اغتيال الهُوية . . . تفكيك الأوهام وتعرية الشائعات المناوئة للعرب والمسلمين
28-أيار-2023
عدنان حسين أحمد
صدر عن مؤسسة "أبجد للترجمة والنشر والتوزيع" بمحافظة بابل في العراق كتاب جديد يحمل عنوان "اغتيال الهُوية" للشاعر والرحّالة العراقي باسم فرات. ومَنْ يتصفح هذا الكتاب على عجل سيكتشف من دون لأي أنه يشكّل انعطافة قوية للباحث من الشِعر وأدب الرحلات اللذين كرّس لهما حياته تقريبًا إلى تاريخ العراق وجغرافيته، وتنوّعه اللغوي، والعقائدي، والمناطقي مُلامسًا العديد من الجوانب الفكرية والسياسية والإناسية، إن شئتم، وأكثر من ذلك فإنّ مادة الكتاب مُستفزة، ومثيرة للجدل، ولاذعة في بعض الأحيان. يتألف الكتاب من مقدمة مُستفيضة، واستهلال زاخر بالأفكار الحسّاسة، والآراء الجريئة الصادمة، وثلاثة وعشرين فصلاً مُعززًا بالهوامش والمصادر والإحالات (الضئيلة) قياسًا بهذا الموضوع الكبير.
يوضِّح باسم فرات في مقدمته بأنّ ولعهُ اللامحدود بالشعر هو الذي سيطرَ عليه في مُقتبل شبابه وأخذ بعقله وحوّاسه وأجلّ رغبتهُ في تنفيذ مشروع قراءة تاريخ العراق، ولكنه ما إن انتقل إلى الأردن في أواسط التسعينات من القرن الماضي حتى وجد ضالته في "مكتبة أمانة عمّان الكبرى" التي قرأ فيها كثيرًا عن المذاهب الإسلامية، وحينما هاجر إلى "وُلنْغتُن"، عاصمة "زي" الجديدة "نيوزلندا" قرأ كثيرًا عن التنوّع العِرقي، وتعرّف جيدًا على القوميات والإثنيات العراقية فكانت عاملاً رئيسًا في فهم سرديات المركز وسرديات الأطراف، فاستوعب في حينه ثقافة الإلغاء والإقصاء والتزوير التي كانت سائدة ولا تزال في برامج الأحزاب السياسية وخطابات نُخبها الهزيلة ليخرج بنتيجة مروّعة مفادها غياب أية سردية عراقية تحتفي بالتنوّع ووحدة التراب العراقي التي اتفق عليها غالبية المؤرخين والجغرافيين من العرب والمسلمين وغيرهم.
يعتقد الباحث أنّ القوميين العرب زعموا أنّ هذه الحدود رسمتها اتفاقية "سايكس- بيكو" عام 1916م وأنّ المعارضينَ من الحركات القومية غير العربية والإسلامية تتفق معهم في هذه الفِرية التي تتعلّق برسم الحدود العراقية وتثبيتها وكلهم يعملون على تدمير حدود العراق، فالقوميون غير العرب، من وجهة نظر الباحث، "استحضروا التاريخ قسرًا، وكان تزويرهم له أشدّ من عنف الأنظمة العربية فأصبحت كل قومية وإثنية تمتلك تاريخًا عريقًا يمتدّ إلى 6500 سنة في أحد أقدم بلدان العالم شغفًا بالكتابة وغزارة بالتدوين، وأغلب هذه الفئات اللغوية شفاهية؛ أو كانت شفاهية حتى الحرب العالمية الأولى ولا تمتلك مدونات كثيرة بلُغتها حتى بداية الربع الثالث من القرن العشرين".
ويرى الباحث أنّ المشاريع المذهبية ترفض المواطنة التامة حتى لأبناء الديانة الواحدة فيستنزفون الوطن ولا يتورعون عن تمزيقه بحجة إقامة دولة العدل الإلهي. فثقافتهم تناهض الدولة المدنية أو دولة المواطنة التي يكون فيها للإنسان القيمة العليا بغض النظر عن خلفيته القومية والإثنية والعقائدية.
الآثوريون سريان نساطرة
لم يكتفِ باسم فرات بالمقدمة التي دبّجها لكتابة الإشكالي فأردفها باستهلال ينطوي على تفاصيل جوهرية صادمة بالنسبة إليه حينما قرأ في كتاب "العراق من الاحتلال حتى الاستقلال" لعبد الرحمن البزاز (1913- 1973م) فصلاً بعنوان "فتنة الآثوريين" التي يمكن أن نلخّصها بأنّ "البريطانيين قد جلبوا الآثوريين إلى العراق من تركيا عبر إيران قُبيل نهاية الحرب العالمية الأولى". وهذا يعني أن "الآثوريين ليسوا بآشوريين، وإنما سريان نساطرة جاء بهم الاحتلال البريطاني سنة 1918م على وجه التحديد. كما يُعزّز هذا الرأي ماتفيف بارمتي، وهو سرياني، نسطوري "آثوري" في كتابه المعنون "الآشوريون والمسألة الآشورية في العصر الحديث" الذي أشار فيه إلى أنّ "الآثوريين" كانوا في حكاري وتياري العليا والسفلى - في تركيا اليوم- ودخلوا لاجئين في جيش الاحتلال البريطاني. ثم تكررت المعلومة نفسها في كتب ومصادر أخرى لم يتسع لها البحث كما جاء على لسان الباحث الذي خلص من خلال قراءته الموسعة أن 80 ألفَ سرياتي لجؤوا إلى العراق بضمنهم النساطرة يعني ببساطة شديدة أنّ أكثر من نصف مليون سرياني لم يُولد جده الرابع في العراق، وأنّ معظم الكورد دخلوا العراق هربًا من استبداد الصفويين وإجبارهم على تغيير مذهبهم. وسوف تقوده قراءته الموسوعية إلى أنّ العراق وبلاد الشام ومصر هي أقاليم كتابة وتدوين ويفتخر بأنّ 116 شاعرة عربية ولدنَ قبل الإسلام، وهو رقم كبير تفتقر إليه لغات العالم قاطبة. ويضيف الباحث بأنه قرأ لـ 24 باحثًا آخر أولهم طه باقر وآخرهم عزيز سباهي إضافة إلى كتب مترجمة إلى اللغة العربية وتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ نخب المجموعات اللغوية غير العربية تُعيد أصولها إلى الأقوام القديمة التي سبقت الإسلام بآلاف السنين وهي سردية مُنتَحلة، ومُزوّرة، ومليئة بالأوهام والأمجاد المتَخيَّلة، ولا يجد حرجًا في تسميتها بـ "الإرهاب الكامن". ويتباهى الباحث بأنّ المجموعات اللغوية من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا لم تبنِ مُدنًا تاريخية وثقافية وحضارية مثل البصرة وبغداد عمرها يكاد يزيد على الأربعين جيلاً وبلغة واحدة مفهومة إلى يوم الناس هذا.
گلگامش وأنخيدوانا
يتمحور الفصل الأول على الفرق بين البداوة المنبسِطة والبداوة الوعرة. فالبداوة المُنبسِطة، بحسب المؤلف، هي المجموعات اللغوية التي سكنت السهول والأراضي التي تمتد من سفوح جبال زاگروس وطوروس، وانتهاءً بالبحر المتوسط ودلتا النيل، والجانب الشرقي من سواحل البحر الأحمر، وسواحل الخليج العربي والمحيط الهندي، والمجموعة الأكبر وصاحبة الحضور الثقافي الأهم هم العرب. أمّا البداوة الوعرة فيعني بها المؤلف سكّان جبال زاگروس وطوروس، والهضْبة الإيرانية، وأعالي هضْبة الأناضول، وأصحاب الحضور الثقافي الأهم هم الفرس، ثم يأتي الأتراك من حيث ثقلهم السكّاني والعسكري، ولحداثة وجودهم في المنطقة ظهر نتاجهم بلغتهم التركية متأخرًا عن الفرس وعن العرب بطبيعة الحال. (فالعراقي يتبختر بأنه صاحب الريادة في الشعر والملحمة والقوانين والعجلة وبناء أولى المدن فلا ملحمة سبقت گلگامش، ولا شاعرة سبقت "أنخيدوانا") كما أنّ العرب أنشأوا حضارة ملموسة لا يمكن تناسيها أو غض الطرف والحضارة من وجهة نظر باسم فرات تُبنى على أساسين: الأول، الكتابة والتدوين، والثاني العمارة؛ أي بناء المدن إضافة إلى رفدها بالقوانين، وسجلات الدولة من واردات وصادرات ورواتب وما إلى ذلك. ويضع المؤلف تسلسل اللغة العربية بعد اللغتين اليونانية واللاتينية، أمّا اللغتان الفارسية والتركية فيضعهما في خانة البداوة الوعرة. لقد شيّد العرب مدنًا كثيرة بدءًا من أريدو وأور ولگش وبابل ونينوى ونفّر والوركاء، ومرورًا بالبصرة والكوفة وواسط وبغداد، وانتهاء بميسان والحضر والحيرة والأنبار وكان غالبية بُناتها من العراقيين من المنطقتين الجنوبية والغربية، أي من أبناء البداوة المنبسطة فكيف تكون هذه البداوة رمزًا للتصحّر والهمجيّة والتخلّف؟
يعرّج الباحث على موضوع "سطوة السرديات المهيمنة" ويبيّن أنّ المجموعات اللغوية الشفاهية تعتمد على طريقتين مفضّلتين لها في الظهور بمظهر أصحاب الحضارة والمؤسسين لها حيث تتمثّل الأولى بخلق نسب متوهم مع الأقوام القديمة جدًا، والثانية نسبة أعلام الأمم الأخرى لها. وهؤلاء يقرّون بنقائهم العِرقي ودمائهم التي لم "تتلوث" مع الأقوام الأخرى، وهذه فكرة إقصائية وإلغائية وعنصرية تقف بالضد من اختلاط الشعوب في كل الأزمنة. وفيما يتعلّق بحق تقرير المصير يرى باسم فرات بأنّ أي مجموعة لغوية عرقية لا يحق لها المطالبة بهذا الحق ما لم تكن صاحبة الأرض؛ أي أنها تشكّل غالبية سكّانية وثقافية واجتماعية لعشرات الأجيال قبل القرن العشرين، والتركيز على الجانب الثقافي والتدويني بوصفه دليلاً على وجود حقيقي وفاعل لمجموعة ما، وما عداه فرضيات ونظريات موهومة وخادعة. ويختم الباحث فصله بتعريف الاحتلال بأنه "كل مجموعة بشرية انتقلت بقوة السلاح أو بالهجرة إلى أرض جديدة فتنسبها لها . . . فليس الغزاة من جاءوا بجيوشهم الجرّرة وأسلحتهم فقط، إنما الغزاة أيضًا كل مجموعة لغوية تهاجر إلى مكان ما، وبعد جيلين تنسبهُ لها، وذاكرة المكان التدوينية لا تنتمي لها" الأمر الذي يفضي إلى إقصاء الآخر؛ الشريك في الوطن، ويُطلق على هذا النوع من الغزو بـ "الإرهاب الكامن".
أكذوبة النقاء العِرقي
يفرّق الباحث بين ثلاثة مصطلحات وهي العِرق والإثنية والقومية؛ فالعِرق هو المرحلة الأولى في حياة شعب ما لم يجرّب المدَنيّة وهو نادر الاختلاط بأعراق وإثنيات وقوميات أخرى. وحينما يختلط العِرق بالأعراق الأخرى يرتقي إلى مرحلة الإثنية. والإثنية تمتلك لغة شفاهية دُوّنت مؤخرًا. أما القومية فهي مجموعة سكانية تخلو من النقاء العِرقي ولها ذاكرة جمعية كتابية تمتد لقرنين من الزمان في أقل تقدير. ويرى الباحث أن الإثنيات هي روافد تصب في نهر القوميات ولا يجافي الحقيقة حينما يقول:"إنّ الإثنيات هي ملح البشرية".
يؤكد باسم فرات بأنّ العرب عرفوا الكتابة في بداية الألف الأول قبل الميلاد والنقوش العربية التي عُثر عليها في أور ونفّر وأبي الصلابيخ يعود تاريخها إلى القرن التاسع والثامن والسابع قبل الميلاد. ويفرّق الباحث أيضًا بين اللغات الشفاهية والكتابية والتدوينية. فالشفاهية لم يتم الكتابة بها في الماضي، واللغة الكتابية تفتقر إلى الكُتاب والأعلام والسير والموسوعات، أمّا اللغة التدوينية فهي على العكس من سابقتها لأنها تنطوي على تراث كبير من الكتاب والأدباء والشعراء ومنجزاتهم الإبداعية. ويرى الباحث أنّ اللغات التدوينية الثلاث هي اليونانية والسريانية واللاتينية ثم جاءت العربية ولتصبح أوسع لغة من حيث الإنتاج الكتابي.
يُرجع الباحث بدايات اللغة العربية في العراق إلى المرحلة التي سبقت الإسلام لكن الرواية المشهورة تقول إن الطبقات الأربع من مؤسسي النحو العربي هم عربٌ في الأعم الأغلب وهم على التوالي: علي بن أبي طالب، وأبي الأسود الدؤلي، وتلميذه نصر بن عاصم الليثي الكناني (الذي وضع النقاط على الحروف في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي) وتلميذه يحيى بن يعمر العامري البصري، إضافة إلى أبي عمرو بن العلاء التميمي، وعبدالله بن أبي إسحق الحضرمي، وهذا يعني أنّ عِلم النحو علمٌ عربيٌ خالص، ومنْ لم يكن منهم عربيٌ كسيبويه إلاّ أنه نشأ بين العرب وتشبّع بثقافتهم وعلومهم.
يذهب الباحث إلى العرب من الشعوب التي مارست الكتابة منذ زمن مبكر سبق الميلاد بقرون ثم انتقلت إلى الطور التدويني، والتدوينية هي لغة التعبير عن الأفكار وذات قصدية معرفية. ولابد من الإشارة إلى عدد النقوش العربية التي تمّ العثور عليها قد بلع 12 ألف نقشًا وهو عدد كبير جدًا. والغريب أنّ اللغة العربية لم تتسبّب بموت أية لغة محايثة لها.
الخط العربي ابتكار عراقي
تقرّ الروايات العربية بأن الخط العربي هو ابتكار عراقي وإن اختلفوا في نسبته بين الحيرة والأنبار وقد ذكر عبدالله بن مكحول بن مسلم بـ "أنّ نفرًا من أهل الأنبار من إيادٍ القديمة وضعوا حروف: ألف. ب. ت. ث وعنه أخذتهُ العرب".
ينتقد الباحث في الفصل الثامن ابن خلدون الذي يقول:"من الغريب الواقع أنّ حَمَلة العِلم في المِلّة الإسلامية أكثرهم العجم" أو أن يضع العراق ضمن بلاد العجم من دون أن يعرف الموقع الجغرافي لهذا البلد العريق مع العلم أن صاحب كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي البشاري يحدد الأقاليم العربية بأنها ستة ويضع العراق الإقليم الثاني بعد شبه الجزيرة العربية.
يدور الفصل التاسع حول العرب والصورة النمطية التي رسمها الشركاء الآخرون في الوطن وهي صورة سلبية وسيئة جدًا لأنها تتهم العقل العربي بالعنصرية والتعالي والغرور بينما العقل العربي في واقع الحال متواضع ومنتج ومحب لشركائه. وهذه الصورة المشوهة لا تتوخى الدقة والأمانة العلمية، فلقد خلّف العقل العربي خمسة ملايين كتاب تراثي وآلاف من الشعراء والكُتّاب والقصاصين والروائيين والنحويين كما قدّم العرب ابتكارات لم يعرفها غيرهم مثل إنجاز اول معجم في تاريخ اللغات في العالم وهو معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي. فليس من المعقول أن يمجد الشريك ذاته وأن يمارس سياسة التسقيط على صاحب الأرض الذي لم يعد يؤمن بثنائية السكّان الأصليين والسكان الطارئين أو مبدأ الأكثرية والأقلية، فالجميع سواسية في دولة المواطنة التي يحلم بها المواطن العربي في كل مكان.
يتوقف الباحث عند سردية المركز وسردية الهامش والتناقض الحاد بينهما لأن سردية المركز تمجد السلطة وسردية الهامش تتبنى المظلومية ولا تعترف هاتان السرديتان بالتلاقح والتزاوج والاختلاط. ويرى الباحث أن سردية الهامش المحكومة أكثر عنفًا من سردية المركز الحاكمة وتتهمها بالنَفَس الاستعلائي العنصري. كما يتوقف المؤلف عند الممالك العربية العشر التي أوشكت أن تؤسس إمبراطورية في عهد أُذينة بن خيران الذي لم يتحدث عنه أحد.
يؤكد باسم فرات بأنّ اتفاقية سايكس- بيكو عام 1916م ولدت ميتة، وكانت تنص على منح ولاية الموصل لفرنسا مع سورية ولبنان. ولكن ما إن ظهرت الولايات المتحدة كقوة سياسية واقتصادية جديدة وصعود نجم كمال أتاتورك كقائد قوي ومصلح منفتح على أوروبا حتى أدّت بالمتعاقدين البريطانيين والفرنسيين إلى إعادة النظر بالمعاهدات والاتفاقيات. ولم تعد اتفاقية سايكس- بيكو أكثر من حبر على ورق. يرى الباحث أنّ حدود العراق كانت تمتد من الموصل (منطقة الموصل وليس المدينة) شمالاً إلى بلاد عبّادان جنوبًا، وأنّ الأعراق والإثنيات لا عمق لها في العراق بخلاف تاريخ العراق ومصر وسورية الذي يمتد لآلاف السنين.
الاحتكام إلى الميراث المُدوَّن
يبيّن الباحث في الفصل الثاني عشر بأن بعض الإثنيات قد كتبت تاريخين في آنٍ واحد؛ الأول يقوم على خلق أمجاد عظيمة، والثاني يؤسس لمنظومة سلوكية تقوم على المظلومية ليس الهدف منها إظهار ما تعرّضت له من مظالم وإنما لجعل الفئات الأخرى تشعر بعقدة الذنب. كما لاحظ الباحث انتشار خرائط لقوميات وإثنيات معروفة، فالمسيحي السرياني مُنح ختم (ابن العراق الأصلي) وهم الذين أتى بآلاف مؤلفة منهم الاحتلال البريطاني عام 1918م، والشبك الذين جاء بهم الصفويون، وآلاف الكورد الذين دخلوا من نقطة حدودية معروفة وغيرهم من الأرمن والأتراك وأقوام أخرى ليست بعيدة عن الحدود العراقية. يقترح الباحث فضلاً عن الآثار والنقوش والمسكوكات اعتماد الميراث المدوّن في شماليّ العراق، والنظر إلى ما أنتجته البيوتات والأُسر من نتاجات ثقافية وإبداعية.
ينتقي الباحث أحداثًا اختلقها الرواة أو أضافوا إليها الكثير من مخيّلتهم المجنّحة مثل روايات بني قريظة عن مجزرة أُرتكبت أمام أنظار الأوس والخزرج. وحادثة قتل خالد بن الوليد المزعومة لمالك بن نويرة وزواجه من أم تميم، أرملة مالك. كما يتوقف الباحث عند المستشرق كلاوس كلير الذي يُعدّ أكثر رحمة ورأفة وإنصافًا للعرب وللإسلام من أهله الذين اتفقوا على عدم تخليص السرديات الإسلامية من الشوائب التي ألحقها بها خيال المؤرخين.
يقسّم الباحثُ الإرهابَ إلى نوعين: الأول مُعلن، والثاني كامن. والإرهاب المُعلن هو نتاج طبيعي لمناهج دراسية لا ترى في الإسلام والتاريخ سوى معارك، وبطولات، وفتوحات، وسبف مسلّط على رقاب الناس. والثاني إرهاب كامن مفاده أنّ العرب غُزاة وموطنهم الوحيد هو صحارى نجد والحجاز،ويجب طردهم ورميهم بكل المُوبقات ليتمّ تجريمهم ومحاسبتهم على ما اقترفوه من جرائم وأفعال مشينة. ويشدّد الباحث على ضرورة التركيز على آيات التسامح والتعايش ولغة الحوار لوضع الأشياء في مواضعها الصحيحة.
ثقافة الاعتذار
يثير باسم فرات في فصل مطول سؤالاً مهمًا مفاده: هل أن ما حصل لبغداد ودمشق هو انتقام تاريخي؟ فلقد سعت أطراف محلية وعالمية إلى تحويل بغداد ودمشق من عاصمتين مهمتين إلى مركزيين إداريين انتقامًا من دوريهما التاريخي الذي لعباه في بناء الحضارة العربية والإسلامية. وقد دأب متطرفو الأقليات على إنكار الوجود الإقليمي لسورية والعراق قبل العشرينات، وذهبت وسائل التواصل الاجتماعي إلى نشر خرائط مذهبية وقومية عنصرية لتمزيق المنطقة إلى دويلات صغيرة مع أن حدود البلدين معروفة لدى المؤرخين المسلمين والعرب وبعض الأجانب. ودعا الكاتب في نهاية هذا الفصل إلى تكريس ثقافة الاعتذار التي يعدّها شجاعة تعادل شجاعة الوقوف أمام الذات وتعريتها وتفكيكها لوضع الحلول الناجعة لها.
يكرّس الباحث فصلاً خاصًا لتعريف المثقف الذي يندرج تحته الشعراء والأدباء وحَمَلة الشهادات العليا لكن الشعر في الثقافة الغربية ثانوي وأنّ قارئ الإبداع ليس مثقفًا لأن من شروط المثقف في الثقافة الغربية هي "قراءة الفكر وحفريات المعرفة" ولا غرابة في أن نرى غالبية الناس تقرأ الروايات في القطارات ومتروهات الأنفاق ولكنهم لا يُعدّون مثقفين بحسب التعريف الغربي. ويرى الباحث أنّ الشارع العربي أسبق وأسرع استجابة من النخب الثقافية ويورد مثالاً طريفًا لأساتذة الجامعات الذين تظاهروا في ساحة التحرير بعد أن تناهى إلى سمعهم إشاعة مفادها أنّ الدولة تنوي تخفيض رواتبهم. كما ينتقد الباحث الجامعات العراقية لأنها لم تعقد ندوات ومؤتمرات تناقش الهمّ العراقي وسؤال الهُوية.
يتكئ الفصل السابع عشر على سؤال يطرحه المؤلف مفاده: لماذا لم نستلهم تراث بابل؟ ويتصدى للإجابة عليه عبر مقاربات ثلاث الأولى سماعية، بمعنى أن نسمع التاريخ ولا نمحّصه بالعودة إلى الكتب والمصادر التاريخة، والثانية تناقل الأخبار عن ألسنة الأولين من تمجيد أو إساءة، والثالثة تتمثل في أنّ مَنْ تصدّى للحديث عن العراق والعرب والإسلام وحقوق الأقليات كانت معرفته دون المستوى المطلوب الذي يؤهله للحديث في هذه الموضوعات الحساسة. ويعتقد الباحث أن طول مدة الهيمنة الفارسية على العراق منذ 539 ق.م حتى الفتح الإسلامي وحروب الفرس والروم هي التي أدّت إلى ضياع قسم من هذا التراث وعدم قدرة عرب العراق على تمثّلة بشكل جيد يتناسب مع عظمة التراث البابلي.
يُتهم باسم فرات بـ "العنصرية والتعصّب القومي العربي" حينما يطرح فرية حرق العرب لمكتبة الريّ، قرب طهران، التي تضم مليونيّ كتاب بحسب زعمهم، ومِن يمتلك هذا العدد الضخم فلابد أن يحتفظ بنسخ أخرى من هذه الكتب في أماكن أخرى. يركز الباحث على الشفاهية التي تتحول لكثرة ترديدها إلى مقدّس لا يمكن المساس به أو التعرّض إليه بالفحص والدراسة والتمحيص. وينتقد بعض الأكاديميين الموتورين المؤدلجين الذين يهرفون بما لا يعرفون في كثير من الأحيان.
مُتحف التنوّع والإبداع والمدَنيّة
يبرّئ الباحث العرب من ثقافة النفي ويؤكد بأنها مُستورَدة ولم يعرفها الإسلام في فجره لأنه كان مُتحفًا للتنوّع والإبداع والمدنية. وأنّ التخلّص من ثقافة النفي لا يأتي عبر إلغاء عقائد الناس، بل دراستها وتحليلها لمعرفة الخلل، وقبل ذلك يجب قراءة تاريخ التنوع اللغوي والعقائدي والمناطقي في العراق تحديدًا.
ينتقد الباحث العقل المؤدلج الذي يغرق في سكونية عجيبة تجعله يشعربالاختناق إذا ما تنفس هواءً آخر. وهذا هو حال العنصري والسلفي والطائفي الذين يكتظ عقله بالأوهام والأباطيل والخرافات التي يصنعها ويصدّقها حتى تصبح وكأنها حقائق راسخة في العقول المريضة والأذهان المشلولة. وعليه فإن المؤدلَج لا يرى في منظومته إلاّ مجموعة مستهدفة لا همّ للآخرين إلاّ محاربتها والانقضاض عليها بينما يرى نفسه نقيًا، طاهرًا "لا يأتيه البطل من بين يديه".
يكرر الباحث في الفصول الثلاثة الأخيرة الحديث عن المثقف الطائفي، وصعود الهُويات المذهبية، ويختم الكتاب بموضوع "إزالة الالتباس بين الدولة والإقليم الجغرافي" وحدود العراق التاريخية التي توقفنا عندها بين ثنايا هذا العرض الذي توسعنا فيه قدر المستطاع وسلّطنا الضوء على العديد من الموضوعات الإشكالية التي تقع في إطار المسكوت عنه أو اللامُفكر فيه.