فرات المحسن
استطاعت حركة حماس وهي جزء من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، إنشاء دولة كاملة المعالم تقود قطاع غزة سياسيا واقتصاديا وعسكريا، اعتمادا على موارد القطاع الاقتصادية الشحيحة وما تتلقاه من مساعدات عينية ومالية من العديد من الدول ، ومن المنظمات الدولية وبالذات منظمة الأونوروا وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة، لينهض قطاع غزة بفضل القيادة المتشددة للإخوان الحماسيين ، ككيان له شأنه السياسي وواقع قائم لدولة بنظام مؤسساتي حقيقي، له تأثيره في الساحة الدولية على الرغم من الحصار الذي تفرضه عليها إسرائيل.
جاءت سيطرة حركة حماس على غزة إثر الخلاف السياسي الفكري الذي ظهر مع بداية انتفاضة الحجارة عام 1987 حيث حدث الانشقاق في الحركة النضالية الفلسطينية لتبرز إثره قوة التيارات الإسلامية الممثلة بحركة حماس والجهاد الإسلامي كمنافس وبالضد من التوجهات الفكرية والسياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة فتح. فحماس باتت القوة الرئيسة المعارضة لمشروع التسوية واتفاق أوسلو، حيث تعتقد حماس بان الاتفاق أحال المشروع الوطني التحرري المقاوم إلى مشروع مساومة خاضع لشروط تسوية غير متوازنة.
ترسخ هذا الخلاف والانشقاق بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 وإثر سيطرة حماس على قطاع غزة وانفرادها بالحكم هناك، وغذى ذلك الخلاف تشابك أطراف الصراع وارتباط مشاريعها وتوجهاتها بمصالح إقليمية ودولية، ولم يكن هذا ببعيد عن اللعبة الإسرائيلية التي كانت تمد وتغذي هذا الصراع بمختلف الأساليب والطرق. وجميع تلك الارتباطات عملت على تصعيد حدة الخلاف وقدمت العون لكلا الطرفين للتمسك بمواقفه التصعيدية، وإبعاد ما يجسر الهوة بينهما.
جراء ذلك نشأ صراع تنافس للاستحواذ على أو تقاسم حصص المساعدات الغذائية والأموال التي تقدم من الهيئات والمنظمات الدولية وحكومات عدة، وكان هذا كافيا لإيجاد أزمة أصبحت بمرور الوقت مستفحلة ودون نهاية، ليعتمد حلها الجذري والنهائي على فكرة إبعاد كلي واختفاء احد طرفي الصراع عن الوجود.
عملية طوفان الأقصى وهي التسمية التي أطلقتها حماس على معركتها العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، التي انطلقت صباح يوم السابع من أكتوبر 2023 حين أعلن محمود الضيف أبو خالد القائد العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام الذراع العسكري لحماس، بدء عملية الرد على استباحة الإسرائيليين للمسجد الأقصى. حيث ترافق الهجوم الصاروخي الكثيف الذي وجهته المقاومة الفلسطينية إلى مدن إسرائيلية عدة ، اقتحاما بريا مباغتا وقويا للبلدات المتاخمة للقطاع، التي يطلق عليها ما يسمي غلاف غزة. في 9 أكتوبر 2024 وبعد استعادة إسرائيل السيطرة على البلدات التي استولى عليها الفلسطينيون، أعلنت إسرائيل عن مباشرتها لحصار شامل على غزة ومن ثم الاندفاع العسكري لاكتساحها والقضاء على حماس ومناصريها وأجنحتها العسكرية. لتبدأ مباشرة حرب التدمير الشامل والقتل المنفلت واقتلاع مباشر وعلني للمعالم الحضرية العمرانية لكيان جمهورية غزة. وحدث هذا ويحدث تحت أنظار العالم وبتغطية واسعة من محطات التلفزيون العالمية. ونال هذا الهجوم الإسرائيلي رضا وموافقة علنية من حكومات وأحزاب ومؤسسات عدد كبير من دول العالم وبالذات الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية. وعبرت جميع تلك الهيئات الدولية عن رعبها واستنكارها وشجبها لما قامت به حماس، وصنفت حماس وأدينت بعجالة ودون لبس، وسميت بالمنظمة المارقة الإرهابية التي اعتدت على إسرائيل في غفلة من الزمن، وقتلت وروعت المدنيين العزل. وجاء هذا الهجوم الإعلامي والشجب المبرمج، لتختفي من الواجهة وبشكل بدا وكأنه معد سلفا، السنوات السبعين من الاحتلال والتجويع والقتل والحصار والاعتقالات التي مارستها إسرائيل ضد قطاع غزة وعموم الشعب الفلسطيني، وتناسى الكثيرون عن عمد أو بغفلة، بأن ما سمي بغلاف غزة، ما هو إلا ( بلدات ) مستوطنات بنتها إسرائيل على ارض فلسطينية محتله لتضييق الحصار وتأمين وجود من يراقب ويردع سكان غزة. عند بداية معركة طوفان الأقصى ظهرت العديد من الدول العربية والإسلامية وكأنها أصيبت بالدوار والصدمة، مما جعلها تأخذ جانب الصمت والحذر. ولكن بمرور الوقت بدأت وبشكل متواتر تخرج عن بعضها، بين الحين والآخر، أصوات منادية بوقف القتال أو في أقصى وأشد حالات النداءات احتمالا، دعوة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للضغط على إسرائيل لغرض وقف هجومها على القطاع والسماح بدخول الإعانات، وفي الغالب تكتفي عند هذا الجهد، مبعدة نفسها عن التدخل المباشر بالصراع والضغط من أجل وقف إطلاق النار، بالرغم من كونها تملك الكثير من الأوراق والأدوات لهذا الفعل لو أرادت. ولكن نجدها تفضل خيار التضامن الخجول مع الأشقاء الذين يتعرضون للقتل الهمجي اليومي والتدمير الوحشي للبنى التحتية، وفي ذات الوقت بعيدا عن ذكر حماس. وهنا يثار السؤال المغلف بالحسرة والألم والحيرة، الذي يستفز الوجدان الإنساني قبل أي شيء أخر. ما السبب الذي جعل اغلب الدول العربية والإسلامية تتخذ هذا الموقف الغريب المتردد.لماذا الصمت أو النداءات المتحفظة الخجولة تجاه كل تلك الجرائم التي تقترف بحق الشعب الفلسطيني والغزاوي منه بالذات. لا بل هناك من العرب والمسلمين من يقف مع إسرائيل وبشكل علني وفاضح، وتمتلئ تصريحاته بالتشهير والتشفي من الشعب وعموم القضية الفلسطينية وليس فقط من حماس. والبعض يحمل حماس جميع تبعات الأحداث بحجة كونها من بدأ الحرب والقتل. للإجابة على هذا السؤال يتطلب ذلك العودة إلى عمق المشهد كظاهرة كلية ذات أبعاد وأوجه متعددة متشابكة في صلب قضية العلاقات العربية والإسلامية، وتداعيات وإرهاصات لمشاكل بعينها، منذ زمن يمتد في مخرجاته لما قبل حرب أفغانستان وظهور ما سمي بالعرب الأفغان، وتنامي اتجاههم الفكري السلفي الجهادي، اعتمادا على أفكار سيد قطب والمودودي وبن تيمية. ثم حوادث التشاحن والتقاطع الذي وقع مع ظهور وانتصار الثورة الدينية الشيعية في إيران. البحث وتقصي طبيعة وإشكالية العلاقات التي تربط قطاع غزة بالعالم العربي والإسلامي، يفصح دون مواربة وتدليس عن إجابات منطقية للأسباب التي تجعل اغلب الدول العربية والإسلامية تتخذ هذا الموقف المؤسف والمؤلم من أحداث غزة وحركة حماس.
ــ على الرغم من تشابه الكثير من الأهداف والأسس الفكرية التي يتبناها الإخوان المسلمون ومثلهم قادة ومفكرو المذهب الوهابي، فان هناك هوة عميقة وعداء فكري مستفحل وتنافس مذهبي بينهما، يظهر في معارك ليست بالخافية للتمدد والانتشار في المجتمعات العربية والإسلامية، والسيطرة على ساحات الجهاد والعمل السياسي . ويتبلورهذا الخلاف في مناهج العمل والتعاطي مع الكثير من العقد الدينية والدنيوية، من مثل فلسفة الفريضة الغائبة ونظرية الحاكمية وتصنيف الطوائف الممتنعة عن شعيرة إسلامية والموقف من شرعية الحكام والحكومات، وفي نموذج الدولة الإسلامية المفترضة مستقبلا ، والخلاف أيضا حول المثال السعودي وما سمي بالتحالف الديني السياسي ، وغير ذلك من المناهج والعناوين الفكرية العقائدية. وتلك الخلافات دفعت بعض حكام الخليج لإعلان الإخوان كحركة إرهابية. وبسبب هذا وغيره من معالم التنافس، تعتمر نفوس هيئات وقيادات التنظيمين ميول حذر وتطير وعداء مذهبي متطرف، وصل في اغلب الأوقات إلى دسائس وطعون ومؤامرات وكسر عظم، وتتصاعد حدة تلك الأحقاد والمؤامرات كلما انتعشت وقويت حركة الأخوان في جوار مناطق تمركز الحركة الوهابية ومقرها المتمثل بالجزيرة العربية وأيضا أفغانستان . ورغم علاقة اتفاق سياسي بين المملكة العربية السعودية وحركة حماس امتد لسنوات ليست بالقصيرة. فقد دب خلاف مستعر بين الطرفين، إثر عودة العلاقة بين النظام السوري وحركة حماس، وتلك الواقعة فسخت عرى علاقة سياسية كانت مبنية على أسس مناصرة الثورة السورية ضد حكم الرئيس بشار الأسد. ولكن صورة الرعب والتطير من حركة الإخوان المسلمين، طفحت إلى العلن حين فاز الرئيس محمد مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية عام 2012 والذي شكل فوزه بحد ذاته انتصارا لحركة الإخوان. وليجبر هذا الفوز المملكة العربية السعودية والأمارات العربية المتحدة، وهما الدولتان اللتان تتغلغل الحركة الوهابية في بناهما الاجتماعية والسياسية، وتدير بعض مفاصل مؤسساتهما السلطوية،ليكون حافزا لإعادة حساباتهما على وقع هذا الحدث ومواجهته بما يمنع استمراره وانتشاره. لذا سارع البلدان لفعل عمل سريع وحاسم لتغيير بوصلة الوقائع على الأرض المصرية، قبل استفحال سلطة الإخوان بوجود محمد مرسي. هذا العداء دائما ما شكل الملمح الرئيس لموقف السعودية والإمارات حيال حركة حماس وسلطتها الإخوانية في قطاع غزة، والتي أصبحت بمرور الوقت دولة بمؤسسات وسلطة قوية تحاكي باقي الدول، والأدهى ما في الأمر قربها من حدود البلدين وتواجدها المستمر في الساحة العربية والإسلامية وتحريكها لبعض الفصائل الراديكالية المعارضة لحكام الدولتين، يضاف لذلك علاقتها القوية بدولة الخصم قطر، ومن ثم روابطها السياسية مع إيران. وعلى ذات طبيعة العداء المذهبي ولأسباب سياسية تمتد لتاريخ طويل من المناكفات والصراع والقتل والترهيب المتبادل يمتد منذ ثورة يوليو بقيادة جمال عبد الناصر، بات موقف الحكم المصري معها واضحا ومعروفا تجاه تنظيم الإخوان. ودائما كان النظام المصري أشد عدوانية من بقية الحكومات تجاه حركة الإخوان بسبب عداءها المستفحل للسلطة ومحاولاتها الإطاحة بها. ومن دوافع هذا العداء أيضا قرب غزة من حدود مصر ووجود بعض الحركات الإسلامية الراديكالية المصرية التي تتخذ من سيناء موقعا لتحركاتها ضد السلطة، وادعاء الحكومة المصرية بأن هذه الفصائل المسلحة كانت تنال المساعدة من بعض فصائل فلسطينية متحالفة مع حماس، مثل الجهاد الإسلامي. أيضا هناك تحركات مسلحة ، وبتحريض من الإخوان المسلمين، لبعض العشائر القاطنة في سيناء وفي الجنوب المصري، وكذلك في مناطق الصحراء الغربية المجاورة لليبيا.وبسبب كل هذه التداعيات لوقائع حدودية وداخلية فإن مصر ما عادت تطيق وجود جمهورية غزة الإخوانية جوارها، ودائما ما كانت تنتظر بفارغ الصبر أن تظهر، يوما ما، قوة تطيح بسلطة حماس.
ــ عرف عن دولة قطر بأنها المقر الرئيس لجماعة الإخوان المسلمين حيث كان رجل الحركة الأول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي المصري الأصل القطري الجنسية يسكن العاصمة الدوحة ويقود منها سياسيا حركة الإخوان لحين وفاته. وأصبح الإخوان مع الإعلام الموجه لقناة الجزيرة، أشد أسباب الخصومة والقطيعة لقطر مع أغلب بلدان مجلس تعاون بلدان الخليج العربية ومصر.ومع تصاعد حدة الخلاف اندفعت قطر اتجاه إقامة علاقات بإيران نكاية بخصومها الخليجيين ومصر. وفي نفس الوقت باتت الممول الرئيسي والصوت الإعلامي لحركة حماس والجهاد الإسلامي. ولعب هذا الموقف الدور المؤثر في الموقف المضاد الذي اتخذته أغلب دول الخليج والسعودية ومصر من قطر ومن ثم حماس .
ولكن تطور العلاقة بين حماس والجمهورية الإسلامية الإيرانية وبالنموذج المتصاعد والفعال الذي ظهر عليه خلال العشر سنوات الماضية، وكأن هناك حلفا استراتيجيا بين الطرفين، موجه للخصوم القريبين، مع اندفاع إيران بتجهيز حماس بترسانة من الأسلحة الثقيلة والمؤثرة، لجعل غزة قاعدة متقدمة لإدارة معركة مفتوحة مع إسرائيل. ولذا وجراء ذلك اتهمت حماس بموالاة التشيع الإيراني، وتلك مثلت واحدة من الخطايا الكبرى التي لا تغتفر عند البعض، وفي مقدمتهم أصحاب المذهب الوهابي والسلفيين والمتصوفة وجميع خصوم المذهب الشيعي.
كل هذا وغيره من عوامل دولية وإقليمية تتشابك فيها العديد من المصالح والرؤى ما يعطي الانطباع بوجود صبغة دينية مذهبية طائفية سياسية في صلب معركة غزة، ويشي بالكثير عن مواقف الصمت أو الحياد الذي تتخذها العديد من الدول الإسلامية والعربية من ما تتعرض له غزة وحماس من تدمير وقتل وإبادة جماعية.