محمد عبد الجبار الشبوط
منذ عقود وانا اتحدث عن ظاهرة تخص المجتمعات المسلمة بالوراثة والتي تعاني من التخلف الحضاري، وهي ظاهرة اسلمة التخلف.
لنبدأ من المصطلح الاول: "المجتمعات المسلمة بالوراثة". وهي المجتمعات الموجودة في بلدان العالم الاسلامي والتي "ورثت" الاسلام من مجتمعات الاجيال الاولى التي دخلت الاسلام بفعل الدعوة وقبول الدعوة التي قام بها المسلمون الاوائل على مدى المئة سنة الاولى من بعثة الرسول محمد (ص). بعد الف ونيف من هذا التحول التاريخي اصبح لدينا مجتمعات توصف بانها "مسلمة" او "اسلامية": تؤمن بالاسلام، ولكنها لا تفهمه حق الفهم ولا تطبقه حق التطبيق.
هذه المجتمعات، وبفعل عوامل تاريخية داخلية وخارجية، اصيبت بمرض التخلف الحضاري، وهذا هو المصطلح الثاني في مقالنا وهو مرض يصيب "المركب الحضاري" للمجتمع، وهو عبارة عن خلل حاد يصيب منظومة القيم الحافة بعناصر المركب الحضاري للمجتمع، وهي: الانسان والأرض والزمن والعلم والعمل. وتنتج عن هذا المرض، اي التخلف، ظواهر سلبية كثيرة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والثقافة والعادات والتقاليد الخ. ومن بين اكثر هذه الظواهر خطورة الفهم السلبي للدين، وهو ما يقابل الفهم الحضاري للدين. فالله سبحانه وتعالى ارسل الانبياء من اجل تحرير الانسان من الجهل والعبودية والظلم والكسل واقامة حياة الانسان على اساس العدل والكرامة والحرية والاستمتاع بثروات الطبيعية والعمل المنتج. وهذا هو الفارق بين الفهم الحضاري والفهم السلبي للدين.
ولكن بسبب ان المجتمع المتخلف حضاريا مسلم بالوراثة، فان هذا سوف ينتج ظاهرة خطيرة اخرى هي: اسلمة التخلف، وهذا هو المصطلح الثالث في مقالنا، وهو اضفاء صبغة اسلامية على العادات والتقاليد والافكار المتخلفة، اي التي انتجها التخلف، فيعتقد الناس بمرور الزمن ان هذه عادات وممارسات اسلامية. وهذا هو نفس المرض الذي اصاب مشركي العرب الذين عبدوا الاصنام وهم يعتقدون انها تقربهم الى الله زلفى، او كما قال القران الكريم:"وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ". لا يستطيع المجتمع المسلم بالوراثة التخلي عن دينه، ولكنه لا يستطيع في الوقت ذاته التحرر من اغلال التخلف، فيلجأ الى الحل الاسهل وهو الجمع بينهما. ولكن هذا الحل ليس حلا؛ انما هو مشكلة جديدة. فهو يعطي صورة غير صحيحة عن الاسلام من جهة، ويكرّس التخلف باسم الاسلام من جهة ثانية. وهذه مشكلة معقدة ادركها وادرك صعوبتها بعض رواد النهضة من العلماء المسلمين امثال جمال الدين الافغاني ومحمد باقر الصدر ومهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله وغيرهم. واعلنوا في نفس الوقت المعركة المزدوجة: المعركة ضد التخلف والمعركة ضد الفهم السلبي للدين. وكان هذا واضحا جدا في افتتاحية العدد الاول لمجلة "الاضواء" النجفية ومقدمة الطبعة الثانية لكتاب "اقتصادنا" اللتين كتبهما السيد محمد باقر الصدر الذي كتب يقول:"لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف ان تؤدي دورها المطلوب الا اذا اكتسبت اطارا يستطيع ان يدمج الامة ضمنه وقامت على اساس يتفاعل معها"…"فنحن حين نريد ان نختار منهجا او اطارا عاما للتنمية الاقتصادية داخل العالم الاسلامي يجب ان ناخذ هذه الحقيقة اساسا ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف". والامة تعني جميع المواطنين و رعايا الدولة. وهذا ما يجب او يقوم النظام التربوي بقسط كبير منه اذا استطاعت الجهات المختصة جعله نظاما للنهضة وليس لحشو التلاميذ بمعلومات لغرض النجاح في الامتحانات. وبالعودة الى عنوان المقال، فان معالجة اسلمة التخلف تمكن بتربية الاجيال على الفهم الحضاري للدين، من بين امور اخرى كثيرة بطبيعة الحال .