مسلم عباس
كل غارة جوية إسرائيلية غربية ضد السكان المحاصرين في قطاعة غزة من الأطفال والنساء، تتناثر معها الأشلاء فيتحقق الهدف الأول للتخلص الحيوانات البشرية بحسب وصف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت. وصف يختصر القصة الإنسانية على كوكب الأرض بالكامل، هناك إنسان يوصف بالحيوان، وهناك إنسان أوروبي متطور. الأول متخلف يستحق القتل والثاني له حق الحياة. وإن سمح للأول المتخلف بالحياة، فهو لا يتعدى أن يكون خادماً للثاني المتطور.
لم أكتب هذه المقدمة من الخيال، فالغرب الذي غزا الأمريكيتين جرد أهلها من صفتهم كسكان أصليين وسماهم "الهنود الحمر" وقتل منهم الملايين وقصتهم معروفة، وجرد المسلمين من صفتهم البشرية وسماهم "إرهابيين" وقصة الإسلاموفوبيا وما يرافقها معروفة أيضاً، وحتى هذه اللحظة ما تزال طريقة التفكير الغربية الأوروبية مستمرة بنفس الوتيرة، ففي أكتوبر تشرين الأول عام 2022 قال ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن "أوروبا عبارة عن حديقة، لقد بنينا هذه الحديقة، كأفضل مزيج من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والترابط الاجتماعي استطاعت البشرية أن تبنيه".
وماذا عن بقية العالم، هل هو حديقة أم صحراء أم أدغال، يرى بوريل أن "بقية العالم ليس حديقة تماما، بقية العالم.. أغلب بقية العالم هو أدغال".
الأدغال خطيرة بحسب الممثل الأوروبي بوريل، ويمكن أن أن تغزو الحديقة، لأن الأدغال لديها قدرة هائلة على النمو.
ما يقوله بوريل خلال فترة السلم يدخل ضمن صناعة الصورة النمطية عن الآخر، وما يقوله بن غفير يأتي كتطبيق عملي لهذه الصورة النمطية خلال فترة الحرب، وهي تدخل ضمن نطاق شيطنة الآخر المختلف، إلا أننا نعرف جيداً أن عملية الشيطنة هي مقدمة للقتل، فالشيطان رمز للعدو، والحيوان البشري وفق السياق الذي جاء به بن غفير هو حيوان واجب القتل.
كل تلك التوصيفات هي مبررات للقتل كما أخبرنا الباحث الفرنسي بيان كونيسا في كتابه صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح، لقد وفرت الدعاية الإسرائيلية كل السبل للقتل بضمير مرتاح، فقد ارتكز الخطاب الرسمي الإسرائيلي على مسألة الجريمة المطلقة من قبل المقاتلين الفلسطينيين، وكذبوا على الرئيس الأميركي بوجود عمليات ذبح للأطفال، وصوروا أحداث عملية طوفان الأقصى بأنها 11 سبتمبر أخرى، لتأطير الحدث بأنه إرهابي يشبه أفعال تنظيم القاعدة، ثم لحقتها صور لعلم تنظيم داعش في مستوطنات غلاف غزة.
الصورة بالمجمل يراد لها أن تكون شيطانية بكل ما للكلمة من معنى، لتتوفر شروط عملية القتل بضمير مرتاح بنفس الطريقة التي قتل فيها الغرب الشعب الأفغاني بحجة الرد على تنظيم القاعدة، ونفس الطريقة التي قتلوا فيها أطفال العراق عام 1991 وما لحقها من حصار اقتصادي قاتل، ثم حرب عام 2003 التي أعلن فيها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش إن من لا يقف مع الولايات المتحدة والدول الغربية فهو بالضرورة مع محور الشر.
وفق القاعدة التي أعلنها بوش وهي معمول بها غربياً قبله وما زالت مستخدمة، فإن الفصائل الفلسطينية عدو للغرب وإسرائيل، وهذه الفصائل تقاتل من داخل قطاع غزة، والنسبة الكبيرة من القطاع تريد الخلاص من الحصار المفروض عليهم منذ 17 عاماً، ما يعني عملياً تأييد الغزاويين الفلسطينيين لأي إجراء عسكري يخلصهم من الحصار.
بالنسبة للغرب وإسرائيل فأن التعاطف الشعبي الفلسطيني يعني أنهم في معسكر الشر، وهم بيئة صالحة ليكونوا ضحايا جدد، لكن قتلهم سيجري بضمير مرتاح وفق المنطق الغربي والأوروبي التي تختصر بالكلمات الآتية:
"أي شخص يعارض الغرب هو عدو، والعدو وحش يجب قتله، وأي شخص لا يقف معنا في طريقنا لقتل الوحش يجب أن يقتل مدنياً كان أو عسكريا".
إذا لا بأس بحصار شامل ضد الشعب الفلسطيني ما دامت عواطفه مع الفصائل الفلسطينية، بل لا بأس بقتله ليس لأنه متعاطف، إنما لغياب تعاطفه مع قاتليه ومحاصريه من الإسرائيليين.
في سياق القتل بضمير مرتاح، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت يوم الإثنين (9 تشرين الأول 2023) فرض حصار شامل على قطاع غزة وقال: "لقد أعطيت أمراً: غزة ستكون تحت حصار تام لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، كل شيء مغلق".
السياق واضح للتجهيز للعملية الأخطر على الإطلاق وهي محو قطاع غزة من الوجود، فلا داعي لشعب يقول: لا. أوروبا لا تريد من يقول لا، وإلا سيكون مصيره مثل سكان أميركا وأستراليا الأصليين، سيقتلون شر قتلة حتى وإن تجاوز عددهم الملايين.
أوروبا هي الحديقة، وإسرائيل جزء من هذه الحديقة، وخارجها أدغال، ولا يحق للإدغال أن تزعج سكان الحديقة، فهي موطن الحرية والنمو الاقتصادي والتقدم التكنلوجي، فهل نضحي بكل هذا التقدم البشري لصالح الأدغال، أم نحرق الأدغال وما فيها من حيوانات بشرية؟
الأفضل إشعال النار في الأدغال ليس لأن الفلسطيني مسلم أو إرهابي أو متطرف، بل لأن سكان غزة لم يسحبوا ضمن نطاق الإنسان الأوروبي الأبيض المسيحي المختار، إبن غزة هو إنسان فقط، هذه جريمته، وجريمة كل إنسان غير أوروبي فشل في الاندماج بالعنصرية الأوروبية المعادية للإنسان غير الأوروبي.