شاهدت قبل ايام فيديو للبناني يتحدث صاحبه عن منع اغنية لفيروز في الاذاعة اللبنانية في الخمسينيات، لان الرقيب رأى انها اغنية اباحية!
وكانت الاغنية المقصودة هي اغنية "مشوار" التي كتبها الشاعر سعيد عقل.
وانشغلت وسائل الاعلام اللبنانية يومها بين مؤيد للمنع ومعارض له، لكن الرحابنة لم ينشغلا بمناقشة الرقيب المريض بالتعصب، وقاما بإصدارها على اسطوانة مع توضيح رايهم بتلك التهمة البائسة.
وهذه من حسنات الحرية.. فاذا اغلق بوجهك باب وجدت امامك عشرات الابواب الاخرى مفتوحة، ويمكنك ان تحولها الى قضية رأي عام فتنتصر انت والاغنية والحرية والمجتمع.
لكن الامر مختلف في الانظمة "الوطنية والثورية".
فالقرار الذي يصدره شخص مريض او مجرم او متخلف ينفذ دون نقاش. (وهي بالمناسبة صفات صدام حسين وكان يشغل يومها موقع الرقيب الاول تحت تسمية مسؤول الثقافة والاعلام).
ففي منتصف السبعينات، أصدر قرارا يقضي بإتلاف أشرطة الأغاني التي "تضعف همم الجماهير" لما فيها من حزن وشجن وحنين من مكتبة الإذاعة والتلفزيون.
لم تصدر الأوامر بمنع إذاعتها أو بثها فقط، بل بمسحها وإتلاف أشرطتها نهائياً.
وهي اغنيات تم دفع ثمنها وصارت جزءا من الارشيف الفني لهذه المؤسسة وللبلد.
وانطلقت فرق إعدام الاغاني تشن هجماتها على أغنيات حزينة وعزلاء لم تجد من يدافع عنها.
وكانت الصحف تنشر أسماء الأغنيات المعدومة، تماماً كما كانت تنشر أسماء "الخونة" الذين يعدمون في السجون والساحات!
وكان من ضمن الأغاني التي تم اعدامها ومسحها كليا من الاشرطة، أغنية فيروز "طيري يا طيارة طيري/ يا ورق وخيطان"!
ولم يكن القرار الذي اتخذ بإعدام مئات الاغاني غريبا.
ففي تلك الفترة تم إعلاء شأن الأغنيات البدوية والغجرية وأغنيات هجينة من الريف والمدينة.
اضافة لهذا صارت الاغنية السبعينية (المصنوعة حسب مواصفات ثورية) تربط قسريا بين عيون الحبيبة وعيون "حراس الوطن"!
وكانت الفئة الصاعدة تفرض ذوقها في كل شيء:
في السياسة والطبخ والأزياء والأغنيات والحياة الاجتماعية!
وكنا ندخل مرحلة قاسية أعلنت فيها قيم المدينة هزيمتها امام قيم التخلف بأقسى وأبشع الطرق.
ولم يستطع أحد أن يبدي راياً ولو "فنياً" في تلك المجزرة الحضارية..
وما زلت اشعر بالعار انني كنت من الصامتين!
ولا زلت اكره اغنية السبعينيات لأسباب كثيرة، ربما كان صمتي يومها على اعدام الاغاني العامل الحاسم في كراهيتي لها.
وصرت اعرف الان انه مع اعدام الاغاني بصمت، أعدمت أنماط من الأزياء وأنماط من العيش، وصار بإمكان أي شرطي جلف أن يوقف أي رجل وامرأة أمام الجميع ويطلب الأوراق التي تثبت العلاقة بينهما، وإلا سيقا إلى السجن بمنتهى المهانة.
حتى تسريحات الشعر الرجالية حوربت بالمقص وإذلال صاحبها بحلاقة شعره للنصف أمام الناس.. اضافة الى شق بنطلونات الرجال المخالفة للمواصفات وصبغ سيقان النساء اذا كانت ثيابهن قصيرة.
ويا الهي!
أية حياة ذليلة عشناها ونحن صامتون؟!
ان التدجين والتمرين على خلق القطيع الذي يسير بإشارة من "الراعي" عملية دقيقة ومخيفة، وهي تشتغل على أشياء صغيرة، حتى لو كانت بحجم اغنية، حتى يجد المرء نفسه في النهاية وقد افرغ من ملامح إنسانيته ومشاعره وفرديته، ولا يعود يشعر بالأمان إلا مع القطيع!
ومع "قطيع" رائع سأستمع معكم للأغنيات التي انتصرت وادخلت كل من حاربها في الحفرة.