محمد عبد الجبار الشبوط
لنبدأ بتعريف الكلمتين اللتين يتضمنهما العنوان: الماضي والمستقبل .
فاما الماضي فهو كل ما حدث قبل الان، والمستقبل هو كل ما سوف يحدث بعد الان.
واما الان فهو عبارة عن لحظة سريعة قد لا يكون لها وجود زمني محسوس.
الماضي يتضمن الاحداث المختلفة والافكار والمعارف والفنون والاشخاص والعادات والتقاليد وكل ما يشكل ذاكرة الانسان.
وليس من الطبيعي ان ينسى الانسان الماضي، وخاصة ذاك الذي يتجدد في الذاكرة على شكل معتقدات وتقاليد وانماط سلوكية مختلفة.
وعادة ما يستنبط الانسان الواعي دروسا وعبرا من الماضي، فيتجنب تكرار الخبرات المؤلمة والاخطاء و التصرفات المضرة والمعلومات والافكار غير المؤكدة والمعتقدات غير الصحيحة. وتعرقل هذه المفردات التفكير العلمي وتعيق التقدم نحو الافضل اذا تمسك الانسان بها. وهذا ما سجله القران على المشركين العرب الذين رفضوا الاخذ بالافكار الاسلامية في البداية والتخلي عن معتقدات ابائهم واجدادهم:
"وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ".
"بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ".
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ؟"
ويؤدي هذا الموقف المتكلس عند الاباء والاجداد الى جمود المجتمع وعدم قدرته على التغيّر والتغيير وبالتالي التقدم الذي يستبطن تقبل الافكار والمعلومات الجديدة والتفاعل معها واعادة صياغة الحياة بموجبها.
فيما تساعد منهجيةُ التخلي عن سلبيات الماضي الانسانَ الواعي على تقبل الافكار الجديدة والاقلاع عن التصرفات الخاطئة واستبدال العادات السيئة.
ليست مسألة الهوية مرتبطة حصريا بالماضي. فالهوية مركب معقد من عناصر كثيرة مثل اللغة والدين والعادات والتقاليد والفنون الموروثة وغيرها. وقد تدخل بعض مفردات الماضي في تكوين هذا المركب، لكنها لا تشكل العنصر الحصري للهوية.
قيمة اللحظة الحاضرة تكمن في المستقبل الذي تستبطنه. فكل لحظة هي حاضر بالفعل، مستقبل بالقوة. "وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ". وهذا تعبير فريد. تخيل ان الظلام هو الماضي، والاصل في الكون انه كان مظلما. كيف سيكون حال الانسان لو لم يأتِ النور، وهو الحالة اللاحقة للظلام، اي المستقبل؟ سنكون في حالة ظلام دامس مستمر! نحن ننتزع المستقبل من اللحظة الحاضرة، او نعيش اللحظة الحاضرة وعيوننا مشدودة الى المستقبل، فان سكن الماضي حاضرنا، وجعله ساكنا لا يتحرك، فكيف سوف يأتي المستقبل؟ كيف سوف نمضي الى المستقبل؟ كيف سوف يأتي النهار؟ قد يسكن الماضي في اللحظة الحاضرة ويجمدها ويحول بينها وبين الانتقال الى المستقبل. وهذا ما لا نريده لانفسنا ولمجتمعنا ولامتنا. نعم ناخذ من الماضي ما يُسهم في تشكيل هويتنا الثقافية، ونأخذ منه دروسا تنفعنا في الحاضر الذاهب والمستقبل الاتي، دون ان يشل او يشد ذلك حركتنا الجوهرية نحو المستقبل الذي لا يتعارض بالضرورة مع هويتنا وقيمنا.
نأتي الى حالتنا العراقية. يمتاز العراق عن غيره من البلدان في كونه اقدمها حضاريا، ولا تنافسه في ذلك سوى مصر. فالعراق، او بلاد ما بين الرافدين، كان موطنا لعدد كبير من الحضارات، السومرية والاكدية والاشورية والبابلية والكلدانية والعربية-الاسلامية، وقد تفاعلت هذه الحضارات فيما بينها، ومازالت لمساتها ومفرداتها وحتى كلمات من لغاتها حية متداولة بين العراقيين، وهذه حالة فريدة في العالم. وهذا التاريخ الطويل العريض يشكل عنصرا هاما من عناصر بناء الهوية العراقية. ومنه نستلهم الكثير من الدروس والعبر. وفيه الكثير من الايجابيات، وفيه ايضا الكثير من السلبيات، ومن المحتم علينا ان اردنا التقدم ان لا نتجمد عند هذا الماضي الطويل، او ان لا نسمح له بان يسكن في حاضرنا بشكل يعيقنا عن التفكير بمستقبلنا، نتخطى سلبياته، ونتخذ من ايجابياته روافع تدفع حركتنا نحو الامام. قد لا يكون الامر ارادويا انتقائيا، لكن حركة التاريخ التكاملية وسننه وقوانينه كفيلة بتحقيق الفرز المطلوب بين الصالح الذي نأخذ به وبين الطالح الذي نتركه في مزبلة التاريخ.