واشنطن ترى منذ عقود، بصورة خاطئة، اقتصاد الشرق الأوسط اقتصاداً مترابطاً، يغذيه النفط والغاز في الخليج. وكثيراً ما دفع هذا الرأي المسؤولين الأميركيين إلى استبعاد الدبلوماسية الاقتصادية. ومع نمو اقتصادات الخليج، توقع هؤلاء المسؤولون أن تعتمد عافية المنطقة الاقتصادية على عمليات الإنقاذ المالي والاستثمارات المحلية – وهو توقع تحقق إلى حد ما بعد "الربيع العربي"، عندما تسابقت دول الخليج على إنقاذ مصر.
لكن بلدان الشرق الأوسط تتباهى منذ فترة طويلة بقدرات اقتصادية تختلف اختلافاً صارخاً، وينقسم الاقتصاد الإقليمي بين بلدان مصدرة للطاقة وأخرى مستوردة لها. حتى هذا الانقسام يصبح الآن أكثر تعقيداً. منذ "الربيع العربي"، تتجاوز مزايا دول الخليج بكثير الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيات الذي تسعى إليه البلدان المجاورة الغنية بأصول في مجال الطاقة لكن التي تعاني سوء الإدارة مثل الجزائر وإيران والعراق وليبيا. علاوة على ذلك، منذ عام 2016، يقل ميل دول الخليج الأكثر ثراء إلى تقديم المساعدات والاستثمارات والفرص التجارية إلى البلدان المجاورة في ضوء سعيها إلى الاستثمار محلياً والاستعداد لمستقبل ما بعد الموارد الكربونية.
ولكن المبادرات الاقتصادية الأميركية تجاه المنطقة لم تواكب هذا الواقع. فقد ركزت هذه المبادرات عادة على إنشاء ممرات تجارية جديدة باتجاه الغرب وعقد صفقات أسلحة وحض الحكومات على الانضمام إلى الاستثمارات في أمن الطاقة الأميركية (بما في ذلك المعادن الحيوية في أفريقيا) وتعزيز التكنولوجيا والوصول إلى الطاقة في إسرائيل وشرق البحر المتوسط. لكن يتعين على الولايات المتحدة أن تعترف بأن سوق البلدان المصدرة للطاقة في المنطقة والطلب على الطاقة في المستقبل يكمنان في الصين والهند واليابان. أما الترويج لفكرة طرق التجارة الجديدة والشراكات باتجاه الغرب فهو مجاملة دبلوماسية، لكنه لن يحقق كثيراً على صعيد تغيير الاتجاه الاقتصادي للمنطقة.
وليس توقع تغيير مسار الحرب في غزة من خلال اتفاقات سلام وروابط تجارية سوى خطأ مماثل. ففي كثير من الأحيان، تَعِدُ سياسة واشنطن الخارجية بأكملها تجاه الشرق الأوسط بمنافع اقتصادية واسعة النطاق في مقابل السلام. غير أن هذه المبادرات يعقدها بقاء موقف الولايات المتحدة الأساسي تجاه إيران من دون تحديد منذ انسحاب الرئيس السابق دونالد ترمب من الاتفاق النووي الإيراني المبرم عام 2015. ويشجع هذا التناقض الاستراتيجي إيران على مواصلة دعم الجماعات الإرهابية الإقليمية وتهديد كل من الحوكمة والنمو في العراق ولبنان وسوريا.
لم تمنع إيران بعد دول الخليج من النمو اقتصادياً، لكن شبح الإرهاب وتعطيل طرق العبور من قبل الجماعات المدعومة من إيران لا يزال يشكل تهديداً مستمراً. وإذا عملت الولايات المتحدة بجدية أكبر لتعطيل أنشطة إيران الإقليمية الخبيثة، فلن يغير ذلك توجه دول الخليج المتزايد نحو الشرق. لكنه سيكون، في الأجل القريب، أفضل طريقة تتبعها واشنطن لإفادة الشرق الأوسط ككل – وسيكون أكثر فاعلية من المحاولات الحالية المضللة لجمع اقتصادات المنطقة المتنوعة معاً وتوجيه نموها غرباً.
العمل كالمعتاد
بقدر ما كانت الحرب بين إسرائيل و"حماس" مدمرة لحياة الفلسطينيين، هي تكشف عن المسار الاقتصادي الحالي للشرق الأوسط أكثر مما تغير هذا المسار. وتظل الآثار الاقتصادية للمعارك الدائرة منذ العام الماضي في غزة محتواة نسبياً، على رغم النزاع المباشر بين إسرائيل وإيران والغضب العربي الواسع النطاق من العمليات العسكرية الإسرائيلية. لكن غزة كانت معزولة بالفعل قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ولا تنتشر عدوى انهيارها الاقتصادي، على رغم أن أزمة لجوء بكل ما للكلمة من معنى من شأنها أن تلحق دماراً اقتصادياً وسياسياً فورياً بمصر.
وتأثر الاقتصاد الإسرائيلي بصورة حتمية بالحرب في غزة. وأصاب الخلل سوق العمل بسبب استدعاءات الخدمة العسكرية الاحتياطية. وارتفع الإنفاق الحكومي بأكثر من 88 في المئة في الربع الأخير من عام 2023، ويعتمد اقتصاد البلاد بصورة متزايدة على الاستدانة، مما قد يؤدي بمرور الوقت إلى ضعف العملة ونشوء ضغوط تضخمية. وخارج إسرائيل وغزة، يُعدّ الشحن عبر البحر الأحمر الأكثر تضرراً. فانخفضت إيرادات قناة السويس بما يقارب الربع بين يوليو (تموز) 2023 ويونيو (حزيران) 2024. لكن مع اتفاق إقراض سخي بقيمة ثماني مليارات دولار أُبرم مع صندوق النقد الدولي، إضافة إلى قروض من الاتحاد الأوروبي وإيرادات بقيمة 35 مليار دولار من مبيعات أراضٍ إلى دولة الإمارات، تجنبت مصر أزمة مالية حادة.
وخارج إسرائيل والأراضي الفلسطينية، لا تزال المنطقة تتكيف بصورة عامة. ومن شأن مجرد قيام إيران بأي خطوة للدفاع عن "حماس" و"حزب الله" ومهاجمة البنية التحتية النفطية أو ممرات العبور أن يهز أسواق النفط في الشرق الأوسط. ولم تشهد تجارة النفط أي تعطل مادي في أكثر نقاط الاختناق ضعفاً، مضيق هرمز، إذ شهد عبور ما يقارب 15 مليون برميل من النفط الخام والمنتجات النفطية عبر هذا الممر المائي كل يوم خلال الربع الأول من عام 2024، في حين أن نحو 20 في المئة من صادرات الغاز الطبيعي المسال في العالم مرت من دون عوائق من دولة قطر عبر المضيق. ويعتقد محللون في "معلومات الطاقة" Energy Intelligence، وهي شركة بيانات وتحليلات، بأن الأخطار على أسواق النفط احتُسبت بالفعل إلى حد كبير بعلاوة تراوح ما بين ثلاثة وخمسة دولارات للبرميل. وتؤدي وفرة المعروض من خارج "أوبك"، لا سيما من الولايات المتحدة، إلى منع أسعار النفط من الارتفاع.
ولأن البلدان المنتجة في "أوبك+" – بقيادة روسيا والسعودية – مددت العمل بتخفيضات الإنتاج حتى عام 2025، من المرجح أن يستمر الطلب العالمي على النفط في تجاوز العرض، مما يعزز الأسعار إلى نطاق 85 دولاراً للبرميل بحلول نهاية العام. وعلى رغم أن الولايات المتحدة تواصل فرض عقوبات على إيران، لا يرغب القادة الأميركيون في إثارة نزاع مباشر أو إعاقة قدرة إيران على تصدير النفط بالكامل، مما يحافظ على استقرار أسواق النفط وانخفاض الأسعار. وحتى عندما قرر الرئيس الأميركي جو بايدن في أبريل (نيسان) الماضي تشديد العقوبات الأميركية على النفط الإيراني الموجه إلى الصين من خلال مصدرين ثانويين – أي ماليزيا والإمارات العربية المتحدة – لم تتأثر أسعار النفط. ويواجه مسؤولو وزارة الخزانة الأميركية صعوبة في ردع عملية إعادة تصنيف المنتجات النفطية الإيرانية كأنها منتجات من بلدان أخرى، ولا تزال إيران تتهرب من برنامج العقوبات الأميركية بسهولة نسبية وتواصل عرض منتجاتها النفطية في السوق.
توجات مختلفة
على نطاق أوسع، يفشل واضعو السياسات في الولايات المتحدة في إدراك أن أغنى اقتصادات المنطقة تركز على تعزيز شراكاتها التجارية مع آسيا، وليس مع الغرب، ومع التنافس مع بعضها بعضاً. من الناحية العملية، يتحول الشرق الأوسط إلى مجموعة من البلدان "الهامشية" الغارقة في النزاع (العراق ولبنان وليبيا وسوريا واليمن) أو الراكدة (مصر وإيران والأردن) مع تقلص نموها وروابطها بالأسواق العالمية. في أبريل 2024.