مسلم عباس
الزمن ليس مستقلاً بذاته، بل يخضع للمعايير الاجتماعية والقياسات السياسية والعسكرية، وما يعد زمناً طويلاً بالنسبة لمجتمع معين، قد لا يكون كذلك بالنسبة لمجتمع آخر، وما يعد امتداداً قد يعتبر قطيعة، ببساطة الزمن سائل، متناقض، مستمر ومنقطع، قابل للتحنيط ومتواصل لأطول فترة ممكنة، يصنعه الإنسان بالطريقة التي يريد، ولا يخضع لمعيار واحد، إنه خاضع للتفسير الإنساني، ومن الزمن تنشأ الحلول أو المشكلات. البداية والنهاية من أكثر الأشياء اختلافاً بين البشر، لنأخذ الزمن في إطار الحياة اليومية، فمتى يبدأ الصباح؟ ومتى يبدأ الغروب، لا أعتقد أن الإجابة بسيطة، فالصباح ليس بزوغ الشمس، لأن هذا هو الزمن المجرد وهو متساوٍ بين جميع الكائنات على الأرض، ما يهمنا هو الزمن المرتبط بالإنسان، أي بالفعل الإنساني وما يترتب على أفعاله تحريك لعجلة التاريخ.
وإذا اتفقت معي على أن الصباح هو ليس بزوغ الشمس المجرد، هذا يعني أنه ما يرتبط بالصباح به من فعل إنساني، على سبيل المثال لا يهمنا بزوغ الشمس يوم السابع من تشرين الأول 2022، رغم أنه بزوغ للشمس من حيث عملية دوران الأرض يشبه تماماً يوم السابع من أكتوبر تشرين الأول بعد عام كامل تماماً أي يوم السبت عام 2023، لأن أكتوبر الأول لم يحدث فيه أي اقتحام عسكري لمستوطنات غلاف غزة الفلسطينية، بينما وقع هذا الأمر عام 2023. ارتبط الزمن الأول أي اكتوبر 2022 بحركة الشمس، والشمس مستقلة ولا يختلف عليها البشر، لذلك لا يمكن اعتبار الزمن غير المختلف عليه زمناً بالمعنى الاجتماعي والسياسي، الزمن هو الصراع، وهو الحرب، وهو الانتصار أو الهزيمة، أو الإبادة الجماعية إذا كان الحديث عن الشعب الفلسطيني. الزمن هو نقطة الارتكاز لما بعدها، حيث يتم تحنيط اللحظات المؤثر على حياة البشر وبناء المزارات والمراقد الخيالية حولها، وجعلها نقطة مرجعية لكل شيء بعدها، بانتظار أن تأتي لحظة جديدة تمحو أو تقلل من قيمة اللحظة السابقة.
كل حالة انتقال غير اعتيادية من مرحلة إلى أخرى تمثل الزمن في رحلته من التحنيط إلى عملية إلغاء التحنيط وبداية عملية تحنيط جديدة، ولا يمكن للتحول أن يكون سهلاً وبلا ضريبة، فضريبة التحول من عالم الليل إلى عالم النهار أي بزوغ الشمس هي خسارة فترة الراحة والنوم التي يستمتع بها الإنسان النائم، وبعض الصباحات ضريبتها اقتحام مسلحي حركة حماس الفلسطينية للإسرائيليين الذين استيقظوا طوال الليل وناموا عند بزوغ الشمس، فكانت خسارتهم باهظة الثمن، بمقتل أكثر من 1400 إسرائيلي نتيجة هجوم المقاومين الفلسطينيين، وأسر أكثر من 200 شخص، فضلاً عن السيطرة على عدد من المستوطنات المحيطة بقطاع غزة. هذا الصباح تم تحنيطه بالكامل، لقد توقفت إسرائيل عنده وجعلت هذا اليوم مثل الجثة التي ترفعها على الأكتاف ليراها العالم كل يوم، كل برنامج سياسي يبدأ بسؤال واحد للضيف: هل تستنكر ما حدث يوم السابع من أكتوبر؟ يصعب على الضيف أن يقول إنه لا يعرف ماذا حدث لأن رائحة ذلك اليوم تفوح في كل نشرة أخبار وفاصل إعلاني، ومنشور عبر مواقع التواصل، ومؤتمر صحفي.
السابع من أكتوبر هو الإسم المرادف لاقتحام حماس لمستوطنات غلاف غزة، وكل ما يرتبط به من إدانات إسرائيلية وغربية، وأريد له أن يعاد مرة اخرى، ليس بتكرار الفعل، بل بتكرار إدانة الفعل، فقد عملت وسائل الإعلام الغربية ولا سيما الأميركية على تحويل صباح السابع من أكتوبر إلى مومياء بكل تفاصيلها تمحو ما قبلها وما بعدها. هذه المومياء الجديدة تمحو جميع جرائم الإبادة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين منذعام 1948 وحتى يوم السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023، لذلك من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها بحسب السردية الغربية القبيحة، والحق هذا يمحو كل جريمة لاحقة، ليتحقق الهدف من تحنيط السابع من أكتوبر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. الغرب ووكلائهم الإسرائيليين لم يحتلوا الأرض فقط، فهذه العملية معروفة ومكشوفة للجميع، ما يهمهم هو احتلال التاريخ، وقتل الزمن المرتبط بفلسطين، وصناعة زمن جديد، هم لا يريدون ذكر زمن ما قبل 1948، فهو جزء من ثلاثية الجسد الفلسطيني "الأرض المسلوبة والمواطن المشرد والزمن الذي يدين إسرائيل".
وقيمة الزمن الفلسطيني أنه بلا تحولات، أي ممتد إلى تاريخ عتيق حتى وصل إلى مرحلة الثبات يشبه بزوغ شمس الصباح وغروبها، أنه حقيقة لا تقبل النقاش، وهذا ما يجعل التفكير فيه وتحليله عملية غير محمودة العواقب في حال طرحها من خلال وسائل الإعلام الغربية.
وجدت إسرائيل وحلفائها الحل بمومياء جديدة اسمها السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023، ولنحذر أشد الحذر مما يراد أن يرتكب من جرائم باسم هذه المومياء الشريرة، بعض المجازر ارتكبت وراح ضحيتها ما يقرب من سبعة آلاف إنسان فلسطيني، نصفهم أطفال، والباقي نساء وشيوخ.