الاقتصاد الوطني المزيف
18-كانون الثاني-2023
نزار حيدر
لا تعطِ المُواطن سمكةً، ولا تعطهِ صنَّارةً، بل علِّمهُ كيفَ يصيد السَّمك.
فالاقتصاد الوطني الحقيقي والمُستدام يُعلِّم المُواطن كيفَ يصيد ليتحكَّم بوجَباتهِ فيأكلَ متى ما أَرادَ وكيفَ ما أَرادَ؟! أَمَّا الإِقتصاد الوطني المُزيَّف فهو الذي تتحكَّم فيهِ الحكومة بأَوقات غداء المُواطن فتُعلِّمهُ على أَن يستلمَ سمكةً كُلَّ يومٍ ليأكُلَ ويُطعِمَ بها أُسرتهِ وعِيالهِ.
أَصِفهُ بالمُزيَّف لأَنَّهُ يُعلِّم المُواطن على الإِتِّكاليَّة والإِستهلاك، فهو يأكُل عندما تعطيهِ الحكُومة سمكةً ويشُدَّ الأَحزمة على البطُون عندما تسرق منهُ السَّمكة أَو تنسى أَن تعطيهِ واحدةً.
للأَسف الشَّديد فإِنَّ اقتصادنا الآن يُواصل إِعتمادهُ على سياسةِ إِعطاء السَّمكة للمُواطن من خلالِ تكريسِ ظاهرةِ الرَّيعيَّة المُبتلاة بها البِلاد خاصَّةً خلال العقدَينِ الماضِيَينِ، على الرَّغمِ من أَنَّ كُلَّ حكُومةٍ جديدةٍ تتشكَّل تُقسِمُ لنا بأَنَّها ستقضي على هذهِ الظَّاهرة من خلالِ خَطوتَينِ مُهمَّتَينِ إِستراتيجيَّتَينِ؛
أَوَّلاً؛ تنوُّع مصادر الدَّخل القَومي الذي مازال أُحادي المصدر [٩٥٪ من البترُول] فلقد وعدُوا بتقليلِ هذهِ النِّسبة إِلى [٨٠٪] فقط وفشلُوا.
ثانياً؛ تشجيع القطَّاع الخاص من خلالِ تشريعِ القوانين اللَّازمة لتحقيقِ ذلكَ، فضلاً عن السَّعي لخلقِ الشَّراكة الحقيقيَّةِ بينَ القطَّاعَين العام والخاص.
كُلُّ هذا لم يحصل إِلى الآن فمُسودَّة الميزانيَّة الجديدة تُركِّز بالدَّرجةِ الأُولى على التَّعيينات الجديدة وتثبيت أَصحاب العقُود وعمُوماً على توزيع الرَّواتب بشكلٍ أَو بآخر. هذا يعني أَنَّ إِقتصاد الدَّولة سيستمر ريعيّاً يشبه إِلى درجةٍ كبيرةٍ مُهِمَّة [أَمين الصُّندوق] يستلم أَموال بَيع النَّفط ليُوزِّعها رواتب على [٣٧٪] من الشَّعب، أَي أَنَّ أَكبر إِنفاقها هي الرَّواتب بمُختلفِ العناوين، كما أَنَّها ستظل أُحاديَّة مصدر الدَّخل القَومي، البترُول، وبالتَّالي ستظل ميزانيَّتها مُعرَّضة للإِهتزازات مُتأَثِّرة بأَسعار البترُول في السُّوق العالَمي. وفوقَ كُلِّ هذا وذاك ستظل الدَّولة مُستهلِكة وغَير مُنتجة.
وأَدناه بعض الأَرقام والإِحصائيَّات التي تُوضِّح كُلَّ ذلكَ، وهي مُعتمَدةٌ على تقاريرَ دَوليَّة [البنك الدَّولي] ووطنيَّة [وِزارة التَّخطيط] ومِنها ما يعتمد على تصريحاتٍ رسميَّةٍ لوُزراء ونُوَّاب أَعضاء في اللِّجان المُختصَّة؛
- عدد المُوظَّفين الكُلِّي [(٤) ملايين ورُبع بمُختلفِ عناوينهِم، وسيرتفع إِلى (٥) ملايين في الميزانيَّة الجديدة] أَي بنسبةِ مُوظَّف لكُلِّ (٩) مُواطنين، علماً بأَنَّ مُعدَّل النِّسبة عالميّاً هي [مُوظَّف لكُلِّ (١٠٠) مُواطن].
وللتَّوضيح دعُونا نُقارن هذهِ النِّسبة مع الصِّين التي عدد نفوسَها رُبع العالَم، فإِنَّ عدد المُوظَّفين فيها (١٠) ملايين فقط!.
أَمَّا عدد الذين يتقاضَونَ مُرتَّباً شهريّاً بعِنوانٍ من العناوين فعددهُم (٩) ونِصف مِليون مُواطن وسيزيد هذا العدد إِلى (١٠) ونِصف مليُون!.
- سنويّاً، يدخُل سوق العمل [بالقُوَّة] (٢٥٠) أَلف من حمَلة الشَّهادات و (٥٠٠) أَلف من أَصحابِ المِهن وما يُعرف إِقتصاديّاً بعديمِي الخِبرة.
وأَنَّ ما يستوعبهُ سوق العمل [بالفِعل] هو (١٠٠) أَلف من حمَلة الشَّهادات و(٢٥٠) أَلف من أَصحاب المِهَن.
بذلكَ يزداد العاطِلُونَ عنِ العملِ سنويّاً (٤٠٠) أَلف عاطِل.
تخيَّل لو ظلَّ الحال على ما هوَ عليهِ الوَضع لعدَّة سنوات، فتظل تُزيد الدَّولة عدد المشمُولين برواتبِها الشهريَّة كُلَّ عامٍ!.
إِنَّهُ خيالٌ مُرعبٌ ومُخيفٌ ومُدمِّرٌ، أَليسَ كذلكَ؟!.
والأَخطر مِن كُلِّ هذا ما ذكرهُ آخِر تقريرٍ للبنكِ الدَّولي إِذ قدَّرَ مُعدَّل ساعات العمَل للمُوظَّف في العراق [١٧] دقيقة فقط في اليومِ الواحد، وذلكَ بالإِعتمادِ على عددِ المُوظَّفين الكُلِّي نِسبةً لليدِ العامِلة!.
إِذ أَنَّنا نعرف بأَنَّ أَسهل قرار يتَّخذهُ مسؤُولٌ في عِراقِنا الجديد هو [تعطيل الدَّوام الرَّسمي]! وهو القرار الأَسرع والأَدق عند التَّنفيذ!.
فأَينَ، إِذن، هي فُرص الإِستثمار والتَّنمية؟! فيما يقولُ البنك الدَّولي الذي أَعربَ عن قلقهِ من إِصرار العراق على الإِعتماد على البترُول فقط لتنظيمِ ميزانيَّتهِ السنويَّة، بأَنَّ العراق بحاجةٍ إِلى [٢٣٣] مليار دولار للتَّنمية؟! خاصَّةً وأَنَّ بُنية الإِستثمار في العراق ما زالت قلِقة على الصَّعيدَينِ الأَمني والتَّشريعات؟! [في آخِر تقريرٍ فإِنَّ العراق يحتل المرتبة (١٥٧) بمؤَشِّر الأَمان العالمي الذي ينشرهُ معهد (الإِقتصاد والسَّلام) [IEP] بعدَ السُّودان والصُّومال]!.
ومِن أَجل استيعابِ معنى هذهِ الأَرقام يَحسنُ بنا العَودة قليلاً إِلى تاريخِنا المُعاصِر، وتحديداً الى العام ١٩٥٨ لنُجري مُقارنةً بسيطةً وسريعةً بين العامَينِ فقد تُساعدُنا على فهمِ الكثيرِ من الحقائقِ؛
- فحتَّى العام ١٩٥٨ كانَ المُواطن يُتابع يوميّاً ويستمِع إِلى [النَّشرة الإِقتصاديَّة] لمُدَّة رُبع ساعة، والتي تُقدِّمها إِذاعة بغداد، يتُمُّ فيها إِستعراض حجم الصَّادرات مِن مُختلفِ المواد، وهي كالتَّالي؛ المصارين والجلُود والصُّوف والقُطن [بنوعَيهِ التِّيلة الطَّويلة والتِّيلة القصيرة] علماً بأَنَّ أَجود أَنواعها كانَ في الصُّوَيرة، والحُنطة [أَمَّا الآن فإِنَّ العراق بحاجةٍ إِلى إِستيراد (٣٠٠) أَلف طن شهريّاً ليَسدَّ حاجتهِ] والشَّعير الأَسود والأَبيض والهُرطُمان والماش والعدس والذَّرة والسِّمسم والتُّمور بكُلِّ أَنواعِها [المحشُوَّة منها وغَير المحشُوَّة].
وأَنَّ أَوَّل مكبس للتُّمور في الشَّرق الأَوسط بُنيَ في العِراق عام ١٩٥٦.
وعند قِيام إِنقلاب ١٤ تموز ١٩٥٨ كانت بريطانيا مدينةً للعِراق بمبلغٍ وقدرهُ (٥٠) مليون جُنيه إِسترليني هو ثمن القُطن المُتراكم عليها والذي كانت تستوردهُ من العِراق كُلَّ عامٍ.
علماً أَنَّ نِسبة إِعتماد العراق على البترُول وقتها لم تتجاوز [٢٠٪] فقط.
فأَينَ كانَ العراق؟! وأَينَ أَصبحَ؟! ولِماذا؟! ومَن المسؤُول؟!.