الأدب المصري القديم يغري الباحثين بأسراره الغامضة
6-أيلول-2022
سيد محمود
على الرغم من أهمية المكانة التي حظي بها الأدب المصري القديم بين آداب الأمم الأخرى فإن معرفة القارئ العربي بهذا الإبداع الفريد ظلت محدودة، وجاءت محكومة إلى حد كبير بما ترسخ، بفضل النقل عن المصادر الأجنبية والعربية القديمة. ولسنوات ظل الباحثون يعيدون تدوير كثير من المعلومات والأفكار الرائجة التي أنتجها قدامى علماء الآثار من دون فحص أو مراجعة، على ضوء الأبحاث والدراسات الجديدة.
من هنا يكتسب كتاب "مدت نفرت: مقدمة في الأدب المصري القديم" (القاهرة، 2022) أهمية كبيرة، لأن مؤلفه الشاعر حسن صابر درس الآثار المصرية عقب دراسته طب الأسنان، وتعلم بعدها اللغة الهيروغليفية واللغة الألمانية التي تعد من أغزر لغات العالم إنتاجاً في علوم المصريات.
وسبق للمؤلف أن ترجم "متون الأهرام" التي تشمل نصوصاً جنائزية سجلت بالخط الهيروغليفي على جدران الممرات الداخلية وغرف الدفن، داخل أهرام ملوك وملكات، بمنطقة سقارة (20 كيلومتراً من وسط القاهرة)، وهم حكام عاشوا في القرنين الخامس والعشرين والرابع والعشرين قبل الميلاد. وترجم عن الهيروغليفية مباشرة أشعاراً قديمة تحت عنوان "الكلام الذي يسعد القلب" لبعض ما وصل مدوناً، على برديات أو شقفات حجارة وفخار من نصوص شعر الحب في مصر القديمة، خلال فترة التحول الثقافي في النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد، في ما يعرف بـ"الأدب الدنيوي" الذي يرتبط بالحياة اليومية للمصريين القدماء.
وفي الكتاب الذي نشرته "دار الثقافة الجديدة" (القاهرة، 222 صفحة) يعمل صابر على تقديم دليل يساعد في قراءة النصوص الأدبية المصرية القديمة والاستمتاع المحتمل بقيمتها الأدبية العتيقة العابرة للزمن. ويشمل الكتاب ملحقاً مهماً تضمن ترجمة عربية لكثير منها. وهو يضعها في سياقها الاجتماعي والحضاري الغني والمثير والممتع أيضاً، كاشفاً عن مختلف مراحل تطور التاريخ المصري القديم وظروف نشأة الكتابة وكيفية اكتشاف نصوص الأدب ومراحل فهمها، منذ أن تم حل رموز الكتابة مع اكتشاف حجر رشيد، ويعطي وصفاً شاملاً لمصادرها الأصلية، وما دون عليه من برديات ولوحات وجداريات وغيرها من وسائط الكتابة في ذلك العصر.
والمعروف أن شكل الكتابة الهيروغليفية في مراحل تطورها ميز تلك النصوص وأعطاها خصائص رئيسة، لكونها اعتمدت إلى جانب اللغة كثيراً من الوسائط البصرية. ويتحدث المؤلف عما يسميه "الجناس البصري"، عبر تعدد العلامات التي تأتي في بعض الكتابات الجدارية ممتلئة بالتفاصيل الدقيقة والألوان المتنوعة. وتشمل تضمين الكتابة أبعاداً أخرى مثل استخدام "متون الأهرام" العلامات التي تصور الحيوانات المتوحشة غير كاملة عن قصد لاتقاء شرورها.
ثم يقرأ صابر النصوص التي يستعرضها في ضوء نظرية الأدب الغربية ومناهج البلاغة العربية على السواء، لفهم شكلها والتعرف إلى محتواها، وأجناسها الأدبية وكذلك موقع هذا الأدب وإنتاجه وسبل انتشاره وقراءته واستقباله وتقديره في المجتمع المصري القديم، إلى جانب دراسة تأثيره المحتمل في الحضارات المعاصرة واللاحقة لحضارة مصر القديمة.
يعتمد المؤلف في كتابه عدداً من الكتب والأوراق البحثية المكتوبة بلغات أجنبية عدة، ويبدي أسفه لأنه لم يجد إلا القليل من المراجع المحدودة المؤلفة بالعربية، ومن بينها كتاب سليم حسن الشهير عن الأدب المصري القديم -صدر عام 1945- ضمن موسوعته الشهيرة عن مصر القديمة. ويرى ناقدون للكتاب أن سليم حسن على الرغم من شهرته لم يترجم النصوص الأدبية عن الأصل، ولكنه نقلها عن ترجمات أجنبية، تم اكتشافها في ما بعد. وهكذا "كانت مبالغاته حول صدقية مجهوده في الترجمة قد صرفت أجيالاً كاملة من الباحثين عن ترجمة هذه النصوص ودراستها مباشرة من اللغة المصرية القديمة".
وغالباً ما دارت حول هذا الكتاب الشهير أسئلة حول مدى نزاهة مؤلفه من الناحية العلمية، لكنه ظل للأسف، بحسب المؤلف، المرجع الوحيد بالعربية. وعلاوة على طغيان الانطباعات والأحكام المرسلة حول رؤيته للنصوص، فإن صدقية سليم حسن اهتزت بحيث كشف المؤلف كيف انتحل صفحات كاملة من ترجمته لكتاب "فجر الضمير" لهنري بريستد، من دون الإشارة إلى ذلك، وهو ما اكتشفه صابر عند مقارنة الجزء الخاص بـ"متون الأهرام" في كلا الكتابين.
ويلاحظ صابر وجود عدد هائل من الكتب والمقالات والمراجع الحديثة التي تتناول الأدب المصري القديم بشكل عام وشامل. ويرى أن بعضها يقوم على تقديم مختارات من النصوص من دون دراستها كمجموعة مترابطة، وذلك تأثراً بالمركزية الأوروبية التي جاء اقترابها من النصوص المصرية بحسب المفاهيم الغربية على اختلافها. وهذا ما دفع في اتجاه مقارنتها دائماً بالإحالة إلى مفردات ومفاهيم ثقافية وأدبية مغايرة، كالثقافة والأدب لدى الإغريق والمسيحية وكتابها المقدس، مما أدى كثيراً إلى تعسف في تفسير هذه النصوص وفهمها، بالتالي ظلت نتائجها تحتاج إلى المراجعة والتدقيق. وضاعف من ذلك الاعتقاد الذي تبناه المؤلف، اعتراف بعض الباحثين الغربيين بأن "العهد القديم والإرث اليوناني عقبتان كبيرتان في مواجهة أي تقدير صحيح للأدب والحضارة في مصر القديمة".
وينحاز المؤلف إلى أعمال هاني رشوان الباحث في جامعة برمنغهام، التي تتميز بمقاربتها علم المصريات في مجال الأدب المقارن، ومدخله إلى دراسة النصوص على ضوء علم البلاغة العربي. وهو يأتي بشكل علمي وليس عبر انطباعات مجردة.
حرص المؤلف على تأكيد المكانة التي تمتع بها منتجو الأدب في مختلف عصور الأدب المصري القديم، فعلى سبيل المثال يمتدح نص "مديح الكتبة الخالدين" الكتابة والكتب والكتاب، ويوقر شخصيات الحكماء الذين ارتبطوا بها. وقد استخدمت النصوص الأدبية -بما فيها شعر الحب- كتمارين للكتابة في المدارس لإعداد الكتبة، على الرغم من أنها لا ترتبط مباشرة بمهامهم المستقبلية الإدارية أو الدينية، لكنهم يدرسونها كنموذج للكتابة البليغة وربما أيضاً لمحتواها الثقافي والتاريخي والحضاري، حيث شاع نسخ نصوص تم تأليفها في عصور أقدم قبل مئات السنين، مما يدل على أنها حملت قيمة عابرة للزمن، وظلت متاحة لأجيال لاحقة كأعمال كلاسيكية وجزء من نسيج حضاري متصل.
ويكشف المؤلف كذلك عن وجود أماكن لحفظ الكتب بشكل عام، وهو ما يمكن التعرف إليه من مصادر عدة، من النصوص أو من الآثار المعمارية أو إشارات الكتاب الكلاسيكيين، مثل إشارة ديودور الصقلي إلى وجود مكتبة معبد الرامسيوم في الأقصر.
يزكي الكتاب فكرة إعادة دراسة النصوص المصرية القديمة على يد منتمين للثقافة العربية. ويرى أن مقارنتها بالأدب العربي تفتح مدخلاً جديداً لكشف مزيد من عناصر التشابه بينها وبين بعض القصص التراثية مثل "ألف ليلة وليلة" أو "كليلة ودمنة". ويؤكد من جهة أخرى أن ترجمتها إلى العربية وبسبب قرابة اللغتين واشتراكهما في عديد من الخصائص تجعلها هي الترجمة الأقرب والأصوب من حيث تضمن أقل "فاقد" للترجمة في البلاغة والمعنى. إضافة إلى أن اللغة العربية والمصرية القديمة استخدمتا في سياق جغرافي واحد في مصر، مما أدى إلى تأكيد خصائصها المشتركة في ثقافة السكان، وعلى الأخص خلال مرحلة امتدت لقرون، استخدم فيها المصريون اللغة القبطية -آخر مراحل اللغة المصرية- إلى جوار العربية في عملية مستمرة من التأثير المتبادل. يذهب قارئ الكتاب في رحلة تماثل مسار الحكاية الأدبية، إذ تبدأ بظروف اكتشاف هذه الكتابات، والتعرف إليها كنصوص أدبية ومحاولات ترجمتها، مع خلفية عامة عن اللغة التي كتبت بها كوسيط أدبي (اللغة المصرية القديمة). ويبحث في مراحل فك شفرة رموزها، ثم استعراض محاولات دراستها وفهمها عبر ما يقرب من 200 عام، إلى جانب وصف مصادرها المتعددة.
يعزز الكتاب فكرة دراسة هذه النصوص عبر دراسة مراحل تطور علم المصريات نفسه، فقد كانت البداية بغرض معرفة مزيد عن اللغة التي فكت رموزها، وفي مرحلة لاحقة قرأت النصوص كمصادر للتاريخ ووقائعه، ثم تأثرت دراستها كذلك بصراع بين العلمانيين والدينيين، مستخدمين النصوص المصرية، لإثبات أو نفي نصوص التوراة المتعلقة بمصر وعلى الأخص سفر الخروج وتاريخ اليهود، وذلك قبل أن يتحقق لعلم المصريات أول شكل مؤسسي، متمثلاً في مدرسة برلين خلال القرن التاسع عشر.
وبعد هذه المرحلة المبكرة ظهرت مجموعة برديات برلين ومنها "قصة الفلاح الفصيح" ونسخة ثانية من "قصة سنوحي" الشهيرة. واقتصرت عمليات البحث حتى سبعينيات القرن العشرين تقريباً على تقديم مقاربات تاريخية، ترى في النصوص انعكاساً لوقائع ومراحل تاريخية، فنصوص مثل نصوص النبوءات التي تدل على سبيل المثال على انهيار سياسي واجتماعي في العصر الوسيط الأول، و"قصة ون آمون" التي تدل على انهيار مكانة مصر في الشرق الأدنى خلال العصر المتأخر. إلا أن المؤلف يرى أن تلك الدراسات كانت مقاربات غير منهجية بل انطباعية فردية، لا تحكمها نظرية خاصة بالأدب، وتتناول كل نص منفرداً من دون محاولة علمية لتصنيف النصوص كلها، ورصد الظواهر المشتركة بينها. ويؤكد أن يان أسمان Jan Assmann بدءاً من عام 1974 هو من لعب الدور الأساسي في هذا التحول، وبدأ طرح أسئلة عما إذا كانت هذه النصوص تنتسب للأدب فعلاً.
في كتاباته فرق أسمان بين الأدب الجميل أو الراقي belles lettres وما يسميه "الأدب الوظيفي"، معطياً أمثلة عن الثاني مثل التعاويذ السحرية ونصوص السير قائلاً إن "عدم التحديد الوظيفي هو الخاصية الأساسية لدينا لتحديد أدبية النص، بغض النظر عما إذا كان أسلوباً شعرياً أم لا، فالنصوص الشعرية يمكن أن توجد في كل من الأدب الجميل والأدب الوظيفي". ويفتح المؤلف باباً لربط الأدب المصري القديم بحضارات الشرق الأدنى واليمن، ويهدف إلى تقديم نصوصه بعيداً من النعرات القومية المتعصبة، بوصفها ثقافة أسهمت ولا تزال تسهم، في مسيرة الحضارة البشرية.
ويشير إلى أن خصائص اللغة المصرية القديمة تبين أنها خليط من لغات سامية وأفريقية، وقد ظهرت في العصر المبكر للحضارة المصرية، دلالات على تأثير محدود لحضارات غرب آسيا. ويقول إنه لا يمكن لهذا التأثير المحدود -الذي ربما ارتبط فقط بتبادل تجاري وثقافي حضاري- أن يكون إلا مجرد خيط في الحضارة المصرية القديمة وليس جذرها الأصلي، بل ويراه البعض "دليلاً على النجاح المحلي في عقد علاقات مع أماكن قاصية مثل عيلام وجنوب ما بين النهرين وليس مؤشراً على تأثير محتم في الحضارة المصرية التي نشأت -على الرغم من التنوع (العرقي) لسكانها الأوائل- كحضارة مستقلة تماماً بل وشبه منعزلة". فكما يقال إن مصر هبة النيل يجب أن يقال إنها أيضاً هبة الصحراء التي شكلت منطقة عازلة حمت الدولة المصرية نحو 1500 عام من الغزو حتى الاحتلال الأول في تاريخها على يد الهكسوس. وعلى الرغم من ذلك تظهر النصوص الأدبية نفسها أن مصر لم تكن منعزلة عن بقية العالم القديم، ومن المنطقي أن تتعرض ثقافتها بما في ذلك الأدب إلى عملية تأثير متبادل مع الثقافات الأخرى في الشرق الأدنى القديم ومنطقة البحر المتوسط وغيرهما.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech