الجوهر القيمي لثورة الحسين
17-تموز-2023
محمد عبد الجبار الشبوط
(٢)
تجلى الجوهر القيمي للثورة الحسينية في موقف الامام الحسين من البيعة ليزيد خلفا لابيه وخليفة للمسلمين. قالها بكلمة صغيرة موجزة:"ومثلي لا يبايع مثله". ليست هذه مقارنة شخصية، وانما مقارنة بين مثالين: مثال الامام الحسين وما يمثله من قيم ايجابية، ومثال يزيد وما يمثله من "قيم سلبية". انها نفس المقارنة القيمية التي كانت قائمة بين اب هذا واب ذاك، بين علي ومعاوية. فهذا يمثل القيم الاسلامية بكل سموها وعلوها ورفعتها، وذاك يمثل "القيم الجاهلية" بكل تفاهتها وانحطاطها وسقوطها وتخلفها، دون ان انسى القول المنسوب الى علي:"انزلني الدهر حتى قيل علي ومعاوية". علي الذي جعله النبي امام الدين والدنيا، ونصبه المسلمون خليفة لهم. ما كان لمعاوية سليل المؤلفة قلوبهم ان يذكر اسمه بموازاة اسم علي. و ما كان للقيم التي يمثلها الحسين ان تأتلف مع القيم التي يمثلها يزيد. فالتضارب بينهما حتمي، كما كان الائتلاف بين علي ومعاوية مستحيلا.
كان طلب البيعة من الحسين ليزيد هو الشرارة التي اشعلت نار الثورة الحسينية، يوم رفض البيعة معلنا كلمته الخالدة:" ومثلي لا يبايع مثله". ومنها انفتح الباب امام البرنامج الاصلاحي للامام الحسين وهو يكتب لاخيه من ابيه محمد بن الحنفية:"وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابي طالب."(كتاب البحار) انه الاصلاح في الامة الاسلامية اذاً. وهو اصلاح سياسي في شقه الظاهر، لكنه اصلاح حضاري شامل في بعده الاعمق، ردا على الانحرافات الجذرية التي حدثت على الاقل منذ تولى معاوية ولاية الأردن في الشام في عام ٢١ هجرية في عهد عمر بن الخطاب. وبعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان من طاعون عمواس، ولاه عمر بن الخطاب ولاية دمشق وما يتبع لها من البلاد، ثم جمع له الخليفة عثمان بن عفان على ولاية الشام كلها، فكان من ولاة أمصارها، ثم تولى الخلافة بعد ما يسمى "صلح الحسن"، ليحولها الى ملك وراثي عضوض، كما في حديث حذيفة بن اليمان عن الرسول محمد (ص)، قبل وفاته في عام ٦٠ هجرية. قال ابن الأثير في "النهاية": "ثم يكون ملك عضوض" أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضا. وهذا ما حصل في عهد معاوية وابنه يزيد. وكان من الانحرافات الكبرى جعل السياسي من سلوك الخلفاء دينا، و التفاوت الطبقي في المجتمع الاسلامي الجديد، والغاء الشورى، وقبل ذلك واخطره تولي السلطة (الخلافة) من قبل اشخاص غير جديرين بالمنصب.
على المستوى الشخصي لم يكن الامام الحسين بحاجة الى الثورة، لا ماليا ولا سياسيا ولا وجاهيا. فقد كان امام العصر قام او قعد، وكان سيد شباب اهل الجنة، وكان من اكبر مثقفي زمانه بل اعلمهم، وكان وجيها في المجتمع، وكان سيد اهله وقومه، لكنه كان مسؤولا مسؤولية ذاتية عن مجتمعه الذي هو "امة جده". وكانت هذه المسؤولية تحتم عليه الثورة، وهو يرى ويتألم لهذا الانحدار السريع للقيم الحاكمة في المجتمع الاسلامي وخاصة على المستوى السياسي (الخلافة) فضلا عن المظالم التي كان يعاني منها اهل العراق، فكان عليه ان يعقد العزم على اعلان الثورة والمضي قدما فيها بغض النظر عن الحسابات العسكرية الميدانية التي كانت تشي باستحالة تحقيق نصر عسكري.
لهذا كان هدف الامام الحسين ان تنتصر ثورته قيميا اكثر من حرصه على ان تنتصر عسكريا في مواجهة كان الخلل في معادلتها العسكرية شديد الوضوح. وهذا ما كان وحصل بدليل اننا مازلنا نعيش الى اليوم المعاني القيمية للثورة. لكنه رأى، وهو صاحب النظر الصائب، ان الثورة سوف تنتصر بالحسابات القيمية، حيث ستتمكن الثورة من اعادة نسج المنظومة القيمية التي تمزقت، واعادة الاعتبار الى القيم الاسلامية التي سحقها معاوية بقدميه، كما عبر بنفسه عن ذلك. اثبت الزمان ان حسابات الحسين كانت صحيحة. فها نحن نسمع صرخات الملايين بعد اكثر من ١٤٠٠ سنة وهي تنادي "لبيك يا حسين"؛ فيما طوى الزمان صفحة قاتلي الحسين وفي مقدمتهم يزيد بن معاوية، والقى بهم في مزبلة التاريخ ووادي النسيان.