الخدمات المصرفية الإسلامية والانتقال إلى نموذج إقراض أخلاقي ومستدام
17-تموز-2023
إبراهيم علي المهيري*
يمثل ظهور التمويل المستدام بجميع أشكاله نقلة نوعيّة في الموقف تجاه المزيد من الاستقرار والمرونة وتحقيق عائدات طويلة الأجل، ومع ذلك، فإنه يترافق مع مجموعة من التحديات التي تحتاج إلى فهم أفضل من المقرضين ومعالجة مباشرة إذا أرادوا تقديم قيمة أخلاقية حقيقية للمساهمين.
نشهد اليوم تسارعاً محموماً في نمو قطاع التمويل المتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية في جميع الدول التي تحتضن أغلبية سكانية مسلمة، وحتى في بعض أكبر المجتمعات المتقدمة غير الإسلامية في العالم، ومن اللافت للانتباه أن حجم هذا النمو كبير جداً، حيث يشير تقرير «ستداندرد آند بورز» للتمويل الإسلامي العالمي لعام 2022 إلى أن معدل نمو التمويل الإسلامي سيتراوح بين 10 و12 في المئة خلال العامين المقبلين، ويأتي هذا بالتوازي مع تزايد شعبية معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية لدى المؤسسات العاملة في هذا القطاع، ما يشير إلى وجود تحول عالمي كبير نحو الاستثمار المسؤول الذي يستند إلى حجم التأثير المُمكن إحداثه.
إلا أننا نلحظ تحديات أمام ممارسات الإقراض المستدام غير الإسلامية، فالعاملان الرئيسيان اللذان يمثلان شاغلين أساسيين على هذا الصعيد، هما تقييم مخاطر الائتمان، وكيفية مراقبة استخدام الأموال، وفي حين يتم حل مثل هذه القضايا بطبيعتها من خلال مبادئ التمويل الشرعي، إلا أن في الدول غير الإسلامية، يتعين على صانعي السياسات وضع لوائح تفرض الالتزام بممارسات مسؤولة اجتماعياً وبيئياً، تركز على أصحاب المصلحة المتعددين وتتمتع بمستويات استدامة أعلى. وفي حين أن لدى جميع المؤسسات المالية، بما في ذلك الإسلامية، واجباً قانونياً لتلبية المتطلبات التنظيمية، فإن التمويل المتوافق مع الشريعة لا يتطلب في حد ذاته تدخلات سياسية وتنظيمية؛ لأن التركيز الأساسي للخدمات المصرفية الإسلامية ينصبُّ على إحداث تأثير اجتماعي، وتُعدُّ أزمة المناخ مثالاً جيداً في هذا السياق.
كما أن التمويل الإسلامي هو استراتيجية استثمارية قائمة على المبادئ، وهو يستخدم معايير رفيعة، كتحقيق منافع مشتركة، والاعتماد على الأصول الأساسية الفعلية، وتجنب المعاملات المالية التي تستند نتيجتها إلى عدم اليقين، فضلاً عن المساءلة والشفافية وتقييد بعض المنتجات والخدمات، وهي بذلك استراتيجية تهدف إلى ضمان، ليس فقط الامتثال للقيم الإسلامية الراسخة، بل أيضاً استقرار الاستثمار واستدامته.
وفضلاً عن تلبية حاجة العملاء للتمويل المتوافق مع الشريعة الإسلامية، فإن بعض عناصر التمويل الإسلامي، كالزكاة والأوقاف، تتضمن تركيزاً متزايداً على أنشطة تتعلق بالمسؤولية الاجتماعية المؤسسية، وهي تنطوي على وعيٍ أكبر بالمخاطر المرتبطة بتغير المناخ والكوارث المناخية، الأمر الذي يوفر أرضية مهمة لدعم أجندة تعافٍ خضراء وشاملة ومرنة في البلدان الأكثر تأثراً بتغير المناخ.
وتأتي هذه القضايا المُلحّة على رأس جدول أعمال هذا العام، حيث تستضيف دولة الإمارات العربية المتحدة مؤتمر الأطراف COP28، ما يوفر لمقدمي التمويل الإسلامي في الدولة فرصة مهمة للترويج للتمويل الأخضر والمفاهيم المبتكرة الأخرى مثل «تمويل الخسائر والأضرار»، وتعتبر معالجة الخسائر والأضرار ركيزة أساسية للعمل المناخي، وتقوم على مساعدة الناس بعد تعرضهم للخسائر ومعالجة الأضرار المرتبطة بالمناخ. ويمكن أن تساعد الخدمات المصرفية الإسلامية في تطوير صناديق للخسائر والأضرار من دول متقدمة، قد تشمل التعامل مع شركات ذات حضور عالمي كبير، ولديها في الوقت نفسه نشاط مهم في الأسواق التي تستحوذ على حصة سوقية جيدة ومتنامية من التمويل الإسلامي.
قيمنا المشتركة
وفي حين أنه من الواضح أن القيم الأساسية للتمويل المتوافق مع الشريعة الإسلامية توفر لهذا النوع من التمويل أفضلية على الخدمات المصرفية التقليدية، فإن كلا النوعين في الحقيقة لديهما الكثير من القواسم المشتركة، ويعد تجنب القطاعات المحظورة أو ما يُسمى (الحرام)، مفهوماً أساسياً للاستثمار الإسلامي، إلا أن هذا النهج أصبح الآن جزءاً جوهرياً من العديد من أدوات الاستثمار المستدام غير الإسلامية، وتعمل السلطات التنظيمية الآن على تعزيز أجندة التمويل المستدام، كما يتطلع العديد من المستثمرين العالميين إلى تأمين الاستقرار والمرونة في عالم تسوده حالة كبيرة من عدم الاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي.
ويدرك المستثمرون من كلا الجانبين أيضاً أن هناك قيمة متأصّلة في الاستثمار في الصناديق والقطاعات التي تنطوي على تأثير معيّن على أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وتتماشى هذه القطاعات مع المبادئ الدينية للتمويل الإسلامي، والتي تدفع باتجاه مراعاة البيئة، والتوزيع العادل للثروة، وتكافؤ الفرص، وتقليل الأضرار، وتسهم هذه النقاط أيضاً في تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة وشمولية، وهذه الأمور في غاية الأهمية لتحقيق عائدات مستدامة طويلة الأجل.
وتتمتع الخدمات المصرفية الإسلامية عبر زيادة مساهمتها في مجموعات الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، بالقدرة على ترسيخ مكانتها كخيار تمويل قابل للتطبيق ومناسب من الناحية الأخلاقية، الأمر الذي يمكن أن يقود إليه التشجيع والترويج للاكتتاب الإيجابي للقطاع الإسلامي، وإطلاق مبادرات قائمة على الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. ويتمتع التمويل المستدام بتركيز مماثل على الحد من المخاطر على المدى الطويل، ومجموعة متنوعة من قياسات التأثير المصممة لمنع الضرر.
أصبحنا نلمس أن ممارسات التمويل المستدام غير الإسلامية في ما يُسمى -اصطلاحاً- دول الشمال، آخذة بشكل متزايد في التوجه لتكون ممارسات شاملة فيما يتعلق بتركيزها على التأثير، وتضمين نتائج بيئية لرصد وتقييد انبعاثات الكربون، والحد من التلوث وتعزيز التنوع البيولوجي وتقليل النفايات، فضلاً عن تحقيق نقاط اجتماعية، كالتنوع بين الجنسين، وضمان حقوق الإنسان ومعايير العمالة، وعلى غرار التمويل الإسلامي، فإن عنصر الحوكمة في التمويل المستدام يشمل الإشراف والمساءلة وتقديم المكافآت وإجراء ضغط سياسي.
وبما أن الاستثمار في الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية يأخذ زمام المبادرة منطلقاً من مبادئ التمويل الإسلامي، فإنه قادر على بناء استراتيجيات فعّالة للغاية لإحداث تغيير إيجابي ودائم في مختلف الاقتصادات والمجتمعات وقطاعات الصناعة، وعلاوة على ذلك، فإن التمويل المستدام يمضي الآن على المسار الصحيح ليصبح طريقة فعلية لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة ومتنوعة وشمولية، توفر عائدات مستقرة طويلة الأجل للمستثمرين.
• نائب الرئيس التنفيذي ورئيس الخدمات المصرفية الإسلامية في «المشرق».