البلد الأعنف في العالم... بول أوستر يسرد سيرة السلاح في أميركا
22-آذار-2023
أحمد الشافعي
قبل أيام أعلنت الروائية الأميركية سيري هوستفيدت خبر إصابة زوجها الروائي بول أوستر بالسرطان، إذ قالت في رسالة عبر "إنستغرام" "إنني أعيش الآن في بلد أسميه كانسرلاند [بلاد السرطان]. كثير من الناس عبروا حدوده، إما لأن السرطان أصابهم، أو أصاب شخصاً يحبونه، قريباً أو ابناً أو زوجاً أو صديقاً".
أضافت أن "الحياة مع شخص مصاب بالسرطان، يقصفه العلاج الكيماوي والمناعي، مغامرة في القرب والانفصال، والسير على هذا الحبل المشدود ليس دائماً بالأمر اليسير".
مؤكداً أن وقع ذلك الخبر كان أليماً على قراء بول أوستر في شتى أرجاء العالم، لكن ما يجعل الوقع أشد على بعض المخلصين من قرائه هو أن أوستر لم يكن أبداً ذلك الكاتب الذي تحجبه أعماله الخيالية، أو الذي يترك الصدارة لشخصياته من دون نفسه الحقيقية، إذ توازى مع رواياته على مدار مسيرته فيض متصل من الأعمال السيرية وغير الخيالية، التي برع في كتابتها حتى باتت تضاهي الروايات، ما لم تبزها وتتجاوزها في نظر البعض.
وبهذه الأعمال السيرية، فضلاً عن الروايات، أصبح بول أوستر نفسه لدى قرائه شخصاً يعرفونه معرفة قديمة، منذ الندوب الباقية فيه من جراح طفولته، وعبر مباهج ومآسي تسكعه في شبابه مع الشعر الفرنسي، يترجمه ويحاول نشره وكتابته هو نفسه لشعر سوريالي ما، وعبر سنوات الكفاف التي ذاق فيها شظف العيش حتى قرر أن يكتب رواية بوليسية يكسب منها قرشين فكانت رائعته (ثلاثية نيويورك)، فضلاً عن معرفة القراء لاهتماماته الواسعة التي أثمرت مقالات ومحاضرات وحوارات ومقدمات كتبها لكتب آخرين، وكلها تحمل بصمة أوستر الفريدة ولغته الرشيقة وطرافته الذكية.
"أمة الدم"
أحدث ما صدر من هذه الكتب غير الخيالية، في يناير (كانون الثاني) الماضي كتاب "أمة الدم" تخففاً من "أمة حمام الدم"، وهو كتاب يطرح سؤالاً واحداً، ما الذي يجعل الولايات المتحدة أكثر بلاد العالم عنفاً؟".
في استعراضه للكتاب (غارديان-11 يناير 2023) يكتب غاري يانغ أستاذ علم الاجتماع في جامعة مانشستر أنه عند الكتابة عن الوفيات الناجمة عن استعمال السلاح كان دائماً يطرح على أهالي الضحايا سؤالاً واسعاً عن تصورهم للأسباب التي أدت إلى تلك المأساة فتنحو إجاباتهم عموماً إلى سوء التربية، أو حمل المراهقات، أو غياب الآباء، أو أي مما يصفه يانغ بإجابات "برامج التلفزيون" أما ما لا تقترب منه قط إجابات أهالي الضحايا فمسألة إتاحة السلاح.
يقول يانغ "إنني انتهيت، بعد اثني عشر عاماً في الولايات المتحدة، إلى أن كثيراً من الأميركيين يعدون الوفيات الناجمة عن استخدام الأسلحة النارية مثل الوفيات الناجمة عن حوادث المرور، أي عاقبة من عواقب الحياة اليومية لا يمكن اجتنابها".
يكتب يانغ أن "هذا الإحساس باليأس المترسخ ينسرب إلى الدولة، وأغلب من يموت من الأميركيين في حوادث إطلاق نار لا يموتون في حوادث إطلاق نار جماعي، وإن تكن هذه هي المشاهد الكبيرة التي تجذب الأنظار وتؤدي إلى الاحتجاجات وتثير المشرعين، ولكن كل واقعة من هذا النوع تتسبب في شعور فوري بحتمية القيام بعمل ما، ثم سرعان ما يغيب هذا الشعور وراء إحساس إلياس واليقين بأن شيئاً لن يتغير، لأن أقلية مؤثرة وجيدة التنظيم ترى أنه لا ينبغي تغيير شيء، وتستند إلى الدستور وكأنه كتاب مقدس في دولة ثيوقراطية [يتيح التعديل الثاني في الدستور الأميركي حرية امتلاك السلاح]. وهكذا يتحول الجدال الواجب حول السلامة والأمن إلى أقاويل مكررة، وتعبيرات حزن ورثاء تمثل عزاءً وطنياً دائماً لمجزرة الأبرياء الذين توطن في أنفس الأميركيين أنهم عاجزون عن إنقاذهم، بعضهم لأنهم أكثر انهزاماً مما ينبغي، وبعضهم لأنهم أكثر عناداً مما ينبغي".
دور السلاح
كتاب بول أوستر الجديد شبه سيري، شبه مقالي، يتأمل دور السلاح في التاريخ والمجتمع الأميركيين، وفي حياته هو الخاصة أيضاً، إذ ينبئنا عن تعرفه التدريجي على الأسلحة منذ ألعاب الطفولة إلى المسدسات التي جربها في المخيم الصيفي والبندقية ذات الفوهتين التي جربها في مزرعة صديق له، وينبئنا عن انضمامه إلى البحرية التجارية والتقائه بأشخاص من الجنوب الأميركي وعجبه من علاقتهم بالأسلحة النارية، وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً.
ونكتشف أيضاً أنه وإن خلا البيت الذي نشأ فيه أوستر من السلاح، فقد كان في تاريخ عائلته واقعة إطلاق رصاص مهمة، وإن تكن نادرة الذكر، إذ أطلقت جدته الرصاص على جده المنفصل عنها أمام ابنهما عم بول أوستر.
ينتهي بول أوستر من تفكيك علاقته الشخصية بالسلاح، أي علاقة الغربة أو الفتور أو النفور، ليتأمل السلاح في ذاته، ثم ينطلق إلى محاولة فهم أصوله في الأمة وأسبابه.
يكتب أوستر أن "علاقة أميركا بالبندقية أبعد ما تكون عن العقلانية، ومن ثم فإننا لم نبذل إلا أقل القليل لحل المشكلة إن كنا بذلنا أي جهد".
ويرى أن المشكلة غير جديدة وأن على الأمة أن تتعمق في الحفر لكي تكشف عن جذورها، "ومن أجل أن نفهم كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه، علينا أن نزيح أنفسنا من الحاضر ونرجع إلى البداية، إلى زمن ما قبل اختراع الولايات المتحدة".
ويصر أوستر أن الحل لا يتمثل في حظر تصنيع وبيع السلاح، لأن محاولة عمل ذلك ستكون غير عملية وغير فعالة بقدر ما كان حظر الكحول قبل عقود غير قليلة، فضلاً عن أن "ممتلكي الأسلحة في هذا البلد لن يؤيدوا الحظر".
ويرى أن معالجة هذه المشكلة، التي تنفرد بها الولايات المتحدة بين بلاد العالم المتقدم، تستوجب عملية أكثر شمولاً واستبطاناً ولا تبدأ بالتشريع، يقول إن "السلام لن يتحقق إلا إذا أراده الطرفان، ومن أجل أن يحدث ذلك، يجب أولاً أن نجري بحثاً أميناً وعميقاً واصلاً حتى الأحشاء عمن نكون، وعما نريد أن نكون، باعتبارنا شعباً يتقدم تجاه المستقبل، وذلك يستوجب بالضرورة بحثاً أميناً وعميقاً واصلاً حتى الأحشاء عما درجنا على أن نكون إياه في الماضي".
دافع أنت عن نفسك
يكتب غاري يانغ عما يضع البندقية في المركز من أعز الأساطير على نفس الأمة الأميركية، فيقول إن "البندقية دليل الاعتماد على الذات، وعلى صغر الحكومة. دافع أنت عن نفسك، لا تترك هذا للدولة التي لا تستطيع الدفاع عنك وقد تسعى إلى قهرك. والبندقية دليل الذكورية والملكية، فالرجال الحقيقيون هم الذين يحمون أسرهم وأملاكهم بأي وسيلة تلزمهم".
وهذه الحجج "إما كريهة أو تافهة، أو كريهة وتافهة معاً، فأغلب من يموتون بالرصاص يموتون بإطلاقه على أنفسهم، ومن يمتلك سلاحاً يكون موته بالرصاص أرجح ممن لا يمتلك سلاحاً ويكون موته هذا في أغلب الحالات على يد شخص يعرفه، وباختصار، إذا كانت الأسلحة النارية تزيد الأمن لكانت أميركا أكثر الأماكن أمناً على وجه الأرض، وهي ليست كذلك. وبحسب مراكز السيطرة على الأمراض، في عام 2013 كان سبعة أطفال يموتون بالرصاص كل يوم، وفي 2020، وهو آخر عام تتوافر إحصاءاته، بلغ الرقم 12. وعلى رغم أهمية المعلومات وحجج الإصلاح، فهي تخسر أمام الأساطير"، إذ تتراجع حجج مناصري تقييد امتلاك الأسلحة أمام تذرع (الاتحاد الوطني للسلاح) بحجتي الحرية والدستور. وعلى رغم أن استطلاعات الرأي تبين باستمرار أن أغلب الأميركيين يناصرون فرض قوانين أكثر صرامة على الأسلحة، لكنهم يخسرون المعركة، ففي كل مرة يقدم فيها تشريع بهذا المعنى إلى الكونغرس فإنه يفشل في تجاوزه.
يحكي بول أوستر أنه في عام 1970، أي حينما كان في الثالثة والعشرين، عمل على ناقلة نفط بحاراً تجارياً، و"على متن تلك السفينة، احتككت للمرة الأولى برجال نشأوا وسط الأسلحة، وقضوا حياتهم على اتصال حميمي بها"، "كنا ثلاثة وثلاثين بحاراً من الجنوب، كلهم تقريباً من لويزيانا وبلدات عديدة على ساحل تكساس، ومن أولئك الرفاق يقفز اثنان أمام عيني الآن، لا لأنهما كانا صديقين مقربين بصفة خاصة، لكن لأن كل واحد منهما، بطريقته المختلفة أتم الاختلاف، كان حاسماً في زيادتي علماً بالأسلحة".
يحكي أوستر أن أحد هذين الاثنين يدعى لامار، وكانت في بياض عينه اليسرى بقعة دموية. كان لامار مساعد عامل تزييت في غرفة المحركات في السفينة، وكان في مثل سن أوستر "وكوني من الشمال، وخريج جامعة، وقد نشرت بضع قصائد في مجلات، لم يجعله ينظر لي بارتياب" فكانا يقضيان وقت فراغهما معاً "قبلني مثلما كنت، وقبلته مثلما كان، وتوافقنا، لا بوصفنا صديقين بالضبط، وإنما كزميلي عمل"، فلم يشعر أوستر أنه يتجاوز حدوده بسؤاله عن التجمع الدموي الشنيع في عينه.
"أوضح لامار في هدوء أنه ناجم عن قيامه هو وجمع من الناس بالوقوف على رصيف وإلقاء الزجاجات على مسيرة احتجاجية بقيادة مارتن لوثر كينج، وطارت شظية من زجاجة فأصابت عينه".
العنصرية ضد السود
يحكي أوستر أن لامار حتى ذلك الحين لم يكن قد نطق كلمة تنم عن عنصرية ضد السود، فلما سأله لماذا شارك في هذا الفعل الغبي الشنيع "هز كتفية وقال إنه بدا له أمراً طريفاً".
ويضيف أوستر "كنا واقفين على متن السفينة ذات أصيل نراقب سرب نوارس يحلق أعلى السفينة حين حكى لي لامار عن أمر طريف آخر كان يحلو له القيام به في ليالي السبت إذا ما شعر بالملل، وذلك أنه كان يأخذ مسدسه وحفنة من الذخيرة، ويتخذ موضعاً أعلى جسر فوق الطريق السريع العابر بين الولايات، ويطلق الرصاص على السيارات. ابتسم وهو يتذكر بينما كنت أحاول أن أستوعب ما يحكي لي، وأخيراً قلت لا بد أنك تمزح، قال إطلاقاً، كان يفعل ذلك فعلاً، وحين سألته علام كان يصوب، على السائقين أم الركاب أم خزانات الوقود أم الإطارات، قال في غموض إنه كان يطلق باتجاه السيارات عموماً. سألته، وإن قتل شخصاً، ما الذي كان ليفعله؟ فجاءت الإجابة هزة أخرى من كتفي لامار، ثم قوله المقتضب اللامبالي شبه الفارغ "من يدري؟"".
نأى أوستر بنفسه عن لامار بعد ذلك لنحو عشرة أيام، إلى أن جاءه الأخير يودعه بعد طرده من العمل، لأن أداءه لم يرق لكبير المهندسين. "وكان من قبل قد حكى لي أنه خاض دورة تدريبية صارمة واجتاز امتحاناً كتابياً ليتأهل للعمل، لكن تبين أنه اجتاز الامتحان بالغش". وقال كبير المهندسين لأوستر إن "الوغد التافه كان يمكن أن يفجر الناقلة وكل حي على متنها".
يعلق أوستر على واقعة لامار بقوله "ضع سلاحاً في يد مجنون، فيمكن إذاً أن يقع أي شيء، كلنا نعلم ذلك، لكن حينما يكون ذلك المجنون في ظاهر الأمر شخصاً عادياً، لا يحركه غضب عارم، ولا يحمل ضغينة تجاه العالم، فماذا يكون رأينا، وما الذي يفترض أن نفعله؟ في حدود علمي لم يطرح أحد قط إجابة شافية لهذا السؤال".
أمور تحدث كل ليلة
أما حكاية البحار الثاني التي يحكيها أوستر فبطلها يدعى بيلي، وبيلي ليس عنصرياً مجنوناً مثل لامار، يحكي أوستر أن بيلي أجرى اتصالاً من ميناء بأهله، وطالت المكالمة، ولما رجع حكى أن أخاه تعرض للاعتقال لإطلاقه الرصاص على شخص في حانة. "لم يحك أكثر من ذلك. لم ينطق كلمة عن سبب إطلاق أخيه الرصاص على شخص، أو كلمة عما إن كان الشخص حياً أم ميتاً، وإن كان حياً أهو مصاب إصابة خطيرة أم لا. ليس أكثر من أساس القصة: شقيق أطلق الرصاص على شخص، وهو في السجن بسبب ذلك".
"لا يمكنني إلا التكهن" يقول أوستر "لو أن هذا الشقيق يشبه بيلي، فهو طيب الطبع، متزن، إنسان عادي لا يشبه لامار، فلا بد أن إطلاق الرصاص كان نتيجة شجار، ربما مع صديق قديم، وربما مع غريب، وآثار الكحول المربكة لعبت دوراً حاسماً في القصة".
يكتب أوستر أن "مثل هذه الأمور يحدث كل ليلة في الحانات والمقاهي في شتى أرجاء العالم، ولكن الأنوف النازفة والأفواه المتألمة التي تنجم عن هذه النزاعات في كندا أو النرويج أو فرنسا، كثيراً ما تتحول إلى جراح غائرة بسبب الرصاص في الولايات المتحدة، والأرقام صارخة ودالة، فالأميركيون عرضة لإطلاق الرصاص أكثر بخمس وعشرين مرة من أمثالهم في البلاد الثرية الأخرى التي توصف بالمتقدمة، وفي ظل أن عدد سكان أميركا يقل عن نصف عدد سكان هذه البلاد مجتمعة، فإن 82 في المئة من الميتات الناجمة عن إطلاق الرصاص يقع في الولايات المتحدة، وفي ظل هذا الفرق الهائل والصادم وغير المتناسب مع عدد السكان، لا يملك المرء فإن يسأل لماذا. لماذا أميركا مختلفة إلى هذا الحد، وما الذي يجعلنا أعنف بلد في العالم الغربي؟".
لم يغامر أوستر بإجابة هذا السؤال، وهو ما يأخذه عليه غاري يانغ، وبدلاً من الإجابة "يمضي بنا في رحلة عبر التعديل الثاني، والعبودية، والإبادة الجماعية لسكان أميركا الأصليين، وفيتنام، والفهود السود، وحركة (حياة السود مهمة)، ودونالد ترمب، وعولمة النيوليبرالية، وأكثر من ذلك كثيراً، وتلك مساحة واسعة في كتاب صغير كهذا، بل لعلها أوسع مما يمكن تغطيته".
قد يكون يانغ محقاً في أن هذه الجولة تترك القارئ في مثل تيهه الذي بدأ به، لكن هذا على الأرجح إسهام أوستر في "البحث الواصل حتى الأحشاء في ماضيها" بغية معرفة أسباب المشكلة الحقيقية أملاً في علاجها.
ترى أيكون من المبالغة ربط هذا التعلق بالسلاح بتصور الأميركي لنفسه؟ تراه يمثل جزءاً من الصورة الوطنية، أو ملمحاً من الهوية؟ فلعل الأميركي لا يرى نفسه مزارعاً يحمل فأساً، أو صياداً يحمل شبكة، أو تاجراً يخوض بحار الدنيا ببضاعته، أو غير ذلك مما يسود من تصورات الشعوب عن أنفسها، لكنه لم يزل في عين نفسه مغامراً رائداً مستكشفاً، أو بعبارة أخرى، غازياً لا يطأ بقدميه إلا أرضاً سبقته إليها طلقاته، فيكون السلاح الشخصي هو الأثر الباقي لتلك البطولة الغابرة في نظر الأميركي، وهو في نظر آخرين الدليل الباقي على الجريمة القديمة المقترفة قبل قرون في حق أهل القارة الأصليين.